دراسات إسلامية
بقلم : الأخ محمد هداية اللّه الآسامي القاسمي ، أستاذ بدارالعلوم، ميراباري، آسام، الهند
إن رحمة الله تعالى هي التي شاءت أن تنتشل الإنسانيةَ من دَرَكَة البهائم إلى درجة الملائكة، وتُبْدِلَها نورًا من ظلمة، ومعرفةً من جهالة، واجتماعًا من افتراق، وعقيدةً من أوهام، ونظامًا من فوضى؛ فهيّأتْ لها شمسًا خيرًا من شمس السماء: شمسًا بريئةً من الأفول براءةَ الذئب من دم ابن يعقوب، طلعتْ من بطن مكة لِتستخرج الصبحَ المنبلجَ من الهدىٰ، من خلال الليل البهيم من الضلالات، واستقرّتْ في سماءِ يثرب لِتُحدث ثورةً عارمة تُحَطِّم الطواغيتَ كلها، وتَبْنِيَ عقيدةً شاملةً تنبثق منها شريعةُ دينٍ ونظامُ حياةٍ: عقيدة تكون جذورُها ضاربةً في أعماق الإنسان ألا وهي – الشمس – شخصية محمد الخاتم بنبوته المتكاملة .
إن الشمس التي أخرجتْ بطلوعها أولَ نهارٍ أدركته الإنسانيةُ لأول وهلةٍ عبر تاريخها المديد، فبِنُورها انقشعتْ سحبُ داكنةٌ من الظلمات؛ فانكشفت للنواظر كائناتَ العالم كما هي، وفي ضوئها الباهر شهدت المجموعةُ البشرية من الخير والعطاء، والأمن والرخاء، والرقيّ والازدهار ما لا عهد لها به من ذي قبل .
إنه الشمس التي ازدانت بها سماءُ الجزيرة العربيّة فصحبتُها سماواتُ بقاع الأرض كلّها؛ إذ الشمس تُضيئ العالم كلَّه وهي حيث هي، وأرسلتْ أشعّةً ناصحةً ناجعةً دخلتْ قصورَ مكة وأكواخَها؛ ومعانيها تتعدّى حدودَ الزمان والمكان، وتجوس خلالَ الديار في مشارق الأرض ومغاربها، وتُنير للإنسانية طريقَها إلى التوحيد والإيمان، والعلم والعرفان، والشريعة والنظام.. فيما أرسلتْ أشعّةً أخرىٰ مصلحةً فاحصةً قتلتْ جراثيمَ الأمراض الفتاكة التي حاقت بالإنسانية واستبدّت بها تعفينًا وإبادةً، في غزوة بدر وأخواتها؛ ومَعانيها تستأصل شأفة العُبّيَة، والأنانية، والنرجسيّة، وتهزّ جميعَ القلوب العاتية هزّاً .
إنه الشمس التي استضاءت بها ثلّةٌ من بين الإنسان فامتلأتْ قوةً وحيويّةً، وعاطفةً ونشاطاً، وتدفّقتْ بالروح المعنويّة والفكر السامي إلى المجد والكرامة، والعزّ والعلاء، ثم انساحت في جنبات الأرض بين بني جنسها؛ لِتُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جود الأديان إلى عدل الإسلام .
ما من شك أن قيادة العالم الشاملة وفق الرسالة السماويّة، وإدخالَ التحوّلات الجذرية في عادات الأمم والشعوب، وتحطيم كل الطواغيت في كافة المجالات، وربْطَ الإنسانية بخالقها ربطاً محكما لاتحلّه الماديّة بزخارفها ومغرياتها.. مسؤولياتٌ ضخمة، جفّ القلم الأزلي بإناطتها بكاهل محمد المصطفى – صلوات الله عليه وسلامه – ولم يكن أحد من الجن والإنس والملائكة لِيُؤَدِّيَها أكملَ ماتُؤَدَّى المسؤوليّة، لولا محمد بن عبد الله: نبي الحرية، وإمام السياسة والتشريع، وأمير الفصاحة والبلاغة، وداعية السلام والمحبة.. فلقد جَسَّد هذا النبي الأمّي من روائع الإنجازات، وبدائع الانتصارات ما أحال حياتَه إلى سلسلة متواصلة من البطولات والمكْرُمات والمآثر الغرّ البيض، ولم تعرف البشريّة في تاريخها الطويل رجلاً آخر غير محمد بن عبد الله حَقَّقَ من المآثر قدرَ ما حقّق هذا الرجلُ العظيم، وفي فترة قصيرة .. مما يُقْطَعُ بأن هناك قوةً أكبر من طاقة البشر كانت تؤيّده، وأنه كان يستمد من هذه القوة وكان على اتصال بها وثيق.
وحين نراجع فهرسَ حياته صفحةً صفحةً، نؤمن بأنّه نسيج وحده في الكون، لم تشهد العيون له مثيلاً منذ أن وُلد التاريخ وإلى أن يموت حتفَ أنفه ..
ولا غرو فقد صاغه الربُ في قالب البشريّة؛ فهو بشرٌ مثلنا، ونقّاه بشقّ صدره من قاذورات البشرية ونزعات المادية، وأفعمه نورًا وشفّافيةً، وعَرَجَ به إلى السماء؛ فهو رجلُ السماء في الأرض ليكون هو الواسطةَ بين الخالق والمخلوق، واحتكره أولَ بدأةِ الكون في حيز مكنون لِيُرسلَه عند مسيس الحاجة إليه؛ فهو خلاصة العالم وعنوان التكوين، ووضعه وسطَ طريق القافلة البشريّة لينتظره السابقون ويستمدّ منه اللاحقون؛ فهو قطبٌ يدور حولَه وهي الحياة الإنسانية، ونَحَتَه على سجيّة حميدة وخلق عظيم؛ فكان مرآةً صقيلةً تُصلح فيها البشريةُ هيئتَها الزريّة، وأدّبه فأحسن تأديبَه؛ فكان أفصح مَن أقلّته الغبراء وأظلّته الخضراء، وكلَّله بنبوةٍ سيدةٍ متكاملة؛ فكان نبيَّ الأنبياء وخاتم الرسل وسيد ولد آدم ولا فخر، وصُبَّ على قلبه علومُ الأولين والآخرين؛ فكان إمامَ التشريع والتطبيق والتنظيم، وخَصَّه بملكةٍ راسخةٍ قادرةٍ على القيادة العالمية لِركب الحياة؛ فكان مؤسس السياسة الراشدة ومنشئَ الحضارة العادلة.
إن نبوة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم لَنبوّة عالميّة بأوسع معاني هذه الكلمة وأقواها لايحدُّها زمانٌ ولامكانٌ؛ فهي من نبوات الأنبياء الآخرين بمثابة الكلي من الجزئيات، وبمنزلة الغرض الموضوعي من المقدمات، والنقطة المركزية من الدائرة .
“وكأنها شمس والنبوات كواكبٌ
إذا طلعتْ لم يَبْـدُ منهن كـــوكبُ”
فها هوذا النبي الفذّ، المتجسِّدُ فيه معاني الكمال بحذافيرها، المتجمعُ فيه خصائصُ الإنسان العملاقةُ برمّتها: هاهوذا قد غَيَّرَ مجرى التاريخ، وهدى الإنسانيةَ إلى غايتها المنشودة، وأرشدها إلى السرّ الذي يستكنُّ وراءَ خلقها في الأرض، ودَلَّها على ما أرِيدَ منها من خلال تكريمها وحملها في البرّ والبحر وتفضيلها على الخلائق، وطالَعَها بما تستأديِها الأمانةُ التي حملتْها بفطرتها المُهَيَّأة لها، بعد أن أشفقتْ منها السماواتُ والأرض والجبال.. كما أمرها بالمعروف ونهاها عن المنكر، وأحلّ لها الطيبات وحَرَّمَ عليها الخبائث، وَوَضَع عنها إصرَها والأغلال التي كانت عليها.
ولقد كان ظهور الإسلام أكبر حادث في تاريخ الإنسانية، انتفض له النوع البشري انتفاضةً لاعهد له بمثلها في ثنايا التاريخ، مما ترك أعمقَ الأثر في فتح العيون الهاجعة، وصقل الأفكار الفاسدة، وإذكاء مجامر القلوب الخامدة، فقد نفخ الإسلامُ في جسم الإنسانية روحًا وثـّابة تحمل في طياتها تأثيرَ عصا موسىٰ في البحر والحجر: الروحَ التي أهّلتْها – الإنسانيةَ – لأن تستمدّ من الإسلام قوتَها وخِصْبَها ونماءَها على صعيدي المعنوية والمادية، فاستمدَّتْها أكثرَ ما يكون الاستمداد.
أما على صعيد المعنويّة فقد أدركت البشريةُ سِرَّ الحياة، واهتدت إلى اكتشافِ علةِ الوجود، ووُفِّقَتْ إلى معرفةِ مَنْ خَلَقَها ولِمَ خَلَقَها، ثم أقبلت على تلبية نداء السماء فتشوّفت إلى الأفق البعيد واستشرفتْ إلى السمت العالي، وارتفعت إلى مرتبة لاتبلغها العقبان، وحاولت من الأرض أن تقتنص الثريّا في علياء السماء، من حيث زهدت في الأرض كأنها لاتعدل جناحَ بعوضة ولا تزن قُلامةَ ظفر. أما على صعيد المادية الظاهرة فقد ارتقت البشرية من الحضيض الأوهد من البهيمية والفسالة إلى شُمّ الذرٰى المتعممة بالإنسانية والكرامة، حتى لقد أنشأت حضارةً خيّرةً وُشِيَتْ جنباتُها بالعلم والثقافة، وطُرِّزتْ حواشيها بالعدل والتسامح، والمساواة والنصح، والأمن والإخاء .
لقد حفظ لنا التاريخُ بين دِفاف كتبه أنه نشأت في العالم حضارات مختلفة، عاشت زمنًا في التاريخ ثم ماتت حتفَ أنفها، ولم يبقَ منها عند ظهور الإسلام إلا بعض الأساليب الوراثية كخطّ فاصل بين الإنسان والحيوان. فلما نشأت الحضارة الإسلامية تركتْ آثارًا طيبة في حضارات العالم، حتى أحيتْها ووصلت بينها، بعد أن كانت من بقايا الماضي المهجور، فلم تخلُ واحدة منها من آثار الحضارة الإسلامية، ولم تزدهر حضارة – ازدهرت فيما بعد – إلا بمُعْطَيَات الحضارة الإسلامية ومُقْطَفَاتها بطــريق مُبَاشِــر أو غير مُبَاشِر .
أما العلوم والمعارف فإنما تفجّرت ينابيعُها في الأمة الإسلامية أينما كانت، إلا قليلاً منها فإنها بقيتْ محفوظةً عند المسلمين، بعد أن عصفتْ بها رياحُ الضياع قبل ظهور الإسلام بقرون؛ فتجمّعتْ العلومُ الإنسانيةُ كلها في الأمة الإسلامية في حين لم يبقَ لها أثر ولاعينٌ عند غيرها من الأمم كافةً .
فالحقيقة التي جحدوا بها واستيقنتْها أنفسهم ظلمًا وعلوًا، أنه لم يظهر في العالم منذ القرن السادس للميلاد إلى القرن العشرين أثر جديد في أيّ من مجالات الحياة، إلاّ بعد أن أخذوا علمَه من أيدي المسلمين في أيّ جزء من الكرة الأرضية؛ فما كان كُشّافُ الأوربيين قادرين على اكتشاف العالم الجديد لولا أنهم تأثـّروا بالتراث الإسلامي، وماكانت النهضة الأوربية ظاهرةً بمظهرها لولا أن أوربا تتلمذت للثقافة الإسلامية. إذن فلم يكن لِيتحقق هذا ولا ذاك لولاحضارةُ الإسلام، ولا حضارةَ للإسلام لولا الإسلام، ولا الإسلام لولا نبوةُ محمد: الرحمة المهداة إلى العالمين (عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام).
تلك هي النبوة العالمية التي في وارفِ ظلالها حققت الأمة الإسلامية في كافة ميادين الحياة تقدمًا ملموسًا ظلّ نشيدًا مذكورًا في قم الزمان، ونهضت بالعباد والبلاد نهضاتٍ لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ أن برأه الله.. فلو أنت أنعمت النظر في صفحات التاريخ، لرأيتَ أن ما أنتجه بعض أفراد الأمة المحمدية في مشوار التأليف والتدوين، والتعليم والتربية، وفي مِضمار البناء والتحضير، والفتح والتمصير، والاختراع والابتكار، وفي فنون التكنيك العسكري والإستراتيجية الحربية؛ لاتبلغ معشارَه منتجاتُ الأمم الأخرى مجتمعةً في جميع أدوار التاريخ البشري.. الأمر الذي كان له أبعد الأثر فيما وصلوا إليه من بطولات وأمجاد.
فالنبوة المحمدية وتاريخ الإنسانية شيئآن متلازمان، هيّأ الله أحدَهما للآخر في ستار الغيوب، وضرب لِتلاقيهما موعدًا مُحَدَّدًا لايجتمعان إلا فيه؛ إذ كلُّ شيء مرهون بوقته، حتى إذا حان الموعد المضروب تَلاَقَيَا، وأحدث اجتماعُهما ثورةً عارمةً بعثت العالمَ من قبوره البالية، وانتفاضةً عامةً تمخضت عن كلُّ هذه الخصائص الإنسانية والنتائج الإيجابية.
على أن هذه النتائج الإيجابية المادية ومظاهر التقدم الراقية، لم تقف منها النبوة موقفَها من النهضات الروحية والتطورات المعنوية؛ حيث إنها مَهْما برقتْ ولمعتْ لا تَعدُوْ أن تكون وسائلَ تافهةً، حثّت النبوةُ النوعَ البشريَ على اتخاذها قدرَ الحاجة؛ ليتذرّع بها إلى الهدف الجوهريّ الأصيل، وهو: أن تكون البشريّة كلُّها لله وحده، حتى يصبح أفرادُها في الدنيا رجالَ الآخرة، ولايُعْبَدَ في الأرض إلا اللهُ المتفرد بالقوة والجبروت.
ومن ثمّ؛ فقد عاشت النبوة تُكرِّسُ قصارى الجهود في الارتفاع بالنوع البشري من العالم المادي الكثيف المتثاقل الضيّق، إلى العالم الروحي القدسي الواسع جنبًا إلى جنبٍ مع بَلْوَرَةِ الفرق الشاسع بين المقاصد والوسائل، فتعمل على تجذير المقاصد في أعماق الضمائر، وتحمل على الاكتفاء بأقلّ ما يمكن من الأسباب والوسائل كعابر سبيل، حتى يتخفّف النوع الإنساني عن ثقله المادي الكثيف الذي ينوء به ويعوق خفتَه وطيرانَه؛ إذ الوسائل المادّية بقدر ما تكثُر وتثقُلُ، تُنقض ظهرَ صاحبها وتخفضه حتى تهبط به إلى السفل.. أوَ ليست الكنوزُ الثقيلةُ هي التي أثقلت ظهرَ قارون حتى خَسَفتْ به وبداره الأرضَ؟
أَضِفْ إلى ذلك أنّه لم تقتصر النبوة على مجرد استجاشة المشاعر واستثارة الوجدان، أو إكسابِ النوع البشري قوةَ الطيران الروحيّة وحسب؛ بل لَكأنها باشرتْ دلالتَه على الطريق ليلةَ الإسراء، فطارت بنفسها من الأرض إلى أعالي السماء تشقُّ أجوازَ الفضاء، مستهينةً بالزمهرير والقمطرير، إلى أن بلغتْ مالم يبلغه جبرئيلُ خشيةَ الاحتراق، حتى كانت قابَ قوسين أو أدنى.. هنالك تحدثت باسم الإنسانية إلى خالقها حديثًا ثنائيًّا، ومعانيها تمدّد خطوطاً تَوَاصُلِيَّة بين الأرض والسماء، تُشَكِّل همزةَ الوصل بين الخالق الأعلى والمخلوق الأسفل!!
هذا، ولقد مرّت على عهد النبوة أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، وكلما تَبَاعَدَ عهدُها تَنَاقص أثرُها في الحياة، وسلطانها على النفوس، وصِيتُها في المجتمعات، وكأنها كانت في حينها شمسًا بازغةً في كبد السماء، جنحت اليومَ إلى المغيب في حاشية الأفق، تلوح حمراءَ لا تُمِدَّها حرارةٌ ولايخالطها شعاعٌ، أو كانت سراجًا وهّاجًا شطح به المرءُ في ليلة ليلاء غدافية الإهاب حالكة الجلباب، فأخذ من خلال الأدغال والحِراج يبصُّ ببصيص ضئيل يُخَيَّل إلى الناظر أنه يتقلقل بين الخمود والالتهاب .
وما جاء عصرنا الذي نعيش فيه إلا بأَخَرَةٍ من الزمن، بينه وبين ذاك العهد المستنير بُعدُ المشرق والمغرب، مما أسفر عن ضعف في الإيمان، وتآكُلٍ في جذور العقيدة، وبرودة في العاطفة والوجدان، حتى أصبحت عباداتُ اليومِ صورًا وأشكالاً لاتدبُّ فيها روحٌ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أقوالاً لايُمَازِجُها معنى، والمواعظ الحسنة تَحَذْلُقاتٍ وتفيهقاتٍ لاترفدها حياة.. كما نزلت أفكارُ المعاش في الرؤوس منزلَةَ العقائد في حنبات القلوب، وتغلغلت في الأذهان عاطفة تقليد المدنية الغربية بانفتاح متهور على مظاهرها الخلابة السرابية، على حساب عاطفة تقليد الحضارة الإسلاميّة المنبثقة من النبوة المحمدية الشاملة .
نعم، لقد أصبح الغربُ لنا كعمروبن لحي للعرب، والمالُ فينا كالأصنام في قبائل الجاهلية، وبالتالي أصبحت الحرارة القلبية الإيمانية مُتَلاَشِيةً في جنب الحرارة الغريزية الشهوانية، والروحُ الدينية مضمحلةً إزاءَ المادية الرعناء ومغرياتها المدغدغة للغرائز.
على كل، فإن كل ذلك إن دلّ على شيء فإنما يدل على مدى سموِّ ما تَتَبوَّأُه النبوة المحمدية من المكانة في تاريخ الإنسانية، وعلى أن ما تعاقب على تاريخها من الرقي والانحطاط إنما هو من أثر هذه النبوة في التاريخ وجودًا وعدمًا، وقربًا وبُعدًا؛ فقد تعفّنت الإنسانية في غيّها الآسن قبل أن توضع هذه النبوة في الأرض، ولما وُضِعَتْ فيها وانعكست أنوارُها على القلوب والأجسام، ازدهرت الإنسانيةُ مُتَأَلِّقَةً في الرواية الإلهية، وتحولت خاماتُ الجاهلية إلى عجائب الإنسانية. ثم إذا بَعُدت الشُقة بين الإنسانية والنبوة وفَصَلَها عنها أمدٌ بعيدٌ كما في هذا العصر، انتكست الإنسانيةُ راسًا على عقب، وعادت إلى سيرتها الأولى، وجعلت تهيم في كل وادٍ من أودية المادية الخضراء تتوسع فيها وتتعمق، من حيث تُغْفِل الدينَ، وتُهْمِلُ أحكامَه وقوانينَه إلا فيما يخدم المصالح الدنيويةَ؛ حيث تُطَوِّعُ كثيرًا من أمور الدين لِتوسعة نطاق المادية ومضاعفة نعيم الدنيا وترفها ومباهجها ومسرّاتها؛ حتى استحالت الوسائل إلى المقاصد، والمقاصدُ إلى الوسائل؛ أو اختلطت إحداهما بالأخرى اختلاطَ الحابل بالنابل فآثرتِ الماديةَ لاخضرارها ورونقها، على المعنوية لعدم رونقها السرابي الخادع.. وهكذا حَطَّمَتِ الإنسانيةُ بنفسها مكانتَها اللائقةَ بها، وارتكست في أوحال الدناءة والإسفاف .
ولا تزال تُمرّغ خَدَّيْها تحت مواطئ المادية منهومةً فيها من حيث لاتشبع منها ولا تستغني عنها؛ بل تحس بشدة افتقارها إليها بقدر ما تلهث وراءها، كما تزال تنسلخ عن الشريعة الغراء وتَخْسَرُ الإيمانَ والآخرة؛ فلا هي تهجر الماديةَ فتربحَ آخرتَها، ولا هي تستوفي الماديةَ فتشبعَ منها؛ فأصبحت كالطائر الذي قُطِعَتْ رجلاه وأُطِير في الفضاء فأخذ يتأرجح بين الصعود والهبوط، لايجد في الأرض مقعدًا ولا في السماء مَصعدًا .
إن النوع الإنساني اليوم يتقدم إلى الأمام أشواطاً بعيدةً في النهضة المادية، من حيث تراجع إلى الوراء أشواطاً أبعدَ منها في حقل الدين والإيمان، ولن يزال الأمر يتدرّج في الانحلال والتفاقم، والزندقة والإلحاد، حتى لايبقى في الأرض “الله الله”، فعندئذ ينفخ حادي القافلة البشرية في صوره؛ إيذانًا بانتهاء الرواية الإلهية بآخر فصلها المنطوي على الأشرار، إذ لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس .
ولا يَغُرنّك ما تشاهده من أن الإنسان يصنع اليوم من الخوارق مايُذْهِل العقولَ، ويخترع من الأشياء مالم يخطر للأسلاف على بالٍ، حتى لقد تَسَنّىٰ لها ركوبُ الطيارة على متن الجو، والصعودُ إلى فلك القمر بيسر وسهولة: لايغرنّك ذلك؛ لأن مجرَّدَ النجاح في الوسائل لايضمن تحقيقَ الغاية القصوٰى، ولأن الله تعالى إذا أراد إهلاكَ النمل جَنَّحَهَا بأجنحة وهَيَّأَ لها أسبابَ الطيران.
وإن الإنسان لن يتخلّص عن مدارج الهبوط المتواصل في درك الضلال والحيرة والشقاء، إلاّ إذا عاد أدراجَه نحو النور المحمّدي الوهّاج الذي لايزال على أصله رغم كل محاولة بُذِلَتْ وتُبْذَل لإطفائه، لأن الله الباقي الحيّ الخالد هو الذي ضمن بقاءَه ساطعًا رغم كل العواصف الهوجاء والرياح العاتية .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1429هـ مارس 2008م ، العـدد : 3 ، السنـة : 32.