اللغة والأدب
بقلم : الأخ الأستاذ ياسر نديم القاسمي
كلّية معارف الوحي والعلوم الإنسانية
الجامعة الإسلامية العالمية ، ماليزيا
المذاهب الأدبيّة عند العرب:
من المعلوم أن الشعر – وهو أعظم مظاهر الأدب عند العرب- قد طغى عليه التقليد، حتى تحجّرت فنونه، وأغراضه، وأصوله، بل ومعانيه وأخيلته، على نحو يوهم بأن هذا الأدب لم يعرف شيئاً إلا البكاء على الأطلال، والتشبيب في المدح، والسيفَ والفرسَ في الفخر والمباهاة، والناقةَ في الوصف. ولكن نحن إذ نرى فيه مظاهر الجمود، نلاحظ آثار التطوّر والتقدم في جانب آخر، وقد انتهى هذا التطور إلى ذلك التصنّع اللّفظي الذي جعل الأدب عبثاً خالياً من كلّ قيمة إنسانية حقّة. فمن أمثلة التطوّر ما صنع “بنو عذرة” الذين نحوا في الغزل منحى لا يزال يسمّى حتى اليوم بالغزل العذريّ.(23) فبينما كانت تقاليد الشعر الجاهلي تقيّد الشعراء بأسلوبه ومنهجه في قريض الشعر، نرى الغزل العذري الذي انتشر في العصر الأموي يتجّه اتجاهاً روحياًّ، فيوفّر الجهد على التحدث عن لواعج الحب وتباريج الغرام. ويكفي لنا أن نقارن بين الشاعر الجاهلي امرئ القيس، وغزل أحد العذريين كقيس أو جميل، لندرك البون الشاسع بين الفنين والاتجاهين. ومن تلك الأمثلة محاولة أبي نواس في الخروج على تقاليد القصيدة العربيّة، وبخاصّة في قصائد المدح، إذا أراد أن يدعو إلى الإقلاع عن استهلالها بوصف الأطلال والناقة، ليحل محلها وصف الخمر والتغني بنشوتها.(24)
ومن الأمثلة ما ظهر في العصر العباسي من مذهب أدبيّ له جميع الخصائص المذهبيّة، إذ تناوله الأدباء والنقاد بالتحليل النظري، وإيضاح الخصائص المميّزة، كما اقتتلوا في الدفاع عنه، والردّ على كل من هاجمه، وهذا المذهب هو المعروف باسم مذهب البديع الذي اعتبر أبو تمّام ممثلاً له.(25)
ثم تقسيم الأدب إلى مختلف العصور، من جاهلي، إلى أموي، إلى عبّاسي أيضاً من أمثلة وجود المذاهب الأدبيّة عند العرب، وإن كان هذا التقسيم نظرياً يقع موقع الاختلاف عند نقاد العصر الحديث.
الغالبية العظمى للمؤرخين والنقاد تتفق على أن الأدب العربي أصابه الجمود في العصر العثماني، ولم تكن حقيقته إلا عبارات مزخرفة مليئة بالصناعات اللفظية لا يهمّها إلا السجع، حتى ثارت حركات في العالم العربيّ، وتمّ اتصاله بالغرب وظهرت آثاره السلبيّة والإيجابيّة، فشهد الأدب العربي تيارات جديدة في أسلوبه ومنهجه. وبفضل النزعات الغربيّة فيه ظهرت نماذج عربيّة من المذاهب الأدبيّة الغربية من الكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية، والرمزية، وما إلى ذلك. ومن أقوى هذه المذاهب الكلاسيكية والرومانسيّة. بما أن موضوع البحث هو متابعة آثار الكلاسيكية في الأدب العربي الحديث، يجدر بنا أن نخصّص سطوراً لإلقاء الضوء عليها وعلى تعريفها وتاريخها.
الكلاسيكية
تعد الكلاسيكيّة أوّل وأقدم مذهب أدبي نشأ في معقله “أوربا” بعد أن خرج الغرب من وهدة التخلّف والظلام، وبعد أن ابتدأت حركة البحث العلميّ في القرن الخامس عشر الميلاديّ. ذهب الدارسون إلى أن القرن السادس عشر الميلادي هو تاريخ لظهور مبادئ الكلاسيكيّة وأصولها في الأدب الغربي ونقده، وإلى أن القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين عصر لنموّها وازدهارها، وإلى أن القرن التاسع عشر الميلادي زمان لاندثارها وانسحابها من ساحة الأدب. يدلّ على ذلك ما سجّل في الموسوعة العربيّة العالمية: “غلب طابع كلاسيكيّ، وتقليدي على الأعمال الأدبيّة على منوال من سبقوهم من القدماء، رافضين الهيمنة الدينيّة على المجتمع، وداعين إلى تحكيم العقل. ويعد الكتّاب مثل توماس هوبس، وجون لوك، والسير إسحاق نيوتن من روّاد هذا الدور الأدبيّ.”(26)
ظهرت طلائع الكلاسيكية في إيطاليا التي كانت أصبحت مثابــة لعلماء وأدبــاء “بيـزنطــة” بعد سقوطها بيد الأتـراك . نقــل هــؤلاء العلماء المخطــوطات الإغريقيّة واللاّتينية القديمة التي مهّدت طريق روّاد الكلاسيكيّة إلى وضع أصولها، واستخراج مبادئها من الآداب اللاّتينية والإغريقيّة، ومع ذلك لم يكن من حظّ إيطاليا أن تكون المهد الحقيقي للكلاسيكيّة، بل إنها نضجت في فرنسا، حيث قنّنت قواعدها، وأصبحت أرضها التربة التي نمت فيها الكلاسيكية وأينعت. وفيها أنتج الأدباء أدباً كلاسيكياًّ انتقل فيما بعد إلى إنجلترا وألمانيا.(27)
تعريف الكلاسيكيّة
هناك آراء عدّة في أصل كلمة “كلاسيك.” ولكنما يتّفق عليه النقاد هو أنها قد مرّت بتطورات عديدة، وكان لها في كل طور معنى خاص. إنها في أوّل الأمر أشتقّت من أصل لاتينيّ Classic بمعنى الأسطول. ثم أصبح هذا الأصل اللاتيني يفيد معنى “القطعة الواحدة من الأسطول، بعد ذلك أصبحت تدل على الوحدة من أيّ شيء، ثم استخدمت للدلالة على الوحدة المدرسية “الفصل” التي تضمّ مجموعة من الطلاب، وللدلالة على الطبقة الاجتماعية، والمنزلة الاجتماعية الرفيعة، والامتياز، والتفوّق، والأناقة. ومنها استعيرت للدلالة على الأدب الجيد ذي الأسلوب الرفيع الذي يدرّس في المدارس، وأخيراً صارت اسماً لمذهب أدبيّ.(28)
أسس الكلاسيكية
سبق لنا أن نشير إلى أن الكلاسيكيّة ظهرت على أنقاذ الأدبين الإغريقيّ واللاّتينيّ، وذلك لأن حركة البحث العلميّ دفعت الأوربييّن إلى إنشاد ضالتهم العلميّة، وإخفاق رأيتهم في مضمار العلم والفنّ، وإثبات تفوّقهم العلميّ على شعوب العالم. ولم يكن لتحقيق كلّ هذا طريق إلاّ إحياء التراثين الإغريقيّ واللاّتيني الّذَين وصلا إليهم من خلال المخطوطات، والدراسات العلميّة التي أنجزها العلماء المسلمون بعدما ترجمت الكتب اليونانيّة إلى العربيّة. ففي الساحة الأدبيّة اعتمد الأوربيّون على الأدبين اليونانيّ والرومانيّ اللّذين رأوا فيهما النموذج الأرفع للأدب، فتم تنظير الكلاسيكيّة على هذين الأساسين:
1- محاكاة أدباء الإغريق والرومان، وتحليل آثارهم ودراستها، واستنباط الأصول الفنيّة منها التي قامت عليهاالكلاسيكية. وكان من أبرز هذه الآثار ملحمتا “الإلياذة”، و”الأوديسة” لهوميروس، ومسرحيات سوفوكليس، ويوربيدس وغيرهم.(29)
2- الاعتماد على الأصول النظرية التي استخلصها كبار فلاسفة اليونان والرومان، من أمثال أفلاطون، وأرسطو، وهوارس. وعُدّ ما وضعه أرسطو – بشكل خاص – في كتابيه “الخطابة” و “فن الشعر” من الأصول والقواعد المصدر الأساس الذي تعتمد عليه الكلاسيكيّة.(30)
الخصائص العامة للكلاسيكيّة
كل مذهب أو مدرسة تحمل خصائص وميزات تميّزها عن غيرها، وكل من يتبنّى هذه الخصائص مع الاعتماد على المنظور الأساسي يُعد حاملَ لواء المذهب. فالكلاسيكيّة أيضاً لها خصائص يلتزم بها أدباء هذه المدرسة، ويميّزون إنتاجاتهم الأدبيّة بجعلها ممثلّة لتلك الخصائص. نذكر في السطور الآتية أدناه بعض الخصائص العامة للمدرسة الكلاسيكيّة:
1- تمجيد الأدبين اليوناني والروماني، وتطبيق القواعد الأدبيّة التي قرّرها أرسطو.
الدعوة إلى نزعة عقلية متشدّدة، واعتبار العقل أساساً لفلسفة الجمال ومصدراً للقواعد الأخلاقية.
التعبير عن العواطف الإنسانية العامّة كالحب والحقد والغيرة والحسد وغيرها.
1- الاهتمام بالطبقات العليا في المجتمع، وقلّة الاهتمام بالطبقات الشعبيّة والعامّة.
2- الاهتمام بالمسرح أكثر من الشعر الغنائي.
3- الحرص على فصاحة اللغة، وأناقة العبارة، والعناية الكبرى بالأسلوب.
4- اهتمامها بالأدب التمثيلي خاصّة، والمأساة (التراجيديا) بوجه أخص.
5- كون الكلاسيكيّة ذات نزعة خلقيّة على طريقة القوم في فهم الأخلاق.
6- حرصها على جودة الصياغة اللّغوية، وفصاحة التعبير من غير تكلّف ولا زخرفة لفظيّة.
7- اهتمامها بالمجتمع العام، وانصرافها عن الإنسان الفرد.
8- حرصها على الاتساق والتوازن ورسوخ العادات والتقاليد.(31)
ظهور الكلاسيكيّة في الشعر العربيّ:
ذكرنا سابقاً أن من أهمّ الأسس التي اعتمدت عليها الكلاسيكيّة هو تمجيد الأدب القديم من آداب اليونان والروم، وبناء العمل الأدبي على المتقدمين من العلماء والفلاسفة من أمثال أفلاطون، وأرسطو، وهوارس.
فعلى منوال هذا نجد في بداية النهضة الأدبيّة الحديثة تيّاراً يبجّل القديم، ويرفض الحديث ولا سيما الوافدَ من الغرب، كما نراه ينوّه بأعمال المتقدمين من الشعراء والأدباء، ويحرص على أن يُبني عمله الأدبيّ على أساليبهم. وهذا هو الجامع المشترك بين الكلاسيكيّة الغربيّة والكلاسيكيّة العربية التي عرفت بالمدرسة الاتباعيّة أيضاً.
سبقت المدرسة الكلاسيكيّة كل المدارس اللاحقة، بل عدّها النقّاد الأساس الأوّل الذي اعتمدت عليه المدارس الأخرى، والمنبع الثرار الذي أفادها كثيراً. لذلك عُدّ رائدها “البارودي” زعيم المجددين في ساحة الشعر العربيّ.(32) عرف البارودي كيف يحقّق للشعر الحديث الأصالة العربيّة، والقوّة والجزالة في الأسلوب بعد أن سار على الاتجاه الجامد في العصر العثماني. إنّه عرف كيف يعيد للشعر العربيّ ديباجته القويّة، وأسلوبه المتين، وكيف يرجع به من عصور التخلّف إلى عهود القوّة والنضارة، وكيف يجعل الشعر يتجنّب من الزخرف الهشّ، والطلاء الغث، والركاكة في اللفظ، والضحالة في المعنى، والتقليد لعصور الضعف والعجمة. فالفضل كلّه يرجع إليه في إحياء الشعر العربيّ، وتشكيل مدرسة ذات طابع كلاسيكيّ واتباعيّ تعتمد على القديم، وتنبذ كلّ ما يمتّ إلى الغرب. ومن أهمّ أعلام هذه المدرسة شوقي، وصبري، وحافظ إبراهيم، والبكري، والجارم، وغيرهم.
خصائص الكلاسيكيّة العربيّة:
1- أهم خصائص المدرسة الكلاسيكيّة العربيّة متانة الأسلوب، والعناية به عناية فائقة فقلّما تجد خروجاً على قواعد اللغة، أو خطأً، أو ركاكة، وإنما تجد شعراً مصقولاً متيناً، مشرق الديباجة. تجد هذا عند صبري، وعند حافظ، وعند عبدالمطلب، وعند البكري، والجارم، والبارودي وغيرهم، على اختلاف بينهم في تقليدهم الشعراء الأقدمين الذين تأثّروا بهم، فمنهم من راقه شعراء العصر العبّاسي، فقلّدوا أبا نواس، والبحتري، والمتنبي، وأبا العلاء. ومنهم من رجع إلى الخلف أكثر من هذا، فحاكى شعراء العصر الأموي، أو الجاهلي، وجاء شعره بدويّ النسيج، متين التركيب.(33)
2- ومن خصائص هذه المدرسة استخدام القصيدة بمظهرها المعروف، ذات الروى الواحد، والقافية الواحدة، والوزن الواحد. وكثيراً ما ابتدءوا تلك القصيدة بالنسيب، كما كان يفعل الشعراء العرب الأقدمون، أو تركوا النسيب كما فعل ذلك من قبلهم بعض شعراء العصر العبّاسي حيث بدءوا بالغرض من غير تلك المقدمة الموروثة عن الجاهليّة. الغالب على شعر هذه المدرسة هو جعل البيت – كما كان من قبل – وحدة القصيدة، ويجوز فيها التغيير والتبديل من غير إخلال بالمعنى.(34)
3- ومن خصائصها أيضاً أن موضوعات شعرهم قلّما طرأ عليها تجديد، إلاّ بعضًا من التغيرات التي اقتضتها خصائص العصر العامّة. فأغلبهم كان مدّاحاً يمدح الخليفة وإن لم يعرفه، ويمدح الأمير وحاشيته. وكانوا يهتمّون بالطبقة الراقية من الأمّة، فيمدحون أعلامها، ويرثون عظماءها.(35)
أضف إلى ذلك كلّه اهتمام الكلاسيكييّن بالوصف، وعنايتهم بالمدح، والهجاء، والفخر، وما إلى ذلك من المعاني الشائعة في الشعر القديم. فلم يكن لديهم شيء جديد في هذه الساحة الشعرية، إلاّ بعضاً من النوادر. فلا نشتطّ إذا قلنا إن معظم أشعارهم مأخوذة من الأدب العربي القديم، ومن المعاني المتداولة فيه. وذلك لأن الكلاسيكيين لايخالجهم الشكّ في أن اتباع القديم في الأدب، والحفاظ على بيان اللّغة العربيّة وإشراقها، والصدور عن خصائص تراثها الأدبي شعراً ونثراً هو الاستمرار الطبيعي لأصالة الأمّة العربيّة المسلمة. فقلّدوا القديم لالعدم قدرتهم على ابتكار المعاني الجديدة، إنما جاء تقليدهم للشعر القديم استناداً إلى نظرية بقاء خصائص هذه الأمّة ببقاء لغتها الأصيلة.
نجد بعد استقصاء قصائد شعراء المدرسة الكلاسيكيّة أنّ أشعارهم تدور حول شتى الأغراض والفنون. فنظموا في الفخر، والمدح، والرثاء. وكانوا في ذلك يتجهون به إلى كلّ شخص، بل إلى عظماء الرجال، وكأنّهم بصنيعهم هذا يفتخرون لا بالرجال، ولكن بصفاتهم النبيلة، وأخلاقهم الفاضلة. كذلك نجدهم يصوّرون في شعرهم الحياة السياسيّة، والاقتصادية والاجتماعية، منشدين الشعر الوطني والأدب القومي، وداعين إلى إيقاظ الوعي في الأمّة، ومنادين إلى القضاء على البؤس، والشقاء لأبناء الطبقة الكادحة، وإلى الثورة على الظلم الاجتماعي، والفوارق بين الطبقات.(36)
أحمد شوقي
قد آن لنا أن نقف عند شاعر من شعراء الكلاسيكيّة، لنرى خصائص ومقومات المدرسة الكلاسيكيّة شاخصة في شعره وقصيدته. وسنختار لذلك أمير الشعراء أحمد شوقي وإن كان محمود سامي البارودي يعدّ رائداً لهذه المدرسة. وذلك لأن تأثير شوقي في الشعر العربي الكلاسيكيّ كان أعمق من سواه، حتى انتهى الأمر به إلى شبه إجماع الشعراء المعاصرين له من أنصار مذهبه على أنّه الشاعر الذي تحقق له من شروط الشاعريّة ما لم يتحقّق لسواه. فكان على قمّة الشعر الكلاسيكي الرصين الذي يرضى به ذوق طائفة واسعة من أدباء عصره، ولاسيما أولئك الذين أظهروا ولاءهم للمدرسة الكلاسيكيّة، وأبلوا بلاءً حسناً في المعارك القائمة بين أنصار القديم والجديد.(37)
الكلاسيكيّة في الشوقيّات
بصفة كون أحمد شوقي من أبرز أعلام المدرسة الإتباعية، تتجلّى خصائص ومقوّمات الكلاسيكيّة في شعره بشكل واضح. وتظهر هذه المقوّمات في المعاني والأسلوب. والمعاني الشعرية هي مادّة ينالها الشاعر مستمداً من العالم الموضوعي حوله. يقول محمد الكتّاني: “كان الشعر عند شوقي تعبيراً عن نظرة إلى الكون كائناً ما كان المظهر الذي يتبدى فيه الكون أمام الشاعر، طبيعة أو حادثة أو ظاهرة اجتماعية، أو تجربة ذاتية. وهذه النظرة محاولة لفهم الكون. ولا ينفذ الشاعر إلى الحقيقة التي ينشدها إلاّ بقدر ما يرزق من النظر الثاقب، والإحساس الشفاف، والشعور المُرهَف. ومن هنا احتفل شوقي بالحكمة في الشعر.”(38)
فالحكمة من أهم وأبرز المعاني السائدة في الشوقيات، سواء أكانت شعرها سياسياًّ، أو اجتماعياً، أو تاريخياً. والحكمة غرض من أغراض شعرية يتبارى فيه الشعراء الأقدمون كلبيد بن ربيعة وغيره. فمن حكمة شوقي أنّه لا يعتمد على سرد الأحداث في الشعر التاريخي؛ ولكن يختار من التاريخ ما فيه عظمة لقومه، وتذكير بأمجادهم الماضية، وتفوّقهم الحضاري مثل القصائد في ملحمته الإسلامية، فيقول:
أتيت والناس فوضى لا تميّز بهم
إلا على صنم قـــد هــام في صنم
والأرض مملوءة حـــواراً مسخــرة
بكل ظافيــــة في الخلـــق محتكـــم
ومن الحكمة أنّه لا يثير فتنة ولا اضطراباً في الأوساط السياسيّة، بل ينادي بوحدة المسلمين في ظلّ الخلافة العثمانية في شعره السياسيّ. فيقول مخاطباً الخليفة:
أيا القمرين عرشك في قلوب
نجاوز في الــولاء المستطاعـــا
ترى في الصيان لحق مضــــر
فلولا العرش يعصمه لضاعا
ومن الحكمة أنّه يقوم ضد البؤس والظلم والفوارق بين الطبقات، ويحثّ الأغنياء على التبرّع في شعره الاجتماعي فيقول:
جبريل هلّل في السماء وكبّـر
واكتب ثـواب المحسنين وسطر
سل للفقيــر على تكرمه الغنى
واطلب مزيدًا في الرخاء لموسر
ومن الحكمة أنه ينادي بالتعليم ونشره، وتقدير العلم والعلماء، فيقول:
قم للمعلّم وفــــــه التبجيــلا
كاد المعلم أن يكون رسولاً
نجد في شعر شوقي اهتماماً بالمعنى أكثر منه باللّفظ، وخاصّة في القصائد التي قرضها قبل نفيه من البلاد. ثم في المنفى عكف على دواوين الشعراء الأقدمين وقرأ الكثير من عيون الشعر العربي، حتى استقام له اللّفظ، وذلّ له الأسلوب، فكانت عبارته جزلة، وصياغته فخمة، وأسلوبه محكماً، وتراكيبه قويّة رصينة.(38) ولأجل اهتمامه بالمعنى كان يطيل قصائده، من غير إسفاف أو ضعف. كان يطالب الشاعر بالتعويل على خواطره وتجاربه وملاحظاته ومشاعره، وإن سار في سبيل القدماء من حيث المبنى والرّصف. فكان شوقي من حيث المعاني يغترف من الحياة الاجتماعية، ومن التاريخ الإنساني، وكان يحتفل بالمجتمع، ولا يكاد يلتفت إلى ذاته إلاّ قليلاً، فجاء شعره صورة للحياة التي عاش فيها. وهذا ما نجد في شعر المتقدمين من الشعراء. يقول عنه أحد الباحثين: “شوقي جد كيس بديع، أظهر في معاني شعره كلّ صورته الكسبية الإجتماعية، فأعجب الأديب والعالم والفيلسوف والمؤرخ والسياسيّ والمشترع والمقنّن والمسلم واليهودي والنصراني. ولم يظهر في معاني شعره إلاّ بعض أجزاء صورته الفرديّة.”(39)
هكذا نرى التعبير عن الحياة الإنسانية يتمثل في شعر شوقي. وهذا من أهمّ العناصر التي قامت عليها الكلاسيكيّة
تتلخّص سماته الشعرية فيما يلي:
1- تنوّع الأغراض الشعرية ما بين فنون قد تطوّرت على يديه مثل المدح والرثاء والوصف وغيره، وما بين أغراض مبتكرة مثل الشعر السياسي والتاريخي والاجتماعي.
2- العمق في الفكرة والاستقصاء والتحليل.
3- الثقافة الواسعة وأصالته العربيّة في شعره، وغلبة الاتجاه الشرقي في نظمه.
4- صدور الشعر عنده عن طبع أصيل من غير تكلّف أو تعمّل.
5- رقّة المشاعر ودقّة الإحساس وتعمّق الخيال وروعة التصوير وابتكار الصور الجديدة.
6- شاعريّة الحكم الخالدة، وروعة الأمثال النادرة التي لا يمكن تمييزها عن شعره.
7- العاطفة القويّة الصادقة، وبخاصة في شعره الوطني والديني.
8- الموسيقى المتدفقة القويّة، والإيقاع العذب، والنغم الشجي الذي يستولي على المشاعر، ويأخذ بالنفوس.(40)
إن معظم هذه السمات الشعرية توافق العناصر التي تعتمد عليها المدرسة الكلاسيكيّة. فتتجلّى في شعر شوقي المقوّمات والخصائص التي يتميز بها الاتباعيون، كما نجده يحاكي القديم ويمجّده ويعتبره استمراراً للروح الإسلاميّة الخالدة.
* * *
الهوامش :
(23) الأدب ومذاهبه ص: 33
(24) المرجع السابق ص:34
(25) المرجع السابق ص: 35
(26) الموسوعة العربيّة العالمية ج:1 ص:354 ط:الرياض، 1996م
(27) مذاهب الأدب الغربي: د.عبدالباسط بدر. ص: 33-34ز ط 1985م الكويت. الأدب ومذاهبه. محمد مندور ص: 41
(28) مذاهب الأدب الغربيّ ص: 33. وانظر قاموس المورد، مادّة “Classic”
(29) المذاهب الأدبيّة الغربيّة. وليد قصاب. ص: 39 ط: بيروت 2005
(30) المرجع السابق ص: 39
(31) أنظر:المذاهب الأدبيّة الغربيّة لوليد قصاب ط: بيروت 2005، و مذاهب الأدب الغربي لد.عبدالباسط بدر. ط 1985م الكويت
(32) من الأدب الحديث في ضوء المذاهب الأدبيّة والنقديّة. علي علي مصطفى صبح. ص:27 ط: الرياض 1981م
(33) في الأدب الحديث، عمر الدسوقي، ج: 2 ص: 291 الطبعة الثالثة، بيروت
(34) المرجع السابق ص:393
(35) المرجع السابق ص: 394
(36) من الأدب الحديث في ضوء المذاهب الأدبيّة… ص: 26 “بتصرف”
(37) انظر للتفصيل: الصراع بين القديم والجديد لمحمد الكتّاني الباب الثاني، الفصل السابع ط: 1983
(38) الصراع بين القديم والجديد ص: 371
(39) من الأدب الحديث. علي علي مصطفى صبح. ص: 35
(40) مقالة للشيخ أحمد الأسكندري: ذكرى الشمرين ص: 330
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1428هـ = أغسطس – سبتمبر 2007م ، العـدد : 8 ، السنـة : 31.