دراسات إسلامية

بقلم : الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

       المرء صنيع بيئته ، إذا كانت البيئةُ صالحةً نَشَأَ صالحًا وإذا كانت فاسدةً نَشَأَ طالحًا ؛ فالبيئة مدرسة تُشَكِّلُ فكر الإنسان وسلوكه .. ومَصْبَغَةٌ تُلَوِّن مشاعره وأحاسيسه .. وقوَّةٌ قويّة يصير أمامها عاجزًا كالميِّت في يد الغسَّال .

       ماهي مقوِّمات البيئة المعاصرة ؟ وماهي العوامل التي تُشَكِّلها ؟ أحاول الإجابة عن هذا السؤال في السطور الآتية .

       ومن الممكن أن تكون إجابتي مختلفةً كلَّ الاختلاف عن إجابة رجال الاجتماع وخبراء البيئة، وتحليلي لايتفق وتحليلهم . إنني لست رجل اجتماعٍ ولاخبيرًا بالبيئة ، غير أني أدرس البيئة والعوامل المؤثرة فيها من منظور أخلاقي وإنساني.

       فإذا تتبعنا العوامل التي تُشَكِّل هذه البيئة ، وتجعلها قوةً من الشر لاتُقْهَر وتَيَّارًا من الفساد لايُسَدُّ فهي كما يلي :

       1- جهاز التلفاز : إنّ التلفاز له دور كبير في تشكيل البيئة المعاصرة ، فقد غزا كل بيت ، وجاس خلال الديار . وهو يعرض الحياة الغربية بشرورها ومساوئها ويُغْرِيْ بمحاكاتها وتقليدها . لذلك إنّ المجتمعات الشرقية تحذو حذو المجتمعات الغربية ، كما أنه ينشر الأفكار والنظريات المادية ويفرضها على المجتمعات ، ويساعد الشركات التجارية في ترويج السلع بطرقٍ مغريةٍ مثيرة . ومن أهم ما يمتاز به هو عرض الحقائق على غير طبيعتها، وتدمير القيم الأخلاقية ، وبث الدعايات الهدّامة ، وتعظيم التافه وتحقير العظيم .

       هذه آلة كالآلات الأخرى ليست شرًا محضًا ولاخيرًا محضًا ، وإنما هي تخضع لإرادة الإنسان واستخدامه ، إلا أنّ هذه الآلة اليوم في يد أعداء البشرية ، وعُبَّاد المادية ، وأصحاب الحياة الدنيا الذين لاتهمهم الحياة الآخرة .

       فما أكثر ما نرى من إملاءاتٍ لهذه الآلة الهدامة على البيئة !

       2- شبكة المعلومات الدولية : ومن أهم العوامل المؤثرة في البيئة شبكة المعلومات الدولية؛ فهي أحدثت انقلابًا عظيمًا في دنيا الاتصال والاطلاع؛ فالإنسان يستطيع أن يحصل – عن طريقها – على أحدث المعلومات في مختلف مجالات الحياة ، ويطلع على أوضاع العالم لحظة فلحظة ، وهو قابع في بيته ، هذا في جانبٍ ، وفي جانبٍ آخر يُنْشَر – عن طريقها – إباحية ومنكر وفحشاء بشكل لايتصور. كما أنّ المراهقين والشباب يتعارفون – عبرها – بالفتيات ، مما يُسَهِّل لهم الطريق إلى الممارسات الجنسية . لقد أثـَّرت شبكة المعلومات الدولية على البيئة تأثيرًا كبيرًا ، و قلبتها رأسًا على عقب .

       3- الصحف والمجلات : ومن العوامل المؤثرة في البيئة الصحفُ والمجلات . وهي وسيلة كالوسائل الإعلامية الأخرى ، وفيها من المضار والمنافع ما في الوسائل الأخرى من تغطية الحوادث من وجهة نظر معينة ، وتشويه الحق وتمويه الباطل ، وعرض الحقائق على غير ما هي عليه .

       ومن أعجب ما في الصحف والمجلات من المفارقة العجيبة والتناقض الغريب أنها بينما تعرض في زاوية خيرًا إذ هي تعرض في زاوية أخرى شرًا ، وفي صفحة دواءً ناجعًا يشفي من الداء العضال وفي أخرى سمًا ناقعًا يقضي على الحياة : فترى في زاوية من صحيفةٍ أو مجلّةٍ دروسًا للشباب في علو الهمة، والمحافظة على الوقت ، وتكوين الشخصية ، والقيام بمعالي الأمور، والصعود إلى أقطار السماء وما إلى ذلك ، وفي زاوية أخرى منها الحياة السينمائية بجميع ألوانها : فنجوم الأفلام تُسْتَعْرَض أحوالهم وأعمالهم وأدوارهم في الأفلام المختلفة ، وتُعْرَضُ صورهم المغرية ، ونجماتها تُقَدّم أحوالهن وأعمالهن وأدوارهن ، وصورهنّ العارية أو شبه العارية .

       فالقارئ الذي يقرأ في مجلةٍ أو صحيفةٍ لايحصل له إلا مزيج من التناقض الغريب ، لايعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة .

       4- المؤسسات التعليمية : من أهم العوامل المؤثرة في البيئة المؤسسات التعليمية ونظامها ومنهجها التعليمي . الهدف الأساسي من التعليم في بيئتنا هو تخريج معلم أو أستاذ أو عالم أو اقتصادي أو سياسي أو موظف أو مهندس . فتحقيقًا لهذا الغرض وُضِعَ المنهج التعليمي ومقرراته الدراسية . وأما الأخلاق والتربية التي تجعل الإنسان إنسانا فلا يُعِير لها المنهج أيَّ اهتمام.

       وأشدُّ جوانب التعليم خطورةً وأكثرها فسادًا في المدارس والكليات والجامعات هو التعليم المختلط ، والفرص المتاحة لاختلاط الفتيان بالفتيات .

       وقد زاد الطين بلَّةً تعليم الجنس كمادةٍ لازمةٍ، مما أتاح للفتيان والفتيات والمراهقين والمراهقات فرصةَ ممارسة الجنس دونما خوف ولا حياء .

       5- دُورُ السينما : ومما يؤثر في البيئة دُورُ السينما وأفلامها المعروضة .

       وقد كانت دور السينما في الماضي تتكفل بنشر الفواحش ، وتدمير الأخلاق ونشر المجون في كل مدينة . وأما اليوم فقد اعتاض عنها الناس التلفاز ، ووضعوه في منازلهم حتى يكون في متناول أيديهم وتحت تصرفهم ، وليس معنى ذلك أنَّ دور السينما قد ذهب عصرها وخفت صوتها، بل سوقها نافقة ، وسلعتها رائجة ، يذهب إليه عدد كبير من الناس ، بعد أن يلاحظوا لاصقاتها ذات الصور الخليعة على الجدران وأسطوانات الكهرباء ومفارق الطرق .

       6- الأسواق والمحلاَّت التجارية : ومما يؤدي دورًا هامًا في تشكيل البيئة الأسواقُ والمحلات التجارية التي تُباع فيها أدوات التجميل والأزياء والملابس الفاخرة التي تُعْنَى بالتجميل أكثر من التستر. يُقْبِلُ الرجال والنساء على هذه الأسواق والمحلات التجارية يشتروا الموضات والطرازات الحديثة ؛ ليصبحوا مثالاً للرجال والنساء في المجتمع ويُغروهم بالاقتداء .

       7- الألعاب والمباريات : ومن العوامل المؤثرة في البيئة الألعاب والمباريات فقد فُتِنَ الناس صغارهم وكبارهم بهذه الألعاب ونجومها . فهم يشاهدون المباريات في الملاعب ، وعبر التلفاز ، ويهيمون بها هُيامًا ، وقد بلغَ من تأثير هذه الألعاب أنّك إذا سألت صغيرًا أو مراهقًا ماذا تريد أن تكون في المستقبل . يقول: أريد أن أكون لاعبًا مشهورًا في كرة القدم أو كرة المضرب أو الكركيت أو مثل فلان اللاعب .

       8 – النغمات الموسيقية : ومن العوامل المؤثرة في البيئة النغمات الموسيقية ، وقد انتشرت وسائل الموسيقي في المجتمع انتشارًا عظيمًا؛ فتسمع النغمات في المنزل والمحل والشارع والطريق والسكة ، وفي السيارة والحافلة والطائرة ، وفي كل مكان حيث وصل الإنسان .

       فكم من أطفالٍ و كم من فتيان إذا ألقيت إليهم سمعك سمعتهم يتغنَّون بالأغاني ، كأنهم أعضاء فرقة موسيقي تعلموها على مغنِّين ماهرين.

       9- المنتزهات والحدائق العامة : ومما يؤثر في البيئة ظاهرة المنتزهات والحدائق العامة ، يختلف النّاس إليها ليتنزّهوا فيها ويستنشقوا الهواء العليل ويتمتعوا بروية المنظر الجميل ، ويُبْعِدوا عن أنفسهم التعب والعناء ، ويستعيدوا النشاط والراحة ، أو يمارسوا فيها أنواعًا من الرياضة البدنية من الوثب أو الجري أو السير وما إلى ذلك.

       بجانب ذلك كله أنّها مأوى آمن للشباب المنحرفين الذين يقابلون فيها الفتيات اللاتي يضربن لهم موعدًا ، ويفضون إليهن بذات صدورهم . فهذه الظاهرة أيضًا تؤثر على البيئة تأثيرًا كبيرًا.

       10- المادية الطاغية : ومما يؤثر في تشكيل البيئة المادية الطاغية التي استولت على المجتمع وجرت منه مجرى الدم ، فأفراده يقدسون المال والمادة ، ويسعون لإحرازهما سعيًا حثيثًا ، ولايبالون في ذلك بدين ولا شريعة ولاخلقٍ ولا إنسانية .

       فالقيم المادية لها سلطان على أفراد المجتمع ، وأما القيم الدينية فلا قيمة لها ولا أهمية .

       فهذه عوامل مؤثرة تَتَبَّعْتُها واسْتَقْرَأْتُها ، فهي تُشَكِّل بيئتَنا المعاصرة ، وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت البيئة قائمةً على الابتعاد عن الخلق والدين، وقلة الحياء وكامل الفحشاء ، والعناية الزائدة بالمادية والتهام اللذات الدنيوية ، وإهمال الحياة الآخرة .

       وطبيعيٌّ أنّ من نَشَأ في هذه البيئة ، وذاق مرَّها وحلوها ، واكتوى بنارها، نَشَأَ لاهيًا عن الخلق والدين والإنسانية ، قليلَ الحياء ، نهمًا للمال، جشعًا للّذات .

       نحن في أمسِّ حاجةٍ أن تكون بيئتنا صالحةً صافيةً قائمةً على الدين والخلق ، والأمانة والعفاف والمروءة ، وذلك لايمكن إلا بتجفيف منابع الشر في البيئة والقضاء على مصادر الفساد فيها .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.


(*) أستاذ بالجامعة الإسلامية : دارالعلوم ، ديوبند .

Related Posts