دراسات إسلامية
بقلم : أ. د. محمد فتحي فرج بيومي
يتحرَّق المسلم المعاصر ويذوب كمدًا وأسى لواقعه المؤلم وأزمته الحضارية الطاحنة في هذه الأيام وهو نفسه من أهم أسبابها. فلقد أصبحنا نُحارب لأعدائنا معاركَهم ونسعى لتحقيق أهدافِهم بمبرِّرات ممسوخة ومُسوِّغات شوهاء على حساب ماضينا وحاضرنا؛ بل وعلى حساب المستقبل الذي هو ملك لأبنائنا والمفترض أننا أمناء عليه. وكما تعرض العرب والمسلمون لمسلسل من الهجمات والانتكاسات تتعرض لغتُهم أيضًا لما يشبه إلا أن أكثر ما يؤلمنا في هذه الحالة أن يأتي الهجومُ هذه المرة من داخلنا، ولا أجد ما أقوله مما يتناسب مع هذا التردي إلاّ قول زعيم الأمناء. والمرحوم. الأستاذ أمين الخولي مما جاء في كتابه “فن القول” وكأني به لايزال بين ظهرانينا يشهد ما نحن فيه من مآس ومِحَن حيث قال: وإذا لم تكن اللغة عند أهلها أنفسهم في منزلة كريمة فما مكانُها في الدنيا بعد ذلك وما منزلتها في الوجود وراء هذا؟ وليس بدعًا أن نعشر بالصلة الوثيقة والعلاقة القريبة جد القرابة بين وجودنا السياسي وحياتنا اللغوية وبين كياننا العالمي ووجودنا اللساني وبين كرامتنا الدولية ومكانتنا الأدبية. فتلك كلها. في نظر الاجتماعي. وشائج متواصلة وأواصر متداخلة لايعشر بينها بانفصال ولا يجد تباعدًا. ونحن لانعيش إلا بكرامتنا الاجتماعية ولا نستيطع أن نعيش بغيرها(1).
فاللغة هي مستودع التراث ووعاء الفكر، وهي ظاهرة إنسانية اجتماعية تُعْرَفُ بها الملامحُ المُميِّزة لكل مجتمع في كل عصر من عصور التاريخ؛ فهي كما يقول ابن جني في كتابه “الخصائص”: أصواتٌ يُعبِّر بها كلُ قوم عن أغراضهم. على أن اللغة العربية لها خصوصية تتمَتّع بها دون سائر اللغات الأخرى تستمدها من كونها لغة القرآن الكريم الذي لايزال عاملاً في ضمير المسلمين على تأكيد أن العربية جزء من الحقيقة الإسلامية، وهي أيضًا إحدى دعائم عروبتنا الأساسية إن لم تكن أهمَّها على الإطلاق. وهذا الارتباط بين اللغة والعقيطة والهُوِّية سمة تفرَّدتْ بها اللغةُ العربية مِمَّا جعلها محل استهداف أعداء الإسلام الذين يرمون إلى تقويض العقيدة في النفوس بإعمال معاولهم لهدم اللغة العربية لكونها سياج هوية الأمة الذي يُوجَد بين عواطف العرب ومشاعرهم في الأفراج والأتراح فتؤلِّف بين أسلوب تفكيرهم وآدابهم وسلوكهم .
من الشعوبيين إلى المستشرقين
واللغة العربية دون غيرها من سائر اللغات تتعرض بين الحين والحين للأسباب التي أشرنا إليها آنفًا – إلى حملات التشويه والتدمير سواء من غير العرب من المتسشرقين الأوربيين أو ممن يسيرون في فلكهم من الناطقين بلغة الضاد، مثلما تعرَّضت قديمًا لمن يعرفون بالشعوبيين. فهي إذن حملة قدمية جديدة تستهدف في الأساس معتقداتنا وتراثنا وماضينا؛ بل ومستقبلنا لما لهذه اللغة. على وجه الخصوص – من الارتباط بالدين. ومن ثم فهي مرتبطة بهوية المسلم وتشكيل عقله ووجدانه وثقافته بوجه عام. وقد وقف الشعوبيون القدماء موقف العداء من لغة القرآن فتصدّى لهم علماءُ العربية الواقفون على أسرارها في ذلك الوقت ومنهم ابن قتيبة الدينوري (213-276هـ) القائل: “وقد اعترض على كتاب الله بالطعن مُلحدون ولغوا فيه وهجروا واتبعوا ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله بأفهام كليلة وأبصار علية ونظر مدخول فحَرّفوا الكلام عن مواضعه وعَدّلوه عن سبله ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة في اللحن وفساد النظم والاختلاف، وأدلوا في ذلك بِعُلِلَ ربما أمالت الضعيفَ الغمر والحدث الغر، واعترضت بالشبه في القلوب وقدحت بالشكوك في الصدور.. فأحببت أن أنضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النيرة والبراهين البينة وأكشف للناس ما يُلبسون(2).
وقد مُنِيت العربيةُ الفُصحى كما يقول الدكتور رمضان عبد التواب في العصر الحديث بخصوم حاقدين وأعداءٍ ألدّاء من الشعوبيّين الجُدَد من أمثال المستشرق الألماني “تيودور نولدكه” وغيره وليست تلك الهجمة الضارية إلاّ جُزءًا من الهجوم على الدين الإسلامي الحنيف. لما فطن له أعداء هذا الدين من الارتباط الوثيق بينه وبين اللغة العربية الفصحى؛ ومن قبله كانت دعوةُ المستشرق الألماني “ولهلم سبيتا” إلى التحول من الفصحى إلى العامية وقد وضع كتابًا أسماه: “قواعد اللغة العربية في مصر” وكذلك المستشرق الإنجليزي “وليم ويلكوكس” الذي كان يعمل مُهندسًا للرى في مصر. أمّا المستشرق المشهور “ماسينيو” فكان يدعو إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وكان يدعو أيضًا إلى اللهجات العامية. وفي يقينهم أنهم إن أزالوا الفصحى عن مكانتها الراخسة في القلوب منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان فقد أزالوا الحصنَ الأكبرَ من حصون هذا الدين الحنيف(3)، ويغيب عنهم أن الله تبارك وتغعالى هو الذي تكفّل بحفظها حين تكفل بحفظ القرآن في قوله تعالى من سورة الحجر في الآية التاسعة ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ﴾ ورغم ذلك لم تهدأ المحاولات الجادّة الحاقدة التي استهدفت اللغة العربية والعمل الحثيث نحو إحلال اللهجات العامية محلها أملاً في اقتراب اللغة العربية من نهايتها في المستقبل القريب كغيرها من اللغات القديمة التي اندثرت أو بقيت آثارُها البسيطة كاللاتينية والسنسكريتية حتى أن “تشارلز فيرجسون” العالم اللغوي الأمريكي المعروف توقع أن تكون النهاية في العام 2150م عندما تظهر لغات رسمية عربية ترث الفصحى أمثال المغربية والمصرية والسورية والسودانية كما يسميها(4). ولكننا نقول لهم هيَهاتَ هيهاتَ مهما مكروا وفكّروا ودبّروا وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ الأنفال: آية 30، ولن يستطيعوا أن يطفئوا نورَ القرآن بإخماد العربية: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِه وَلَو كَرِهَ الْكَافِرُوْنَ﴾ الصف آية 8، وقد أوضح الدكتور حسين الهراوي منذ أوائل القرن الماضي أن الدعوة إلى العامية كانت إحدى الطرق التي تبنّاها المستشرقون ورُوّاد الاستعمار منذ زمن قديم وكانت إحدى وسائلهم حتى لا يتفاهم المسلمون ولا يفهمون لغة قرآنهم(5).
الشعوبيّون العرب:
أما في الوطن العربي فقد ظهر كثيرٌ من الكتاب في العصر الحديث مِمّن يدعون إلى العامية المحلية أو إلى كتابة العربية بحروف لاتينية ومنهم: “سلامه موسى” و”عبد العزيز فهمى” و”أنيس فريحة” و”سعيد عقل” و”فائز جادو” و”يوسف الخال” و”شاكر خصباك” و”يوسف العاني” و “سعيد حورانية” وأخيرًا “بن زاغو” في الجزائر و”شريف الشوباشى” في مصر.
أمّا بن زاغو وهو أحد الأساتذة الأكاديميين الذين عهد إليهم المسؤولون في الجزائر بوضع التصوّرات الخاصة بشأن إصلاح وتحديث التعليم؛ فوضع تقريرًا يطالب فيه بتدريس اللغة الفرنسية اعتبارًا من السنة الثانية من المرحلة الابتدائية وطالب بإعطاء الأولوية المطلقة لتدريس جميع العلوم باللغة الفرنسية بدلاً من العربية. ومنذ شهور قليلة وردت أنباء من “موريتانيا” تفيد تراجع الدولة عن سياسة التعريب في مراحل التعليم المختلفة والعودة إلى استخدام اللغة الفرنسية في تدريس كل المواد العلمية بعدَ أن كادت حركةُ التعريب التي بدأت في السبعينات من القرن الماضي تؤتي ثمارَها الإيجابية بإقبال أعداد من السكان السود (الذين يتشيعون عمومًا للغة الفرنسية لأنها تُمَيِّزهم عن أغلبية السكان العرب والبربر) على الفصول (المُعَرِّبة) وعلى المعاهد العربية. وقد يؤدّي كلُ ذلك إلى آثار وخيمة على الشعور بالانتماء القومي. ذلك أن اللغة ليست مجرد أصوات أو ألفاظ منطوقة أو كلمات مكتوبة وإنما هي كيان متكامل من الفكر والوجدان والتراث والتاريخ والقيم الدينية والأخلاقية، كما أنها أداة اتصال وتواصل؛ ولذا فإن استبدال لغة بأخرى فيه إهدار لكل هذه الأبعاد وانسلاخ المجتمع نفسه عن تاريخه وعن ماضيه وعن هويته الثقافية كما أن فيه إضعاف لعلاقته الثقافية والفكرية مع الأقطار الأخرى التي تشترك معه في تلك اللغة(6) وفرق كبير في أن يتعلم المرء اللغات الأجنبية لتكون وسيلة للتبادل الفكري مع الثقافات المختلفة وبين أن يتبنى هذه اللغة أو تلك لتكون هي أداته في التفكير والتعبير على حساب لغته الأصلية .
وأخيرًا سيبويه المُفْتَرَى عليه !
ولقد أضاف الأستاذ شريف الشوباشي إلى همومنا همًا جديدًا بدعوته تلك التي طلع بها علينا من خلال كتابه الأخير: “لتحيا اللغة العربية: “ُسْقَط سيبويه”(7) وهو في هذا الكتاب ينحو باللائمة على سيبويه ظنًا منه أنه السبب المباشر في تخلفنا اللغوي والتعبيري ومن ثم الفكري “والتقدمي” فمن هو سيبويه الذي يريد أن يُسقِطَه من عرشه؟ وهل هو فعلاً يستحق ذلك من الأستاذ الشوباشي؟ وهل هو حقًا السببُ فيما نحن فيه من التردّي اللغوي والتعبيري والفكري إلى غير ذلك من ألوان وأطياف التخلف؟
وقبل أن نجيب عن ذلك نقول: إن اللغة ليست نحوًا فقط؛ ولكنها نحو وصرف وبلاغة وبيان وبديع وألفاظ وأساليب وصياغة. واللغة لا تنهض بذاتها وإنما بجهود أبنائها والناطقين بها. فهي مرآة جيدة تعكس أحوالَ المجتمع المتحدث بها، تتقدم بتقدمه، وتتدهور بتخلفه، ويوم أن قدنا العالم وسُدنا أركان المعمورة كان الناس من كل الأجناس يتسابقون لتعلم العربية(8) حتى ينهلوا من العلم العربي، وما قامت النهضةُ الأوروبية الحديثة إلا على العلوم العربية التي نقلها الأوربيون ترجمة بعد أن تعلم أقطابُهم العربية وأجادوها. والعجيب – كما يقول الأستاذ العقاد – أن معظمَ من تسابقوا في تعلم العربية في ذلك الوقت كانوا من الإنجليز مثل أديلارد أوف بات ودنيال أوف مورلى وروجر أوف هيرفورد وإسكندر أوف نكوام(9) بل لقد نقل الأوربيون كثيرًا من الكلمات العربية كما هي ليس فقط لإثراء لغاتهم؛ ولكن لتأثرهم بالحضارة العربية الإسلامية وهي دليل على صبغة المعيشة العربية التي اصطبغت بها تلك البلاد الأوربية، وأنها مقياس الفارق بين أحوال الأمم الأوربية قبل اتصالها بالحضارة العربية وبعد شيوع هذا الاتصال(10).
ونعود إلى العظيم سيبويه الذي ظلمه “الشوباشي” دون وِزر اقترفه أو ذنب جناه إلا غيرتُه على العربية وقد سبقه في ذلك بعضُ أئمة النحو ورُواده ومنهم: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء ومنهم أيضًا الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي وهو من الأفذاذ وأصحاب الأوليات؛ فقد وضع بحورَ الشعر العربي وطريقة تدوين معاجم اللغة فضلاً عن عبقريته في النحو الذي استنبط أصوله وفروعه وعلله وأقيسته ما لم يسبقه إليه سابق. أما أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب الذي أخذ عن أبي عمرو، فقد كان صاحب قياس في النحو، وله فيه مذاهب تفرد بها. ثم يأتي بعد ذلك “سيبويه” وهو عمر بن عثمان بن قنبر: أما “سيبويه” فهو لقبه الذي يُعرَف به وقد وُلد في إحدى مدن فارس وهي “البيضاء” أما النشأة والإقامة فكانت بالبصرة وقد تتلمذ على الخليل بن أحمد وغيره من أئمة النحو وقد ترك لنا كتابًا في النحو لم يضع له اسمًا ولا مقدمة ولا خاتمة. فأطلق عليه القدماء اسم “الكتاب” على اعتبار أنه العلم الذي لا يحتاج إلى تمييزه عما سواه باسم خاص – كما يقول الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه “المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري”. فإذا ذكر اسم “الكتاب” في معرض الحديث عن النحو فإنما يقصد به “كاب سيبويه” ذاك، وهذا يشير إلى أهميته وعلو منزلته. وبهذه المناسبة نقول للسيد “شريف الشوباشي” “إن الرجل لم يُسجِّل بكتابه قواعد ولم يقرِّر أحكامًا ولم يضع شروطاً يُكبِّل بها “الشوباشي” أوغيرَه وحتى لم يلتزم تعريف المصطلحات ولم يرددها على وتيرة واحدة بألفاظ محددة. أما ما يحتويه “الكتاب” فلا يعدو أن يكون فيضًا غزيرًا من الأساليب والمفردات بعضها مأثور وبعضها الآخر مُحْدَث يعرضها سيبويه ليُحلِّلها ويدرسها ثم يحكم على صحتها أو خطئها أو يُحسِّنها أو يُقبِّحها(11) عارضًا آراء شيوخه ولاسيما الخليل بن أحمد فينتقدها، أو يُعلِّق عليها، أو يجعل منها تمامًا للمسألة التي يدرسها، أو يعرض لها مع فيض من الشواهد المتنوعة بعضَها آيات من القرآن الكريم وبعضها الآخر من المأثور من شعر العرب ومن الرجز ولا يفوته أن يُصحِّح نسبة الشواهد التي يرى أنها منسوبة إلى غير أصحابها.
فما الذي صنعه سيبويه حتى نسقطه ونحمله أوزارنا وأخطاءنا وقد صدق فينا قول المتنبي:
وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولاً صَحيحًا
وَآفَتُه مِنَ الْفَهمِ السَّقيــمِ
نعم العيبُ فينا، ونلصقه بغيرنا، ويعوزنا الفهمُ الصحيح لقضايانا وما يحاك ضدنا.. فقد كانت مخاوفنا وجهودنا مُرَكِّزة على التصدي للهجمة الشرسة على التنوع اللغوي العالمي الذي يشمل ضمن ثرواته اللغة العربية وذلك لصالح اللغة الإنجليزية والغرب – خاصة الأمريكي – يجعل منه مدخلاً للهجوم على التنوع العقائدي ذاته لاسيما وأن عقيدتنا ترتبط بلغتنا ارتباطاً وثيقًا في وقت تزداد فيه الحملة الرعناء التي تُوجَّه ضد العرب والإسلام ولغة القرآن في خطاب صراع الحضارات ونهاية التاريخ إلى غير ذلك مما يصطنعوه من آليات لضربنا جميعًا من كل اتجاه(12).
وتأمل معي إلى أي مدى يكون التناقضُ العجيب المريب. ففي الوقت الذي يسعى فيه العدو الصهيوني لجمع شتاته اللغوي وإحياء موات موروثه اللفظي يحاول البعضُ منا شرذمة اللغة العربية وتفتيتها إلى لغات محلية لا يفهما إلا المجاميعُ المنعزلة. فهذه مغربيّة بربرية وتلك عامية مصرية وثالثة عربية خليجية دارجة… حتى تتقطع الأوصال بين أعضاء جسد الأمة فيتفسخ ويتهاوى ويهلك وتلك غاية أعدائنا المرجوَّه وهدفهم المنشود .
قضايا وهمية وحلول “كوميدية”
من أطراف التعليقات التي وردت حول كتاب الأستاذ الشوباشي ما جاء على لسان الأستاذ الدكتور عبد العظيم المطعني من أنه كتاب يصدق عليه المثل العربي “اسمَعُ جعجعة ولا أرى طحنًا” بما يوحي بأنه عمل أجوف أثار جلبة وضوضاء بيدَ أنه يخلو من الفائدة. ذلك أن مؤلف الكتاب تَخيّل أن لغتنا العربية عقيمة محنطة تُشرف على لفظ أنفاسها الأخيرة(13) وهذه الفكرة التي افترضها المؤلف حتى يتسنّى له أن يدعو بمثل هذا الكتاب الأعجوبة إلى انقاذها فكرة زائفة لا تقوم إلا في مخيلته. أما إنقاذها عنده فيتمثل في تغيير جذري لهذه اللغة. والواقع أن ما ورد بهذا الكتاب – كما يقول د. المطعني – “كوميديا” دامعة تثير الضحك، فالذي يطالع الكتاب يرى المؤلف قد عمد إلى محاسن العربية ومزاياها وخصائصها التعبيرية والفنية – التي ليس لها مثيل في أي لغة من لغات العالم . وحوّلها إلى مساوئ وعيوب بدلاً من أن يشيد بهذه الخصائص الفذة التي تتميز بها العربيةُ، ثم دعا إلى محوها مُدّعيًا أن هذا المحو إنقاذ لها وتطوير(14)!
أما بكاء الشوباشي من كثرة الحروف الساكنة مقارنة بنظيرتها في اللغات الأوربية “الحية” (ص168) ودعوته لاختزالها فعجيبٌ حقًا ويدل ذلك على أنه أبعد ما يكون عن مناقشة مثل هذه القضايا إذ أن هذه إحدى مزايا العربية؛ ولبيان ذلك نقول: إن هذه الحروف. الزائدة عن الحاجة في نظر الشوباشي – وجدت لتنهض بوظائفها في الوفاء بالمخارج الصوتية التي تتميز بها العربيةُ على خير وجه دون التباس أو تكرار أو تعقيد يتمثل في اللجوء إلى أكثر من حرف أو حرفين كما في الإنجليزية والفرنسية وغيرها. وعلى سبيل المثال فحرف “الذال” في العربية يقابله في الإنجليزية حرفان “th” كما في اسم الإشارة. “this” أما حرف “الثاء” فيقابله في الإنجليزية نفس الحرفين السابقين كما في كلمة “thank” مما يؤدي إلى الالتباس. وهناك ما هو أكثر من ذلك فحرف “الشين” في العربية فيقابله حرفان “sh” كما في “shake” وأحيانًا أخرى حرف “S” كما في الكلمة عربية الأصل “sugar” وكثيرًا ما يقوم بذلك أكثر من حرفين كما في “nation” و . “deficient” أما حرف “الكاف” فلا يُقِلّ في الالتباس عما سبقه فأحيانًا يقوم مقامه في الإنجليزية حرف “k” وأحيانًا أخرى حرف “c” كما في “camel” و “Cairo” وفي بعض الكلمات الأخرى يؤدي هذه الوظيفة حرفان “ch” كما في “chemistry” .
وعلى ذلك فإن نطق حروف اللغات الأخرى التي يمتدحها الأستاذ الشوباشي ويتخذها مثلاً في البساطة والسلاسة والوضوح كالإنجليزية اللغة العالمية الأولى الآن هو مشكلة تؤدي إلى الالتباس والتشويش والتداخل ولا يمكن حل “فوازير” وأحاجي نطقها إلا بحفظ هذه الحالات كما هي حيث لا تفي حروفها مفردة بالحاجات الصوتية لهذه اللغة. ومن جهة أخرى فإنهم يلجأون إلى نطق الحرف الواحد بأشكال متباينة في الكلمات المختلفة فحرف الـ”g” مثلا ينطق جيمًا قاهرية كما في “God” وجيمًا قرشية كما في “Gem” وجيمًا معطشة كما في “Religion” وربما لا ينطق كما في “Right” أما حروف العلة التي يتيه بكثرتها الأستاذ الشوباشي في اللغات الغربية فيعتور نطقها أيضًا كثير من الخلط والالتباس فمع اقترانها تنطق على أربعة أصوات كما في هذه الكلمات blood, door, food and moon (15). ومع ذلك تمتاز العربية بحروف لا تُوجَد في اللغات الأخرى من أشهرها الضاد ومن ثم فقد أصبحت عَلَمًا على العربية وكذلك حروف الظاء والعين والقاف والحاء والطاء أو تُوجَد في غيرها أحيانًا؛ ولكنها ملتبسة متردِّدة لا تُضْبَط بعلامة واحدة(16).
ويريد الشوباشي أن “يقتل” الإعراب بحجة الغموض في نطق كلمة واحدة على عشر حالات كما في كلمة “قتلت” (ص169) ولست أدري لماذا هذه الكلمة بالذات ما علينا! اللغة العربية لغة منطقية عقلانية “ديناميكية” تحتاج في فهمها إلى إعمال العقل الذي أمرنا خالقنا – جل وعلا – أن نستخدمه ولنا بذلك الأجر والثواب، ومن ثم فليس غريبًا أن أطلق القدماء على الفلسفة الإسلامية وهي من أكثر العلوم اعتمادًا على العقل “علم الكلام”. فالكلمة تفهم وظيفتها ومدلولها من موقعها من الإعراب حتى لو كان هناك تقديم أو تأخير (وهو لايتم عشوائيًا أو رفاهية وإنما هو أيضًا له وظيفة ويؤدي دورًا هامًا). وبهذه المناسبة أريد بنفس المنطق أن أسأل الأستاذ الشوباشي هل كلمة “You” الإنجليزية التي تُكْتَب وتُنْطَق أيضًا على وجه واحد بينما يراد بها معاني كثيرة مثل: “أنتَ” للمذكر و”أنتِ” للمؤنث و”أنتما” و”أنتم” و”أنتن” أدعى إلى الإلتباس الحقيقي سماعًا وقراءة وترجمة أم كلمة تُكْتَب على وجه واحد بينما تُنْطَق طبقًا لموقعها من الإعراب!.
العامية ليست لغة علم
أما بالنسبة لدعوته استعمال اللغة العامية في مجال العلوم والتقنية فإن ذلك يؤدّي إلى كارثة حقيقية من جرّاء الخلط والتشويش وانحسار الدقة وتلاشى التحديد الذي يتميّز به الأسلوب العلمي والتعبير عن الحقائق والنظريات والتجارب والبحوث العلمية فضلاً عن افتقار العامية إلى إمكانات الاشتقاق والتوليد الذي تتميز به الفصحى لمسايرة التطوّرات العلمية التي لا تتوقف. وفي حالات التقديم والتأخير الذي تتميز به الأساليب العربية فلن يكون من السهل تعيين الفاعل وتمييزه من المفعول مع اختفاء الإعراب مما قد يترتب عليه من مشاكل لا تُحْمَد عُقباها لاسيما في بعض المجالات العملية كالكهرباء والميكانيكا والكيمياء التطبيقية إلى غير ذلك من مجالات تتطلب التحديدَ الصارمَ والدقة المتناهية حيث إن أي التباس قد يكون قاتلاً!
أما دعوته لإلغاء “نون النسوة” فسوف يزيد الطين بلة فالمقارنات مثلاً بين نتائج الاختبارات والفحوص لمجموعتين من المرضى إحداهما من الذكور والأخرى من الإناث سيحدث بصددها الخلط والتشويش تمامًا مثلما يحدث في حالة الأحكام الفقهية والضوابط الشرعية التي تخص الرجال من دون النساء أو عكس ذلك فسوف يعتورها الخلط وعدم التحديد الذي قد يفضي إلى آثار خطيرة.
هذا فضلاً عن أن الثروة اللفظية للعامية جد فقيرة بالمقارنة إلى الفصحى فقد تبين في بعض الإحصاءات أنها لاتتجاوز الخمسمائة كلمة بينما تتطلب الحياة العلمية المتنامية عشرات الآلاف بل ومئاتها من الكلمات لنستطيع التعبير عن المدركات الجديدة المتطورة والمسايرة لحركة الفكر العلمي والإنساني بوجه عام. وهذا الثراء اللفظي ميزة تتميز بها العربية وليس عيبًا كما يظن الأستاذ “الشوباشي” في كتابه المعجزة!
نعم .. لغتنا في خطر؛ ولكن ليس معنى ذلك أن نلعنها ونلغيها ونستبدل العامية بها؛ ولكن الأجدى من ذلك أن نبحث بالطرق العلمية المنهجية لحل مشاكلها وتيسيرها على ألسنة وأقلام الناطقين والكاتبين بها.
إن الدعوة إلى اللهجات العامية بهدف القضاء على الازدواج اللغوي واتساق الفكر مع اللسان وتبسيط القواعد بحذف معظمها دعوة مشبوهة تؤدي إلى الانسلاخ عن العقيدة ونقض عرى الدين من خلال الانقطاع عن أهم نصوصه: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهَّرة والتراث الفقهي والشرعي والأدبي والفكري المكتوب باللغة العربية الفصيحة . ذلك الذي يضرب في تاريخنا إلى نحو ألف وخمسمائة عام. إنها باختصار دعوة لطمس معالم الهوية العربية الإسلامية وإلغائها وهي في النهاية دعوة مذمومة مسمومة فاشلة لا يمكن تنفيذها وستنتهي قبل أن تبدأ شأنها في ذلك شأن سوابقها، بل ولواحقها أمام ما تعهد الله به من حفظ قرآنه الكريم كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ﴾ الحجر: آية 9، وحتى نستيقن من ذلك فإنه مع كل تطور علمي وتقدم تقنيّ يتأكد ويترسخ هذا العهد القرآني الناصعُ البيان ليتحقق معه حفظ لغة القرآن رغم أنف الحاقدين وكيد الكائدين. ورحم الله سيبويه وأجزل له الأجر والثواب لقاء ما قدم من علم يُخلّد ذكرَها ما بقيت العربية وستبقى بإذن الله.
* * *
المراجع والتعليقات:
- أمين الخولي (ب. ت) فن القول ص 110.
- ابن قتيبة الدينوري (1989) تأويل مشكل القرآن سلسلة تقريب التراث: الكتاب رقم 6. مركز الأهرام للترجمة والنشر. القاهرة. ص 54.
- د. رمضان عبد التواب (1990) الشعوبيون الجدد وموقفهم من العربية الفصحى – منبر الإسلام – 49 (5): 64-66 .
- د. عبد الله حامد حمد (1993) العربية إلى أين مجلة الفيصل العدد رقم 1193، ص 78.
- أنور الجندي (1965) من الأعلام المعاصرين: الدكتور حسين الهراوي – مجلة منبر الإسلام 23 (10): 193.
- د. أحمد أبو زيد (2004) هوية الثقافة العربية. الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة.. مصر ص 283.
- صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ويقع في صفحة من القطع الصغير.
- د. محمد فتحي فرج بيومي (1994) اللغة العربية وعاء جيد اللعلوم العصرية رسالة العلميين نشرة غير دورية بصدرها فرع نقابة المهن العلمية بالمنوفية العدد الثاني 6-7.
- عباس محمود العقاد (1969) أثر العرب في الحضارة الأوربية الطبعة الثامنة . دار المعارف بمصر ص 46.
- المصدر السابق ص 114 .
- على النجدي ناصف (1978) تاريخ النحو. دار المعارف بمصر ص 19.
- د. نبيل على (1999) عن العولمة واللغة. ملحق مجلة سطور، العدد 55 ، ص 5.
- د. عبد العظيم المطعني (2004) في حديث له في جريدة “عقيدتي” القاهرية الصادرة في 3/8/2004م أجراه مع سيادته الأستاذ إسلام أبو العطا.
- المصدر السابق .
- عباس محمود العقاد (1988) أشتات مجتمعات في اللغة والأدب. الطبعة السادسة. دارالمعارف بمصر ص 53.
- عباس محمود العقاد (ب. ت) اللغة الشاعرة. مكتبة غريب. القاهرة ص 11.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند ¯العـدد : 5-4 ، السنـة : 32 ¯ربيع الثاني – جمادى الأولى 1429هـ = أبـريل – مـايـــو 2008م