الإدب الإسلامي
شعر: الشاعر الإسلامي الأستاذ عبد الرحمن صالح العشماوي / الرياض
شَجَرُ البيان بَدَا أمامَك أخضرا
شجرٌ سقَتْه المكرُماتُ فأَثـْمرا
أغصانُه ابتهجَتْ تَمُدُّ ظِلالَها
موصولةً بالبيتِ في أُمِّ القُرَى
في تُرْبَةِ البَلَد الحرام عروقُها
تُسْقَى بزَمْزَمَ فيه ضاحكةَ الثَّرَى
شَجَرٌ سقاه الوحيُ غَيْث بلاغةٍ
صارتْ به الصحراءُ روضًا مُزْهِرَا
لمَّا جَرَى نَهْرُ البيانِ، تبرَّجَتْ
أغصانُه فَرَحًا به، لَمَّا جَرَى
واستبشر الكون الفسيح بخصبـِه
فأضاءت الآفاقُ لمَّا استبشرا
شَجَرٌ تحاماه الذُّبولُ فلم يَزَلْ
أَنْدَى على مَرِّ الزَّمانِ وأَنْضَرا
يتناثر الإعجازُ من أطرافه
طَلاً بأشذاء البيانِ مُعَطَّرا
وإليه ترنو عينُ كلِّ خميلَة
تتغيَّث الحُلُمَ الجميلَ الأكبرا
للهِ دَرُّك أيُّها الفجر الذي
طَرَدَ الدُّجَى لمَّا أَطَلَّ وأَسْفَرا
في نوركَ الفيَّاضِ آياتٌ، إذا
تُلِيَتْ على الجبل الأَصَمِّ تأثَّرا
فيها منَ الإعجاز ما لا ينتهي
عَيْنٌ ترى صُوَرًا، وعينٌ لا تَرَى
نَبْعٌ من الإعجاز في قرآننا
يجري على أرض التدبُّرِ أَنْهُرَا
من أين أبدأ قصَّةَ الإعجاز في
آياته؟ ذهْنُ الخيال تحيَّرا
أَمِنَ الفضاءِ الرَّحْب ضاقَ بما حوى
وبما استَكَنَّ من النُّجوم وما سَرَى؟
ومنَ الكواكب، كوكبٌ متألِّقٌ
منها، وآخرُ في الفضاء تفجَّرا؟
أم مِنْ شَماريخ الجبال تمكَّنَتْ
في الأرض، مُطْلقَةً إلى الأُفْق الذُّرَى؟
أم من رمال البيد أَنْعَشَها الحَيَا
فاهتزَّ خصْبًا جَدْبُهنَّ وأَزْهَرا؟
أم من جَفاف الرَّوْض مُنْذُ تَخلَّفَتْ
عنه الغُيومُ وأَخْلَفْتْه تصحّرا؟
صورٌ من الإعجاز في قرآننا
ما شكَّ فيها ذوا اليقين ولا اَمْتَرى
صورٌ تحيَّرت القصيدةُ عندها
عن أيِّهَا تروي الحديث الأَشْهرا
عن ذَرَّةٍ فيها من الأسرار ما
جعل الكبيرَ من العقول الأصْغرا؟!
عن حَبَّة بُذِرَتْ، فَسَبْعُ سنَابِلٍ
ظهرَتْ، وعرْقٌ في التُّراب تجذَّرا؟
عن سرِّ بيت العنكبوت وقد غَدا
مَثَلاً لأَوْهن منزل عَرَفَ الوَرَى؟
عن سرِّ ما في البحرِ من ظلماته
حتى تكادَ العَينُ اَلاَّ تُبصِرا
عن عمقِ أعماقِ البحار وما حَوَتْ
عن كلِّ مَا عَبَر المُحيطَ وأَبْحرا؟
وعن الغيوم السابحات، فبارقٌ
متَلأْلئٌ فيها، ورَعْدٌ زَمْجرا؟
عن شمسنا بشروقها وغروبها
عمَّا تقدَّم دونها وتأخَّرا؟
وعن الهلال إذا أهلَّ مُقَوَّسًا
وإذا أستدار على الكمالِ ونوَّرا؟
عن سرِّ خَلْقِ الناسِ في الرَّحِمِ الذي
ما زَال يَبْهَرُ كلَّ عقلٍ فكَّرا؟
صورٌ من الإعجاز في قرآننا
كانت وظلَّتْ للعجائب مَصْدَرا
صورٌ تُوَجِّهُ مَوْجَ أسئلةٍ إلى
غافٍ ولاَهٍ في الحياةِ تعثَّرا
هَلاَّ سألتَ الكونَ عن أسراره
من قبل أنْ تلهو وأنْ تَتكبَّرا؟
هلاَّ سألتَ كتابَ ربِّك، إنَّه
سيظَلُّ في كَشْفِ الحقائقِ أَظْهَرَا؟
مَنْ عَلَّم النَّحْلَ النِّظامَ فلم يَزَلْ
أقوى على حفْظِ النِّظام وأَقْدرَا؟!
مَنْ أرشدَ النَّمْلَ الدَّؤُوبَ لسعيه
فغدا على حمل المتاعب أَصْبَرا؟!
مَنْ أَوْدَع الإنسانَ مِنْ أسراره
ما لا تُحيط به العقولُ، وصَوَّارا؟!
روحًا وقلبًا نابضًا وبصيرةً
تسمو بفطرته وعقلاً نَيِّرا؟
من علَّم الإِنسانَ علمًا نافعًا
وَحَبَاه أسرارَ الحياة وسخَّرا؟!
مَنْ قرَّبَ الأَبعادَ منه تَفَضُّلاً
حتى تمكَّنَ في العلومِ وطوَّرا؟!
أَوَ ليسَ مَنْ خَلَق الوجودَ وصانَهَ
وبنى موازينَ الحياة وقدَّرا؟!
هذا هو القرآنُ، هذا نُورَه
فينا، وهذي المعجزاتُ كما نَرَى
أَوَ بَعْدَ هذا يستبيح مكابرٌ
كبْرًا، ويرضى كافرٌ أنْ يَكْفُرا؟!
أَوَ بَعْدَ هَذا يُستباح دمٌ على
أرضٍ، ويرضى ظالمٌ أنْ يُهْدَرَا؟
أ يليقُ بالإنسان أنْ يبقى على
بابِ الهوى مُتَذَبْذِبًا مُتَحيِّرا؟!
أيليق بالإنسان أنْ يقسو على
من جاء بالوحي المبين وبشَّرا
أيليق بالإنسان أنْ يَعْصي الذي
فتح الوجود له، وألاَّ يَشْكُرَا؟!
هذا هو القرآنُ مائدةُ الهُدَى
في أَرْضنا، نِعْمَ الضِّيافةُ والقِرَى
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.