دراسات إسلامية
بقلم : أ.د. أحمد عبد الرحيم السايح / جمهورية مصر العربية
إن الدين الإسلامي هو منهج الله الأمثل، الذي يستهدف صنع الحياة والوجود على دعائم مكينة من الحق والعدل، والخير والفضيلة .
ولقد جاء الإسلام، وهو يبتغى هذه الغاية. ويرمي إليها، ويقود نحوها منهجًا متكاملاً. لم يعرف البشر، ولن يعرفوا منهجًا أمثل من منهج الإسلام، وهو يبصر الناس بمكانهم من ربهم، ومكانة ربهم منهم؛ حيث يبين لهم، أن الله ربهم، وهم عباده، ومن حق الربوبية إعظامها وإكبارها. من واجب العبودية أن يعيش المرء في حجمه، وأن يشعر بمكانه وأن يدرك طبيعته.. فهو مخلوق لربه الخالق .
ومخلوق على هذا النحو لإلهٍ له الجلال، والكمال، والجمال، لابد من أن يشعر نحو ربه بكل الإعظام له. والخشوع إليه، من حيث كونه لذلك أهلاً، لما تميز به الإنسان من سائر الخلق بالمسؤولية والتكليف .
خلقه الله سبحانه وتعالى وجعل له رسالة ضخمة، ووظيفة حيوية، جاء لها مستعدًا، ولها مهيِّئاً، ولهذا جاء الإسلام يستهدف الناس في منهجية متكاملة، يتلاقى فيها مع ربه ونفسه، وبيئته ومجتمعه .
نلمس ذلك جيدًا، في كل مجالات الإسلام: في العقيدة، وفي الشريعة، وفي الأخلاق، والسلوك، وفي علائق الإنسان بربه، ونفسه، ومجتمعه، تشهد بهذا كل أركان الإسلام وقواعده، من أولها إلى آخرها .
والصيام – وهو أحد هذه الأركان والفرائض التي فرضها الله على المسلمين، وأمرهم بها، ودعاهم إليها – إنما تتمثل فيه هذه الجوانب، ويستهدف هذه الأهداف بكل صور القصد، والإحاطة والشمول، وبجميع الأبعاد والأعماق، في طوايا ومظاهر النفس والفرد، والمجتمع والأمة.
يلبى داعيتهم، ويغطى حاجتهم، ويصوغ الحياة والأحياءَ. مع بقية قواعد الإسلام وأركانه، ويعيد تشكيلها على أساس من الطهر والنقاء، والإيجابية والبناء.
إن للصوم أهدافًا حيويةً، وغايات عملية، ترتبط كلها أيما ارتباط بخواطر الوجدان والشعور، وجوانب الأخـلاق والسلوك، وتدور جميعُها في ذلك المنهج الرباني، لبناء النفس، وتكوين معالمها، وإعداد مقوماتها، وصقل أمرها؛ لتنهض بأمانة الدين، وأمانة الدنيا .
والتقوى بطبيعة الحال أولُّ هذه الأهداف وأوسعها دائرة. وأكثرها حجمًا، وأجزلها عطاءً. وأبرها بأمور الدنيا، وأوفاها بشؤون الآخرة .
وتقوى الله في مدلولها العام ، ومفـومها الشامل ترجع إلى اتقاء الإنسان كلَّ ما يضره في نفسه، وفي أسرته وفي مجتمعه، وما يحول بينه وبين المقاصد الإنسانية والكمال الممكن .
وما شرعه الله في رسالة الإسلام أمرًا ونهيًا وسيلة لهذا الكمال النفسي، والكمال الخلقي، والكمال الفكري، والكمال السلوكي .
إن التقوى هي العاصم الذي ينبثق من خلال الصوم، وتنفجر ينابيعه، وتتعدد معطياته في شمول وعمق، بحيث يضع النفس والجوارح في مواجهة حقيقية وأكيدة ، أمام تبعاتها المسؤولة وفي إطارها العام .
وإن للصوم كسائر العبادات في الإسلام، غايات تشريعيةً، أشارت إليها الآية القرآنية في قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: آية 185 .
إن الإسلام لا يدعونا إلى التقوى، ولا يحضنا عليها، إلاّ وهو يوجهنا إلى بواعثها ويقودنا إلى روافدها، ويبصرنا بمواقع استلهامها، ومواطن الحاجة إليها، والعمل بها كخصلة جامعة، تمسك لبنات المجتمع، وتشد بنيانه، وتوثق عراه، وتحيله إلى خلايا إيجابية حية متعاونة، تجعل الإنسان لايقصر عن نجدة ، ولا يضيق بمروءة، ولا يتبرم بهتاف، ولا يطمع في حق ليس له، ولا يفرط في واجب. إنما يعيش في أمته تقيًّا خالصًا صافيًا .
فالإسلام الحنيف يدعونا في صيام شهر رمضان، أن نمنح التقوى حقها الواجب، وقدرها المستطاع، من الطاقات والقدرات، في النفوس والضمائر، وفي شتى صور التعامل وأنماط الحياة.
ومن شأننا أن نسارع إلى التقوى ونستبقها. ونجعلها زادنا إلى الله، وعدتنا في طريقه، نستلهم منه يقظة الحسن ، وحيوية النفس، وصحوة الضمير، واستواء الخلق، واستقامة السلوك.
إن تقوى الله تبارك وتعالى حين يحضنا الإسلام عليها، ويدعونا إليها، إنما يدعو إلى الوقاية الذاتية، والمتابعة الأمينة، والمحاسبة الدائبة، والمراجعة الدقيقة، لكل ما يصدر عن الإنسان.
وإذا كانت التقوى هي الغاية التشريعية، التي أشارت إليها الآية الكريمة، في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وإذا كانت (التقوى) هي حالة تتكون في النفس، نتيجةً للإيمان بالله، فما دور الصوم في إيجاد هذه الحالة؟
إن الصوم هو المعاناة العملية، لتوطين النفس ورياضتها، على تربية النزعة الإيمانية في الفرد والمجتمع، ويتحقق ذلك من خلال مظهرين:
المظهر الأول: مظهر الرياضة على الصبر، والخشونة في مواجهة الحياة .
المظهر الثاني: مظهر المراجعة العامة، وكشف الحساب مع النفس، في دورة تدريبية أمدها شهر إسلامي، يتجه الإنسان المسلم في هذه الدورة إلى الله تعالى ، طالبًا العون على مواجهة التحديات، ويتكاشف فيها الإنسان مع نفسه، محاسبًا لها، قبل أن تُحاسَب، ثم يعود إلى ربه تائبًا منيبًا .
فإذا الضمير يقظ حي، والنفس صافية، والوجدان دقيـق ورقيـق، والشعور حساس ومرهف، والصدر سليم ونقي، والقلب طهور وزكى، والخلق سوى، والسلوك رضيّ، والمجتمع كله في قصد واستقامة، وسلام وألفة، وحب وإيثار، ومشاركة وجدانية رفيعة. إنها جميعًا إشراقات الصوم، يصل مداها إلى كل بعد ويتغلغل أثرها في كل عمل.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.