الأدب الإسلامي
بقلم : المؤلف الأديب الإسلامي الكبير
معالي الشيخ عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
صدر لمعالي الشيخ عبد العزيز عبد الله الخويطر – الأديب الإسلامي الكبير و وزير الدولة السعودي – ترجمة حياته بقلمه ، باسم «وسم على أديم الزمن» و وصلتني منه سبعة أجزاء لحد كتابة هذه السطور . والكتاب منهاج جديد ، وأسلوب بديع في كتابة الترجمة الشخصية . والمؤلف بدوره تحدّث عن سبب تأليفه وعن تركه للقلم حرية الحديث المشبع عن كل طور من أطوار حياته . وبما أن المقدمة نافعـة جدًّا ومثيرة في القارئ رغبة اقتناء الكتاب وقراءتـه، فأحببت أن أنشرها على صفحات «الداعي» من هذه الزواية المخصّصة للأدب الهادف البناء: الأدب الإسلاميّ . وجزى الله المُؤَلِّف على هذا المُؤَلَّف القيم الذي أثرى به حقًّا المكـتبة العربيّة الحافلة ، كما ظلّ يثريها بمُؤَلَّفاته الكثيرة المفيدة الطريفة . [ التحرير ]
سبب كتابة المذاكرات
طالما تمنيتُ أن والدي كتب سيرة حياته، وذكر فيها ما يعرفه عن آبائه وأجداده، وأصول الأسرة وفروعها، وما مرت به من حركة واستقرار، وهجرة وتوطن، وشد وترحال وتنقل؛ وبيّن ما توصّل إليه عن وسائل معيشتهم في بداوتهم وحضارتهم. وهو دأب قبائل نجد في السنين الماضية. هم بدو رحل، يتبعون مواقع الكلأ، وسقوط الأمطار، وتجمعهم الموارد وقت الصيف بعد أن يصوح النَبْت، وتجف الغدران .
وقد يغلب فخذ من قبيلة على مورد يكون موعد تجمعهم كل عام ، فيكثرون حوله، ويبدؤون الاستقرار عليه، ويكون لهم نواة تحضّر وسكن، يتبلور تحت حكم شيخ الفخذ أو العشيرة أو القبيلة، إلى نظام مصغر لبلدة: بيوت وطرق ضيقة، وبيوت متراصة، يسهل بناء سور عليها، ويتحصّن أهلها داخلها وقت الحاجة. وما أكثر ما يحتاجون إلى الاحتماء، وفي وسط عادات صحراء، ساكنها مُغِير أو مُغَار عليه. ثم تتشكل دويلة فيها حاكم ومحكوم، ولاجئ ومجاور، وتاجر، وصاحب مهنة، وإمام مسجد، ومؤذّن ومُزارع، وصاحب دكان، وخادم ومخدوم، وفارس.. إلى آخر الصورة المعروفة لنا أهلَ الجزيرة العربية .
هناك عاطفة مضيئة زرعها الله في الإنسان هي حبه لوطنه، وحبه لأهله وأسرته، حبه لجيرته، حبه لأصهاره وأصهار أصهاره؛ ولا تتم سعادته إلا بمعرفته التامة بأمورهم الحاضرة والماضية، ولعل شغفه بالماضي أقوى من شغفه بالحاضر، لأنه يرى بعض الحاضر، ويكمل ما نقص منه بالتصور، أو بالأمل في أن يعثر على ما يكمله، أما الماضي فيحفُّه غموض يشحذ غريزة حب الاستطلاع، وتغلفه نزعة الإصرار على كشف ما غطاؤه يحتاج إلى جهد لنزعه، ومعرفة ما تحته، أو ما بداخله .
لهذا تمنيتُ اليوم أمنيةً أعرف أنه من المستحيل أن أصل إلى تحقيقها، تمنيتُ أنّ جدّي وأبي أخبراني عن أسرتي بالتفصيل، أو تركا أثرًا مكتوبًا. أما عدم إخبارهم لي، فقد حال اليوم موتُهم دون تداركي لما فات منه. أما عدمُ حصولي على الأخبار في حياتهما، أو حياة عمي، وهو والد ثانٍ لي، فحال دون بعضه أني كنت صغيرًا ليس بإمكاني فهمُ ما قد يحاولون إفهامي إياه، وهم أيضًا لديهم من شواغل طلب المعيشة ما يجعلهم في شغل عن هذه النزهة الاجتماعية الأسرية. وهكذا سوف تبقى الأمنية أمنيةً، وسأبقى وإخوتي وأبنائي في ظلام دامس تجاه تاريخ أجدادنا، وحياتهم، ونشأة كل منهم، وما مرّ بهم، إلا من شمعة تضيء هنا أو هناك، تهدي السائر إلى معرفة بداية الأسرة، وعلاقتها بالقبيلة، ومكان القبيلة، وزمن القبيلة، وهو أمر قد يسدّ الرمق، ويبل الريق، ويسكت الجوع والنهم؛ ولكنه قليل، لمن أمانيه طموحه .
لهذا حرصتُ، منذ أن أصبحتُ قادرًا على أن أدوّن عن حياتهم شذراتٍ سَلِمَتْ من جور الزمن، ومن نسيان الأشخاص، أو عدم اهتمامهم. كذلك حرصتُ على أن لا أقع فيما وقعوا فيه. وإنما أدوِّن، ما أمكنني ذلك، الأمر الصغير والكبير؛ ليعرف أبنائي عني ما قد يودّون معرفتَه بالتفصيل، وليعرفوا أباهم في صغره، وما مرّ به من فرح وترح، ومن تعب وراحة، وليعرفوا ما حباه الله به من حسنات، وما قد يكون لَحِقَه من سيئات، وليعرفوا تفكيره في كل مرحلة من مراحل حياته، عمقه أو ضحالته، وليأخذوا من كل هذا صورة واضحة عن زمنه، وسير الناس فيه. وفي هذا مساهمةٌ في رسم صورة لوطننا وللمجتمع فيه.
دوّنتُ سيرة حياتي بتفصيل سوف يتقبله أبنائي، وقد تركت للقلم حرية الحديث فيه؛ فجرى القول رهوًا، وريحه رخاءً، وقد وصلتُ حتى الآن إلى عام 1410هـ ، وَزَاحَمَتْ كتبي، وعملي، هذه المـذكرات، فأرجأت الباقي إلى حين يتسع وقتي لهذا، إذا مدّ الله بالعمر.
وقد كثر إلحاح بعض الإخوان عليّ في إخراج هذه المذكرات، خاصة بعد أن أدركوا، وبعضهم معاصر لطفولتي، أن بعض الأفكار قد تسربت بسرّية إلى بعض ما كتبت في كتابي: «أي بني»، وفي كتاب «إطلالة على التراث»، على الرغم من أني لم أبح بأن المقصود هو أنا، أو والدي، أو أخي، أو صديقي فلان، أو زميلي علاّن.
ومن بين ما أبدوه في إقناعي أن هذه تؤرّخ لجانب من حياتنا في حقبة لم تَعُدْ معروفةً للشباب اليوم، وقد تفيد مادةً للمقارنة في المستقبل، فاستجبتُ ملتزمًا بأن لا أشق على القارئ ببعض التفاصيل مثل ذكر أسماء كل أقربائي أو قريباتي، وذكر تداخل الأسر قرابة ورحمًا، وقد أخفيتُ أيضًا بعض الأسماء، وإن كنتُ أبقيتُ الحوادث؛ لئلا أذكر ما قد يرى أصحابها أو أبناؤهم عدم مناسبة ذكرها، وبهذا الذي فعلتُ التقيتُ مع طلب أصدقائي في منتصف الطريق بعض مذكرات لا مذكرات كاملة .
هناك فكرة أضحت غالبةً في أذهان كثير من الناس عن المذكرات، ومن يكتبونها، وهي أنها تأتي متكلفة، ولا تسير سيرًا طبعيًا، وإنما يعمد صاحبها إلى طلاء حياته بطلاء زاهٍ، ويزخرفها بزخرف حبّره وهو جالس على كرسي الكتابة، وقد يبعده هذا عن أن تكون صورة صادقة لحياته، فيعمد إلى ذكر ما يرفع قدره مما حدث في حياته، ويخفي ما فيه نقص عليها، مما لم يسلم منه البشر، وقد يُكبّر ما هو صغير ويُصغّر ما هو كبير، ويأتي بما في الهامش واضحًا، وما في المتن مخفيًّا يطل على استحياء، ويُلبس العيب ثوبًا قشيبًا، بِخَبرٍ يزيده في أوله أو آخره، ويعمد إلى التدليس مثل التاجر الذي يُغيّر تاريخ بضاعة انتهت مدتها بإلصاق تاريخ جديد، وتُظهر مذكراته في النهاية أنه مخلوق فوق مستوى البشر، خالٍ من العيوب، وليس في أفعاله شوائب، كأنه محاط منذ طفولته بمستشارين خبراء، يبعدونه عن الزلل، ويقربونه من الجادة المستقيمة.
مثل هذه المذكرات تضر ولا تنفع، تضرّ صاحبها لأنها مخالفة للحقيقة، ويفضحها ما يعارضها من حقائق ظهرت في الماضي، أو قد تظهر فيما بعد؛ هذا إذا لم يتبين فيها ومنها تناقض لا يخفى على ذي اللب، وذي الفطنة ممن يقرأ وعقله معه ، وفكره نوره يشع أمامه، ويُعرف به الزائف من الصحيح ، والسقيم من السليم .
ومثل هذه المذكرات تضر قارئها. وأول من تضر من قرّائها أبناء صاحب المذكرات وأقرباؤه، الذين سوف تقتل هذه الحقائق الزائفة فيهم غريزة الطموح بيأسهم من أن أي جهد يبذلونه في حياتهم لن يفيدهم؛ لأنهم لن يصلوا إلى ما وصل إليه مُوَرِّثهم. وقتل الطموح بالتعمد أو بالجهل، جريمةٌ لا تُغْتفَر. وإذا كان لديهم بذرة طموح سابق فسوف تُقتل بسيف حاد في مهدها، وتتلاشى، وتذهب أدراج الرياح، ويبقى صاحبها في مكانه يجتر مجد مورثه الزائف .
وقد يصدق هذا في مجمله على كُتَّاب المذكرات السياسية. والسياسةُ لها طبعها؛ ولكن هذه المذكرات لن يكون فيها من أمور السياسة شيء؛ لأن السياسة وأمورها في عصر كاتب هذه المذكرات موثقة بوثائق رسمية، هي أصدق من تقديره، وأقوى ذاكرةً من ذاكرته، ونحن اليوم في عصر المعلومات المدونة؛ فلا نحتاج أن نتكفف الأفرادَ لنعلم منهم أجواء السياسة مجملة أو مفصلة في زمننا .
سوف أحاول في هذه المذكرات – ما أسعفتني أوراقي ودفاتري، وما لديَّ من وثائق، وما أسعفتني به الذاكرة – أن أكون أمينًا فيما أكتب، صادقًا فيما أنقل، واضحًا فيما أصوّر؛ لأن الحقيقة جميلة، ومن يخالفها فقد ترك الجميل إلى القبيح، ولي عنصر أَثـَرة في هذا، لا أخفيه، وهو أني سوف أتمتع، قبل القارئ، بذكرياتي كما كانت، وربما كانت متعتي بهذا أكثر من متعته، فليسمح لي بهذا، وليغفرلي أن أمشي أمامه، فأنا مستحق ذلك؛ لأن بعض ما سوف أذكره قد دفعتُ ثمنَه سنين من عمري، أشابت الشعر، وأنهكت الجسم، وأضعفت الحواس، وكلٌّ يُغني على ليلاه، وذكرياتي هي ليلاي. والحمد لله على ما وهبني في حياتي، وهو أعلم بما منع، فله الحمد أولاً وآخرًا .
وعلى هذا سوف لا أتحاشى ذكرَ جوانب النقص كما أعرفها، وسوف أبرزها إبرازًا عادلاً، أما الجوانب ليس فيها نقص، ولا تدخل حيز العيوب، فسوف تتكفل بإبراز نفسها، فتدخلي يحتاج مني إلى لجام، حتى لا تجمح بي لذتها، وتَخْتِلني، فتدخلني دون أن أعي في نطاق العاطفة، والعاطفةُ إذا لم تكن إبزارًا ظلمتِ الفكرَ، فيتقاصر حظّه من التحكم في العمل، فيجيء خُداجًا .
سَيرى أبنائي وأحبائي ومن تهمهم الحقيقة رجلاً على حقيقته، وسيعرفون الأسباب التي أوصلته إلى ما وصل إليه من مزايا ونجاح، وسيرون المعوقات التي حالت دون نجاحه وتبريزه في أمر ما، أو حقبة ما .
وأعود مرة أخرى فأؤكد فائدة الحقيقة، والشرف الذي تأتي به لقائلها، والحريص عليها، فقولها يجلب احترام المرء لنفسه قبل احترام الآخرين له.
أما النهج في كتابة هذه المذكرات فسأحاول أن أسير فيما أكتب حسب التسلسل الزمني، إلا ما قد أغفل عنه في مكانه، ثم أتذكره فيما بعد، فسوف أدونه، محاولاً أن لا يكون في مكان ناءٍ. وسوف أعتمد فيما أكتب على الذاكرة فيما يخص الحقبة المتقدمة، خاصة في مرحلة الصغر، وبالذات عن الأمور الشخصية أو شبهها. ويأتي بعد ذلك ما سمعته ممن أثق بهم، رجالاً أو نساءً، أو ما وجدته مكتوبًا مما يتضمن حقائق مباشرة، أو يشير إلى ما قد يفيد. أما ما أتى وافيًا، مقارنة بما مرّ، فهو ما سبق أن دوّنته في وقته، وبطل هذا والأمين عليه والحافظ له، بعد الله، «مفكرات الجيب»، التي منذ بدأتُها لم أتركها، وسوف يكشف ما فيها أهميتها، وما تأتي به من توثيق.
وقد بَدَأَتْ مفكرات الجيب في مرحلة دراستي الجامعية في مصر حيث توجد هذه المفكرات، ولم نكن نعرفها في مكة في ذاك الزمن، وقد يكون السبب أن وقت حاجتنا إليها في تلك الأيام هو وقت الحرب العالمية الثانية، حيث شح بعض ما هو أمر رئيس، دع الأمور التي لا تعدّ من الأساسات حينئذ. وقد امتدت يد الضياع إلى بعض هذه المفكرات أثناء انتقالها من مصر إلى المملكة العربية السعودية؛ ولكن بعض المفكرات الجانبية، مع ما تحتفظ به الذاكرة، عوّض عما ضاع من هذه المفكرات .
وهذا يقتضيني التوضيح أن أذكر أن أخي حمد شحن بعض كتبي من مصر إلى مكة المكرمة، فتعرض بعضها إلى الفقد في المكان الذي كانت تنتظر فيه رأي الرقيب حيالها، وفيها كتب نفيسة جمعتُها، بعناية أثناء دراستي الجامعية، وأرجو أن يكون من (اقتبسها!!) استفاد منها، أما مفكراتي في إنجلترا فقد بقيت في حرز مكين، لأني أحضرتُها معي عند عودتي، بعد أن حصلتُ على درجة الدكتوراة في عام 1380هـ (1960م)، وكان التدوين فيها منتظمًا، وسوف تسمح لي باستعادة كثير من الصور التي تطرب الذاكرة، وتبهج الفكر، وتعيدني إلى عهد الشباب الجميل. حتى بعض ما يشوبه العناء والتعب من هذه الذكريات وتخالطه الصعوبات والمشاق، له لذة في تذكُّره لأنه أصبح في الماضي، ولم يترك ندوبًا أحملها معي اليوم .
وعلى الرغم من أن هذه المفكرات، سواء ما كان منها عن أيام إقامتي في إنجلترا أو بعد ذلك ، مختصرة، ولا تزيد أحيانًا عن رؤوس أقلام ؛ إلا أنها علامات هادية على الطريق، تضمن لي ألا أخرج عن الجادة .
وكان بودي أن أنقل أشكالها وأنواعها، فهي تتغير كثيرًا في حجمها، وفي طريقة رصد الأيام ومسيرتها، وهي تتضمن أيضًا معلومات عامة مهمة، وبعض هذه المعلومات عن المناسبات الثابتة في السنة، وبعضها مما هو ثابت للحقبة كلها، أرقام أو أحصائيات يستفيد المرء من وجودها منظمة قريبة منه.
هذه هي المقدمة التي رأيتها مناسبة قبل الولوج إلى الحقائق التي أشرتُ من البداية إلى قيام الكتاب على أركان ثابتة منها .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1428هـ = أغسطس – سبتمبر 2007م ، العـدد : 8 ، السنـة : 31.