كلمــة المحــرر
الاستعمار القديم والاستعمار الجديد كلاهما يتّحدان في أسلوب العمل ، واتِّخاذ «الصنائع» واصطناع «العملاء» وتبنِّي «الرجال» الذين يُسَخِّرهم لآخر الحدود؛ لأنهم بعدما يُصْبِحُون أصيادًا في فُخّه ، لايعود الخيارُ بأيديهم ، وإنّما يصيرون «عبيدًا أذلاّء» لايكون بوسعهم إلاّ التحركُ في إطار إرادة السيّد . والمُؤْسِفُ الداعي للرّثاء لهم أنّهم مهما كانوا صادقي الولاء وبَاذِلِين أقصى الجهود في الأداء ؛ فإنّه – الاستعمارَ : السيّدَ – يظلّ يشكّ في ولائهم وأدائهم ، ويرى أنهم لم يكونوا بعدُ على مستوى الخدمة ؛ فيستمرّ يطلب منهم الجديدَ المزيدَ الذي هو الآخر لا يشفي عليلَه ولا يروي غليلَه ؛ لأن طبيعةَ السيّد عُجِنَتْ – لحكمة يعلمها الله – بسوء الظنّ بالعبيد؛ فهي لا تشبع بأيّ كمّية أو نوعيّة من الخدمة من العبيد ، مهما كانت الكمّيةُ هائلةً والنوعيّةُ ممتازةً .
ذاك أمر يُؤَكِّده التاريخُ ، ويَشْهَدُ به الواقعُ المُشَاهَد المعيشُ اليومَ ؛ حتى لاينخدع الأغرارُ البُلْه الذين لايَرْضَوْن بشكل أو بآخر أن يَتَعَلّمُوا من التاريخ ويَتَلَقَّوا درسًا من الماضي الصارخ والأحداث الجِسَام المكتوبة في صفحات الكتب .
قَفَزَتْ إلى ذهني هذه الفكرة ، عند كنتُ أَسْتَمِع إلى إذاعة «البي بي سي – لندن» في برنامجها الأردي المُقَدَّم فيما بين الساعة :308 والساعة :309 من الليلة المُتَخَلِّلة بين السبت والأحد : 12-13/ رجب 1428هـ = 28-29/ يوليو 2007م . وهو أن أعضاء الكونجرس الأمريكي قد وَافَقُوا على المشروع الذي تمّ إعداده على أساس توصيات «لجنة 9/11» وقد طُرِحَ أمامَ الرئيس «بوش» للتوقيع عليه. ومفادُه أنّ الدعم المُخَصَّص لباكستان لقاءَ قيامها بالإجراءات ضدّ القاعدة والطالبان و«العسكريين» الآخرين إنّما يُقَدُّم لها بعد تفقّد «جدّيتها» و«النجاح المطلوب» في القضاء على مواقع وأوكار «العسكريين». وهناك تفصيلات أخرى خطيرة لهذا المشروع نشرتها الصحفُ وحَلَّلتها الإذاعةُ . وهي كُلُّها تُؤَكِّدُ أن السيّد الأمريكيّ غيرُ مرتاح إلى الرئيس العسكريّ الباكستاني المدعوّ «الجنرال برويز مشرف» بعد جميع تلك «الخدمات الجبّارة المُتَّصِلة» التي قَدَّمها له هذا الرجل المهين ، التي تَمَثَّلَتْ في بيع بلاده كلّها للسيّد الأمريكي؛ والتضحية بدينه وعقيدته وعرضه؛ والانسلاخ من ثوابت دينه؛ وتعريض الشعب الباكستاني للأخطار الهائلة ؛ وفرض الحَظر على النشاطات الدينية؛ وزرع العراقيل في سبيل العمل الحرّ بمقتضيات الدين ؛ وتفويض عدد كبير من الإسلاميين إلى «أمريكا» لتُعَذِّبهم في كل من «أفغانستان» و«أمريكا» و «غوانتانامو» ؛ والتقتيل الجماعي لكثير منهم بأيدي قواته وبأيدي القوات الأمريكية التي تتصرف – حقًّا – مع باكستان تصرّفَ المالك مع أملاكه التي حصل عليها أبًا عن جدّ ؛ وتوريط نفسه وقوات بلاده في «جهاد في غير عدوّ» لايكاد ينتهي ؛ لأنه جهاد ضدّ عدوّ مجهول الهويّة لايعرفه إلاّ «أمريكا» والغرب المتكبر الذي أصبح اليوم ذيلاً ذليلاً لها ، وهو عدوٌّ يتكاثر مع كل محاولة للقضاء عليه ؛ وسيتقالّ إذا تَوَقَّفَتِ المحاولةُ ؛ لأنّه – العدوَّ – عبارةٌ عن ردّ فعل ناشيء عن فعل استعماريّ أمريكي إسرائيلي صليبيّ صهيونيّ شامل . وردُّ الفعل لاينتهي إلاّ إذا انتهى الفعلُ . وردُّ الفعل يَتَمَدَّدُ ، ويَتَطَاوَلُ ، تمدّدَ وتطاولَ الفعلِ .
إنّ «برويز مشرف» قَدَّم الكثير الكثير من «الخدمات» التي غَامَرَ فيها حتى بموروثاته الدينية . وذهب في ذلك إلى حدّ بعيد ، واتخذ الإجراءات التي لايتجرأ عليها أيّ رجل يحمل ذرةً من الإيمان ، وطالتِ الإجراءاتُ «مصالحَ البلاد» التي احْتَمَتْ بها في الوقوف بجانب «أمريكا» في الحرب التي تخوضها ضد الإسلام باسم «الحرب على الإرهاب» . وكان يرجو أنه إن خَسِرَ آخرتَه فإنّه لن يَخْسَرَ دنياه التي اختصرت لديه في كسب رضا سيده الأمريكي ، فإذا به يغدر به ويصفه بأنه «غير صادق في ولائه» و «غير أمين في أدائه» وأنّه غير جدير بأن يوثق به في الحرب التي يخوضها ضد العدوّ المستطير الذي لايقبل الحصارَ !
إنّ ذلك لدرس كبير بالنسبة لجميع الخَوَنَةَ من النخب ، الذين رَضُوْا بأن يكونوا «عبيدًا» للسيّد الأمريكي. وإن العصر عصرُ الدروس والعبر التي لاعهدَ بمثلها للعصور الماضية . ومن بين العبر أن «العبيد» لايعتبرون بمصير العبيد أمثالهم المشؤوم ، الذي سبق أن لَقُوه على يد السيد . [التحرير]
(تحريرًا في الساعة 12 من يوم الجمعة : 18/7/1428هـ = 3/8/2007م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1428هـ = أغسطس – سبتمبر 2007م ، العـدد : 8 ، السنـة : 31.