الفكر الإسلامي

بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب : أبو أسامة نور

       تعلُّم الدين سهلٌ جدًّا على من يحرص عليه؛ فلك أن تقرأ على أحدٍ الرسائلَ الدينيةَ التي أُلِّفَتْ لهذا الغرض . فإن لم تجد الفرصةَ للقراءة ، أو صَعُبَتْ عليك لطول العمر، فلك أن تَسْمَعَها من أحد يقرؤها عليك . والحاجةُ ماسَّةٌ لذلك إلى أن يُوجَد في كل مدينة عالمٌ أو عالمان يُكَلَّفَانِ هاتين الخدميتن : الإقراء والإسماع .

       وتكليف الخدمتين يَتَأَتَّى مُتَمَثِّلاً في أربعة وجوه:

       1- أن يُقْرِئ العالم أو العالمان من يقصدهما للقراءة .

       2- وأن يُبَيِّنا المسألةَ لمن يسألهما عنها .

       3- وأن يُخَصِّصا يومًا في أسبوع يجمع فيه الناسَ ويقرأ عليهم كتابًا في المسائل يستمعون له. وينبغي أن يشمل الكتابُ مسائلَ وأحكامًا في كل من الصلاة والزكاة والصيام والحج والاجتماع والمعاملات وما إلى ذلك .

       4- وأن يُخَصِّصا يومًا في أسبوع أو أسبوعين يعظان فيه الناسَ موعظة تشمل الترغيبَ والترهيبَ . وإنّما أفردنا مجلس الوعظ من مجلس تبيين المسائل؛ لأن التجربة أكّدت أن الوعظ لايمكن أن يسع تبيينَ المسائل الفقهية بشكل مستقل مُشْبـِع ، لأن مناسبة الوعظ في الأغلب تخلّ بضبط المسائل بدقة ، ثم إن المستمعين إنما يحضرون مجالسَ الوعظ ليستمعوا إلى موادّ وأمور طريفة ؛ فينبغي أن تشمل المواعظ موادَّ الترغيب والترهيب .

       فهــذه الأمــور الأربعـة ينبغي أن يقوم بها عالم أو عالمان في المدينة ، يحتمل أبناء المدينة رواتبهما . وذلك لن يكون شاقًّا عليهم ؛ حيث إن أهل المدينة يجمعون من المبالغ ما يدفعونه رواتبَ إلى طبيب فيها يلتمسونه لهم عندما لايُوْجَدُ فيها طبيبٌ . فإذا يبحثون عن طبيب الأبدان عندما لايجدونه ، فلماذا لايبحثون عن طبيب يُعَالِجُ أمراضَهم الباطنيّةَ ؟ أ ليس علاجُ الأمراض الباطنية أوجبَ من علاج الأمراض البدنية الظاهرة ؟!.

       وهذا المنهجُ التعليميُّ كان للرجال . أمّا النساءُ فيسهل عليهنّ أن يقرأن كتابَ المسائل الدينية في بيوتهن ، مثل «بهشتي زيور» (حلى الجنة) بالأردية(1) إذا كن مُتَعَلِّمات عرفن القراءة. أما إذا لم يكنّ مُتَعَلِّمات ، فلهن أن يسمعن كتاب المسائل من أولادهن يقرؤونه عليهن في أي وقت من أوقات الفرصة. وإن لم يَتَيَسَّر ذلك ، فعليهن أن يُوَجِّهن بناتهنّ بالتعلّم ، حتى يعدن مُعَلِّمات لغيرهن . وينبغي أن يتسلسل هذا المعروفُ في المجتمع الإسلامي . فهذا منهج مُيَسَّرٌ موجز لتعلّم الدين، يجوز أن يستفيد منه كل رجل وامرأة ، فيعود عارفًا بمسائل الدين ، ويؤدي ذلك إلى الحبّ والوئام في المجتمع الإسلامي ، ويتمّ دينُ كل واحد .

القرآن الكريم بمنزلة المتن والحديث والفقه بمنزلة شرح له

       القرآنُ الكريم بمنزلة «المتن» وكل من الحديث الشريف والفقه بمنزلة شرح له ؛ من هنا قال الفقهاء : «القياسُ مُظْهِرٌ لا مُثْبـِتٌ» أي إنّ كلاًّ من الحديث والفقه أظهر مَعَاِنِيَ القرآن ومَطَالِبَه ؛ فمثلُ ذلك مثل صندوق مُقْفَل عليه ، ففُتِحَ بالمفتاح ، فظَهَرَ ما بداخله من الجواهر؛ فالجواهِرُ لم تَنْشَأْ بالمفتاح، وإنما كانت مَخْفِيَّةً في الصندوق، فأَظْهَرَها المفتاح ؛ فالحديث والفقه مفتاحٌ للقرآن، يفتح ما فيه من الخزائن ؛ حيث إن العلوم إنما تفجّرت من القرآن الكريم . ومثاله ما قال الشاعر:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ

وَكلُّ إِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشِيْــرُ

       هناك حبيبٌ – مثلاً – يرتدي في الصباح ملابس خضراء خضرة خفيفة ، وفي المساء ملابس بغير هذا اللون ، وهكذا استبدل بها غيرَها في شتى الأوقات ؛ فغيرُ المحبّ لن يعرفه في هذه الملابس المختلفة الألوان ؛ ولكن المحبَّ يقول كما قال الشاعر الفارسيّ :

       مهما ارتديتَ من الملابس المختلفة الألوان؛ فإني أعرف أُسْلوبَ خطو قامتك (فلن تَلْتَبـِس عليّ معرفتُك) .

       فالذي يحبّ القرآن ، يعلم أن كلاًّ من الحديث والقرآن مُتَفَرِّعٌ منه ؛ فكان الشيخ محمد مظهر النانوتوي رحمه الله (1232-1302هـ = 1816-1886م) يقول للشيخ الكبير رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله (1244-1323هـ = 1829-1905م): إن الحديث قد يصير لديك فقهًا حنفيًّا ؛ فهؤلاء العلماء المتعمِّقون يَتَراءَى لهم الفقهُ في الحديث. كما كان العلماء الربّانيون يرون صنعَ الله في كل شيء، ولكنهم كانوا لايرونه تعالى مُتَمَثِّلاً فيه كما يزعم المشركون. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا .

الناسُ لايبالون اليوم بالمندوبات؛ فلا يهتمُّون بتعلّمها وتعليمها

       الناسُ عادوا اليوم لايهتمُّون بالمندوبات، وإن كانت هي لاتبلغ درجةَ الواجبات والفرائض في الواقع العمليّ ؛ ولكنها واجبة فيما يتعلق بالتعلّم والتعليم . وذلك لسببين ، الأول : لكي يعلم الناس أنها مندوبات فلا يظنّونها واجبةً ، ولا يظنونها غيرَ مشروعة ، وتلك حاجةٌ مُلِحَّةٌ لإصلاح العقيدة . وبناءً على ذلك وجب العلمُ بالمباحات والمستحبّات . والثاني : لأن بركاتها وثمراتها غير قابلة للحصر ، فلا يرغب عنها إلاّ من ليس لديه علمٌ بها ؛ فإن علمتَ بما فيها من البركات والثمرات الحسنة ، لقلتَ : و أسفى على أنّي ما علمتُ بها فكنتُ في خسارة أيّ خسارة ؛ حيث ما جَنَيتُ هذه الجواهرَ الثمينةَ . وتلك حاجة كماليّة فهي غير مُلِحَّة . فالمستحباتُ التي ذَكَـرَها القرآنُ ليست دونما فائدة ، وإنما جَاءَ ذكرُها تعليمًا لها . وذكرُها من هذه الناحية واجبٌ . ولو أَحَبَّ الدينَ أحدٌ لعَرَفَ قيمة هذه المندوبات وغيرها ؛ لأن المحبّ من عادته أنه يتحسّس كلَّ شيء – مهما كان تَافِهًا – يحبّــه الحبيب ، فإذا علم ما يحبّه حَاوَلَ أن يأتيَه كلَّه ، ولا يفوته شيء يحبّه هو . ولو حَظِيْنَا بهذا السلوك الذي يَحْظَى به المحبّون الصادقون لعلمنا مدى قيمة هذه المندوبات ، ولأدركنا أن ذكر الله لها رحمة بنا كبيرة ، وذكر رسوله ﷺ لها حبٌّ لنا أيّ حبّ ، ولآمنّا أن في تفصيلهما لنا كبيرُ فائدة وعظيمُ منّة ؛ حيث ذَكَرَا لنا كلّ شيء فيه رضاه تعالى . ولو اكتفتِ الشريعةِ بذكر الواجبات والفرائض ، ولم تذكر المستحبات ، لقلق المحبّون والمؤمنون الصادقون ؛ لأن المحبين لا يقتصرون على الواجبات التي يرونها وظيفةً لهم لافكاك لهم منها ، وإنما يبتغون ماوراءها من غير الواجبات التي تُقَرِّبُهم إلى الحبيب زُلْفَى . ألا ترى أن خادمك الذي يعمل براتب شهريّ ، يكتفي بالواجبات المُحَدَّدَة ولا يزيد عليها شيئًا ، أما خادمك الذي رَبَّيْتَه منذ الصغر ، فهو يفديك بنفسك ؛ فهو لا يكتفي بالواجبات المفروضة عليه ، وإنما يعمد إلى كل ما يرضيك ويُقرِّبُه إليك ؛ فهو يغمز رجليك ، ويهزّ عليك المِرْوَحَةَ ، ويُهَيِّء لك كل ما تحتاج إليه منذ استيقاظك من النوم ، ولا يُفَكِّر قطّ أن هذه الأعمال ليست من وظيفته ، فلماذا يقوم بها ؟ إن فداءه لك ، واطّراحه عليك ، وحبّه الخالص لك يدفعه إلى أن يعمل كلَّ ما تحبّه أنت من صغار الأعمال وكبارها .

*  *  *

*  *

*

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1428هـ = نوفمبر – ديسمبر 2007م ، العـدد : 11 ، السنـة : 31.


(1) وهذا الكتاب للشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله، وهو مُتَدَاوَلٌ في المجتمع الإسلامي في شبه القارة تداولاً لايدانيه فيه كتابٌ دينيّ غير القرآن الكريم . المترجم

Related Posts