الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ «حكيم الأمة» المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
رددتُ على خطاب رجل مثقف . وإقناعُ الجاهل شيء جدُّ يسير بالنسبة إلى المثقف الذي لايكاد يقتنع إلاّ بصعوبة بالغة. والخطابُ كان محتواه أن الكسل غلب الناسَ اليومَ ؛ فما المانع من العمل بالأحاديث التي تنصّ على ثماني ركعات أو اثنتي عشرة ركعة . وأهمّني السؤال ورحتُ أبحث عما ينبغي أن أردّ به عليه . ودعوتُ الله أن يلهمني الردّ على تساؤل ذاك العالم الذي وَجَّهَ إلى الخطاب ، فألهمني الله أن أكتب إليه : من البساطة أن العشرين ركعة انعقد الإجماع على كونها سنة مؤكدة ، ولاتجوز مخالفة الإجماع ، والإجماعُ دليل على كون الأحاديث الواردة بأقل من عشرين ركعة منسوخة . ولو شكّ أحد في الإجماع بأن بعض العلماء قال بكون السنة ثماني ركعات ، لكان الجواب أن الإجماع سبق انعقاده هذا القولَ، فلا يُعْتَدُّ بالقول . ولما ثبت الإجماع كانت مخالفتُه مؤديــة إلى الملام والعتـاب . وكان الرجل كتب في خطابه إليّ أن مؤلف «فتح القديــر» يرى العمل بثماني ركعات . فأجبتُ : إن رأي صاحب «فتح القدير» لايُعْتَدُّ به مقابل رأي الجمهور، ولاسيّما لأن عمله كان مخالفًا لقوله؛ لأن قوله كان مجرد تحقيق علميّ، أما عمله فكان بالعشرين ركعة التي دَاوَمَ عليها .
والواقع أن النفس ميّالة إلى السهولة ، والسهولةُ في الثماني ركعات ، فلا ترغب في العشرين ركعة . إن الإنسان يتّبع في الواقع هواه، ثم يستدلّ بما يؤكد ماذهب بــه إليه . من هنا كان المقرئ عبد الرحمن – رحمه الله (المحدث الباني بتي 1227-1314هـ = 1812-1896م) يقول : إن هؤلاء عاملون بالحديث ؛ ولكن «ال» في «الحديث» بدل عن المضاف إليه وهو النفس ، أي هم عاملون بحديث نفوسهم ، وليسوا بعاملين بحديث رسول الله ﷺله +فوسهم ، وليسوا بعاملين بحديث رسول الحد الفعأى ا. وهم يلتمسون من الأحاديث ما يرضي نفوسهم .
قصة طريفة
كما اشتهرت قصة : أن رجلاً سُئِلَ : أيّ حكم من أحكام القرآن أحبُّ إليك ؟ قال : «رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ» (المائدة/114) فهم كذلك إنما اختاروا من الأحاديث الواردة في التراويح الأحاديث التي وردت بثماني ركعات ، وكذلك اختاروا من الأحاديث الواردة في الوتر، الأحاديث التي وردت بركعة واحدة ، على حين إن هناك أحاديث ثلاث ركعات وأحاديث خمس ركعات وأحاديث سبع ركعات . ويروى أن رجلاً جاء إلى مولانا شيخ محمد رحمـه الله (المحدث التهانوي 1230-1296هـ = 1815-1879م) وكان قد صلّى ثماني ركعات خلف واحد من المجتهدين الجدد في دهلي ، وكان شاكّاً في ما إذا كانت التراويح ثماني ركعات أو عشرين ركعة ، وكان المجتهد الجديد يزعم أنه يعمل بالحديث . فقال له الشيخ: إن الأحاديث وردت بالعشرين ركعة كذلك ، فلماذا لم يعمل بها «المجتهد» حتى يكون عاملاً ضمنها بالثماني ركعات أيضًا .
وكان الرجل إنما تردّد في صحة ما إذا كانت التراويح ثمانيًا أو عشرين ركعة بمراودة «المجتهد الجديد» . فقال له مولانا شيخ محمد : إذا بلغك إنذار من قبل مصلحة المال الحكومية بالمبادرة إلى سداد الرسوم المفروضة عليك ، وأنت لاتعلم قدرها المحدّد، وقد سألتَ عنها مسؤولاً في المصلحة، فقال : قدرُها 18 روبية ، وسألت مسؤولاً آخر، فقال: عشرون ، فقل لي بأيّ قدر من المبلغ تقصد مكتبَ المصلحة ؟ قال: بعشرين روبية؛ لأنها إن كانت عشرين لا نحتج إلى سؤال أحد ، وإن كانت أقل منها يفضل المبلغ . ولو قصدتُ المصلحةَ بأقل من العشرين ، وكانت الرسوم عشرين ، فأيَّ رجل أسأله لكي يساعدني بروبيتين أو ثلاث ؟ فقال الشيخ : إذن تأمّل جيّدًا : إذا طُلِبَ منك يوم القيامة عشرون ركعة ، وكانت لديك ثمانٍ فقط ، فمن أين تُوَفّي هذا القدرَ الكبير؟ وإن طُلِبَ أقلّ منها فستفيض لديك باقي الركعات التي قد تنفعك ولا تضرّك . قال الرجل: أحسنتَ! لقد فهمت جيِّدًا ، ولن أنقص أبدًا من عشرين ركعة، لأني اقتنعت كل الاقتناع أن الخير كل الخير في العشرين ركعة لاغير . وما أحسن أسلوبَ إقناع الشيخ ، إنه كان من حكماء الأمّة .
صلاة التراويح والوتر على عهد عمر رضي اللّه عنه
ولا يعنينا ههنا إثبات عدد ركعات التراويح، ويكفينا للعمل ما كان معمولاً به عبر عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فقد كان يصلي التراويح عشرين ركعة ويصلي الوتر ثلاث ركعات . وإن كانت الرواية بذلك في موطأ الإمام مالك رحمه الله منقطعة ؛ ولكنها متواترة بالعمل ، حيث تواترت الأمة في العمل بها. إذا قصد أحدٌ العطّارَ (الصيدلانيّ) لشراء الأدوية ، فلا يسأله عن مصدرها ، أي المكان الذي منه جُلِبَتْ ، و لايقول: ما هي الدلائل على أنها هي الأدوية التي جئتُ أطلبها ، وإنما – لدى الشكّ – يعرض الأدويةَ على بعض معارفه لكي يطمئن على كونها هي هي . فلو قال أحد من طالبي الأدوية للعطار: إنما أقتنع بكونها الأدويةَ المطلوبة لديّ ، إذا أريتني توقيعَ البائع بأنك اشتريتَها منه ، فإن الناس سيقولون: إن هذا الرجل لاحاجة به إلى الأدوية، وسيقول له العطار: إني لن أريك توقيعَ البائع ببيع هذه الأدوية لي ، سواء أ اشتريتَها أم لم تشترها ؟! وكذلك فإن المحققين السلف كانوا لايُجهدون تفكيرهم للمدّعين من السائلين ، وإنما كانوا يذكرون لهم المسألة لدى سؤالهم عنها، ولو سألوا عليها الحجج، قالوا لهم : سَلِ الدلائل عليها أيًّا ممن تثقون به ، لأنه لا فرصة لنا للتقعير والاحتجاج! كان هناك عالم متعمق بمدينة «بهوبال» كان إذا سأله أحد عن مسألة ، أجاب بالنظر في الكتاب وقال : أخي! الكتاب يقول كذا . وإذا سأله أحد عن حديث مذكورةٍ فيه هذه المسألةُ ، قال: أخي ! إني لست مسلمًا حديثَ العهد بالإسلام ، وإنما ورثتُ الإسلامَ كابرًا عن كابر، فكان آبائي كلهم مسلمين ، وكان آباؤهم كلهم مسلمين ، وهكذا إلى عهد رسول الله ﷺ ، فمن كانوا على عهده ﷺ عملوا بما عمل به ﷺ ، ومن كانوا بعدهم عملوا بما عمل به من كانوا على عهدهم من المسلمين ، وهكذا ورث بيتُنا أبًا عن جد ما كان يعمل به ﷺ ، ولذلك لانحتاج إلى البحث عن حديث في مسألة من المسائل ؛ وإنما يحتاج لذلك المسلمُ الحديثُ العهد بالإسلام . وخلاصةُ هذه الإجابة إنما هو قطع النزاع وسدّ الطريق أمام من يحبون فضولَ الكلام . والسببُ في ذلك أن العامة من الناس إذا قيل لهم : إنه جاء في الحديث كذا ، فكيف يعلمون طريقَ الاستنباط؟ إنهم يحتاجون لذلك إلى الفقهاء ، فالأفضل أن يثقوا بالفقهاء في بداية الطريق .
فالعملُ لايحتاج فيه مسلم إلاّ إلى هذا القدر من الثبوت فيما يتعلق بصلاة التراويح ؛ حيث سنّ رسول الله التراويحَ وصلى الصحابةُ على عهد عمر رضي الله عنه عشرين ركعة . أمّا التحقيق فوق ذلك فهو من وظيفة العلماء واختصاصهم ولايعنينا ههنا هذا التحقيقُ الآن . والتراويح يقال لها «القيام» أيضًا ؛ لأنها تخص رمضانَ ، و من هنا سمتها الأحاديث «قيامَ رمضان» وذلك يدلّ على أنها شيء غير صلاة التهجّد ؛ لأنها – صلاة التهجد – لا تخص رمضانَ . وهناك دلائل أخرى تؤكد كونهما – صلاة التراويح وصلاة التهجد – عبادتين مستقلتين مفردتين .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1428هـ = أغسطس – سبتمبر 2007م ، العـدد : 8 ، السنـة : 31.