العالم الإسلامي
أشرف شعبان أبو أحمد
قال تعالى: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِيْنَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِيْنَ” (سورة محمد آية31).
أتذكر ذلك اليوم، وقد كنا يومئذ في مرحلة الشباب، مرحلة النضج والحيوية والصحة، تعرف في وجوهنا نضرةَ النعيم ونظرةَ الأمل للغد، أجسامُنا قوية البنيان، عضلاتُنا مفتولة بارزة، إرادتُنا صلبة، سريرتُنا صافية، هممُنا جاهزة ومستعدة لتحمل الصعاب، كنا وقتها ونحن منا من هو واقف خاشع وجل بين يدي الله – عز وجل – في صلاة القيام؛ ومنا من هو يتلو آيات الذكر الحكيم مُتدبِّرًا معاني قراءته مُتّعظاً بما يقول؛ ومنا من هو يناجي ربَّه ويبتهل إليه؛ ومنا من هو يُردِّد أوراد الليل؛ ومنا من هو في مجلس ذكر أو مجلس علم؛ ومنا من هو يُخَطِّط للقيام بأعمال البر التي أمرنا بها الإسلام. وقتئذ انقضت علينا جحافلُ من الجنود المُدَجَّجين بالسلاح والعتاد، اقتحموا خلوتنا، وأشاعوا الهرج والمرج في مسجدنا؛ بل وانتهكوا حرمات منازلنا، لم يتركوا فيها كتابًا أو صحيفة أو حتى قطعة أثاث إلا مَزَّقُوها وكسروها، ولم يدعوا طفلاً أو شيخًا إلا روَّعوه. في ذات الوقت الذي يجد فيه المرتشون وناهبو أموال البلد وخيراتها من أصحاب السلطة والنفوذ فرصَتَهم لإتمام صفقاتهم في كل أمن وطمأنينة، وفي ذات الوقت الذي تخرج فيه الراقصات والعاهرات من الكباريهات وأماكن اللهو وعلب الليل، لتجد من يحتفي بهن من الأخدان والعشاق وراغبي المتعة المُحرَّمة؛ حيث يمضون ما بقي من الليل ويواصلونه بالنهار، يأكلون ما لذ وطاب ويشربون ما يسكر العقول ويخدر المشاعر ويهيج الشهوات ويقترفون الآثام والمُحرَّمات .
في ذلك اليوم، سُقْتَ إليك يا زنزانتي! مكتوفَ الأيدي معصوبَ الأعين، وسط حراسات مُشدَّدة من جنود على أهبة الاستعداد لإطلاق نيران أسلحتهم مع كل همسة أو حركة لأي من المقبوض عليهم، كما لو كنا مِن أعتى المجرمين سُقْنا إليك جميعًا عبر دهاليز إلى سراديب في أعماق الأرض، سوداء مظلمة كئيبة لا يدخلُها هواءٌ، ولا يوجَد بين جدرانها نافذةٌ واحدة نستوضح منها ضياءَ الفجر من ظلام الليل، لا فرش فيك ولا غطاء، نلتحف في الشتاء القارس بجوك القاري، ويضطَرُّنا قيظُ الصيف بك لو نود الانسلاخ من جلودنا، وتأبى أدنى الحشرات والديدان عن سكنتك، نُزَجُّ فيك أفواجًا أضعافًا مضاعفة عن أعداد ما تتحمليه وتستوعبيه.
قال تعالى: “وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ” (سورة إبراهيم آية 42).
ومنذ لحظة وصولنا بدءوا معنا ما يشتهونه ويتلذَّذون به ويبتكرون فيه من مُهامّ وُكِّلَتْ إليهم وأعمالٍ تخصّصوا لها وفُوِّضُوا فيها؛ حيث يسحبون الواحدَ منا وراءَ الآخر على الأرض إلى سلخانة التعذيب، نُجَرَّد من ملابسنا ونُعَلَّقُ عرايا كما ولدتْنا أمهاتُنا من أرجلنا كالذبائح، يمارسون علينا الضربَ والجَلدَ بشتّى أنواعه، ويمختلف أدواته بالعصي والقِطَع الخشبية، على الرأس ومناطق العظم، ثم الجلد بالسياط والكرابيج متعدِّدةِ الأطراف، والكابلات الكهربائية على سائر أنحاء الجسد، ويزيدوننا تعذيبًا باستخدام الصواعق والصدمات الكهربائية على الأجراء الحساسة من الجسم، ولا يفوتُهم خلعُ أظافر الأيدي والأرجل باستخدام الأدوات المعدنية، ويفصلون بين هذا النوع وهذه الأداة بفاصل من الكي بالنار والحرق بالسجائر، حتى تلتهبَ ظهورُنا وتشتعلَ أجسامُنا وتُهشَّم عظامُنا وتُبْتَر أطرافُنا ولا يتركوننا إلا جُثَثًا هامدة، نوضع لساعات طويلة في أقفاص حديدية لا يزيد طولُها أو عرضها أو ارتفاعها عن المتر إلا بسنتمترات قليلة، لا يستطيع الواحد منا أن يقف أو تنتصب له قائمةٌ أو يجلس أو يتحرك فيها، ويظل أغلبَ الوقت ساجدًا على ركبتيه وكفيه أو مرفقيه، فتختلط صرخاتُ شدة آلام التعذيب مع صرخات آلام هذا الوضع، وعندما نُسْتَدعىٰ للتحقيق نُكنّىٰ بأسماء العاهرات ذوات القصص الفريدة والمثيرة في عالم العهر والغرام، ونُجَرُّ من رقابنا بسلاسل حبوًا على أيدينا وأرجلنا كالحيوانات، وكم تمنّينا أن نتعامل أسوة بكلاب السجن في غير ذلك الأمر. وفضلاً عن التعذيب البدني والنفسي والإذلال والمهانة والتهديد باعتقال الأهل وتعذيب الشيوخ منهم واغتصاب النساء وفي كثير من الأحيان يوفون بتهديداتهم أمام أعيننا، وتوجيهِ أحطِّ الألفاظ وأقذر الشتائم والسباب إلينا، لا تتَلقّى أمعاؤُنا ولا يدخل جوفَنا إلا كسرةُ خبز تُلْقَىٰ إلينا وقد تعفَّنت وتَعِفُّ الحيواناتُ عن أكلها، وكثيرًا ما مُنِعَتْ عنا وحُرِمْنا الماءَ، حتى نسمات الهواء التي سخّرها الله – عز وجل – للبشر جميعًا، ولا حكرَ لأحد عليها في أي مكان أو زمان، لا ندري ماذا جرى لها لم تَعُد تأتي إلى هنا؛ فقد وُضِعت أمامها المِصدَّات البشرية وبُنِيتْ أمامها السدودُ الحجرية حتى لا نستنشقها أو نستمتع بها. وهنا في ذات هذه الرقعة حيث نأكل وننام واقفين عندما تُغَرق أرضيةُ الزنزانة بالماء نقضي حاجتنا، وبعد أن شاطرَتْنا الأوبئةُ والجراثيمُ فيها أصبحنا حيث نحيا نموت ونُدْفَن.
إنّ ما يحدُث هنا من فظائع وما يجري من أهوال ترتعد منها الفرائصُ، وتقشعرّ الأبدانُ، ويشيب لها الولدانُ، ويعجز القلمُ عن كتابتها، ويستحي اللسانُ عن النطق بها، ويذهل العقلُ من مجرد التفكير فيها، ونعجز تمامًا عن توصيفها؛ ونقل آثارها من على أجسامنا؛ فهؤلاء الزبانية ليسوا بشرًا أسوياء، ولا آدميين طبيّعيين، وما يرتكبوه من جرائم لا يصدر بأي حال من الأحوال عن أبناء دين ووطن واحد؛ ولكنه قد يصدر من أعدى أعداء البشرية والإنسانية. ولو يعلم هؤلاء الجلاّدون عبيدُ السلطة كلابُ الحراسة أن المولى – عز وجل – حرّم الظلمَ على نفسه وحرمه بين العباد، ولو يعلمون ما ينتظرهم من مصير: “يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَودُّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبينَه أَمَدًا بَعِيدًا”، لَتمنَّوا أن يكونوا هم أول الناس في دفع الظلم عن عباد الله وأن يكونوا هم أول المسارعين في مداواة الجرحى وتخفيف آلامهم .
قال تعالى: “تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبةُ لِلْمُتَّقِينَ” (سورة القصص آية 83).
وأنتِ أيتها الزنزانة ! تمضي علينا أيامٌ وليالي كثرة لا صديق ولا ونيس غيرك، يظل بابُك مغلقًا لا نجد من يُطِل علينا؛ ليعرف هل مازلنا على قيد الحياة أم وَافَتْنا المنيّةُ، أشكو إليكِ ضعفَ صحتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناس، تنصتين إليّ جيدًا وتسمعين أنيني؛ ولكن لا إجابة منكِ، تظلّين صامدة صامتة تحمَّلْتَنني كثيرًا أحس بشفتك وعظفك علي؛ ولكنك تشهدين على صلابتي وقة تماسكي، وتشهدُ جُدْرانُكِ على براءتي من اية تهمة غير “قول الحق والجهر بإسلامي” إن اُعتُبِرَ ذلك تهمة، كل شبر فيك شهد مأساةً؛ فهنا صعدت روحُ أخ لي، وهنا لُفظِت أنفاسٌ آخر، وهنا وهناك اُمتُهِن شرفٌ وكرامة وأجساد رجال من خِيَرة أبناء هذه الأمة، رجال لم تسرق، ولم تقتل، ولم تمالئ الاستعمار، ولم تتاجر بالسوق السوداء، ولم تختلس أو ترتش. وبعد أن كانت هذه الزنزانة تَدنَس بأبوال ومُخلَّفات المجرمين والشاذين واللوطيين طُهِّرت بعد أن اتخذها الأخوةُ مسجدًا وإيواء، وبعد أن كانت تطفح بتجار المخدِّرات ومنتهكي الأعراض وناهبي الأموال وقاطعي الطرق سُكِّنت بأبناء أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وبعد أن كانت تَضجُّ بصيحات وضحكات السكارى والعرابيد أصبحت تُملأ بهمسات تلاوة القرآن وآذان الصلاة، وبعد أن كانت تستقبل عتاةَ الإجرام أُغلقتْ أبوابَها أمامهم، وفُتِحَت على مِصراعيها أمام الملتزمين بالإسلام، تتلَقّفهم بدون ذنب أو جريرة إلا قولهم “لا إله إلا الله محمد رسول الله وعملهم بها”. آه ثم آه ، لو يعلم من بنى هذه الزنزانة ووضع أساساها أنها ستضم خِيَرة أبناء هذه الأمة بدلاً من فُسّاقها ومجرميها، ولو يعلم من ساهم بوضع حجر على كتفه ليُعلي به جدارًا أو لينصب عمودًا أو ليُسطِّح سقفًا أن هذه المقابر ستواري بين جنبيها أبناءَ خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، ما شَارَك بأدنى مجهود في تشيدها .
قال تعالى: “لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُوْنَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ غَيرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ” (سورة النساء آية 95).
ومنذ سنوات عجزتُ أنا وغيري عن حسابها وملاحقة عدها وقد مُنِعَتْ عنا الأخبارُ والأنباء، وأخبارُ الأهل والأصدقاء وأنباءُ العالم وأحداثه، لم نَعُد نعرف من الدنيا إلا هذه الحوائط الأربعة، ولم نَعُد نرى غيرَها إلا ما يَحْمِله إلينا أخوةٌ جُدَد أُلقِي بهم إلى هنا ولم تَزْهَق أرواحُهم بالاغتيال أو بالتعذيب. والآن بعد أن أمضيتُ كل هذه السنين من عمري حبيسًا، وقد مرّت كدهر أو قرن من الزمان، شاب فيها الرأسُ وضَعُف البصرُ من طول الظلام، وخف السمع، وتعقُّد اللسان، وتساقطت الأسنانُ، وشلت الأعضاء، وخارت العضلات، وانهارت القوى، وانطمست الحيوية، وهزلت الأجسام. وصرتُ يا جسدٌ هالك لا حراكَ فيكَ بعد أن غطَّاكَ التقيح والأورام والندب والجروح، لا أعرف إن كانت الحياة مازالت تجري فيكَ أم لا؟ وهل هذه أنفاسي أم ماذا يا ترى؟ لا أصدق كيف تحمّل بدني وصمدت روحي أمام كل هذا، فعندما أسترجعُ ما مررتُ به بمرجد أن تجري أمامي هذه الأحداثُ أتوجَّعُ من شدة الآلام، ولسعات النار، ووطئات العِصِيّ، فما بالكم بوقعها الفعلي، يا من تعيشون خارج هذا الجحيم تتهافتون وتتسارعون، بل وتتقاتلون من أجل لقمة العيش، تمضون أيامكن أما في الجري وراء متعة أو نشوة، أو في الوقوف أمام المجمعات والمصالح في انتظار أن يُمَنَّ عليكم بنعمة أو خدمة، تأسركم شهواتُكم وتُحرِّكُكم نزواتُكم، ولا تفكرون إلا في إشباع المعدة وما تحتها بين الفخذين، وما يتبقى لديكم من وقتٍ تستسلمون فيه لأجهزة الإعلام لتُفْسِد لكم دينَكم وأخلاقَكم، ألا تفكرون في مدى المعاناه التي نعانيها؟ إلا تفكرون كيف نعيش هنا وكيف نتجرُّع هذا العذاب؟
ولكن لن يطول سجني ولن يظل جسدي راقدًا هنا بلا حراك فلن نيأس، فلا ييأس من رحمة الله إلا القومُ الكافرون وسنظل نحيا ونحلم إلى آخر رمق من حياتنا باليوم الذي يخرج فيه الناسُ من ظلمات الجاهلية وعبادة الفراعنة إلى نور الإسلام وعبادة الله الواحد الصمد، باليوم الذي يحيا فيه الناس ويفيقون من غفلتهم وينبشون قبورَهم التي دُفِنوا فيها أحياء يومَ زُيِّفت لهم عقيدتُهم وخَضِعت لأهواء مشايخ السلطة، وخرست ألسنةُ العلماء عن النطق بالحق، وقُصِفَت رقابُ الورِعين الأتقياء، واعْتُقِل المجاهدون المخلصون.
وأخيرًا لا تحزني يا نفسي ولا تحزن يا قلبي!
لاَ تَحْزَنْ يا قَلْبُ على فقيدٍ وَارَتْه الترابُ… وَاحزَنْ على حيٍّ وَارتْه السجونُ والمعتقلات.
لاَ تَحزَنْ على صوتٍ عزيزٍ وَفَتْه المنيةُ… واحزَنْ على صوتٍ جريء مكظومٍ وراءَ القَضْبان.
وكيف تحزني يا نفس ولماذا تجزعي على ما أصابك؟ وهذا هو الطريق الذي سار على دربه كثيرٌ ممن أرادوا رضوان الله تعالى، وإن ضعف البشر عن مناصرتك ومؤازرتك فإن الله عز وجل معينك وناصرك .
قال تعالى: إنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِيْنَ آمَنُوا” (سورة الحج آية 38) وَقَالَ: “وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُالْمُؤْمِنِينَ” (سورة الروم آية 47).
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند ¯العـدد : 5-4 ، السنـة : 32 ¯ربيع الثاني – جمادى الأولى 1429هـ = أبـريل – مـايـــو 2008م