إشراقة
كثير من الناس يتغيّرون في المرحلة اللاحقة في حياتهم؛ فهم لايعودون كما كانوا من قبل. كانوا من قبل – مثلاً – على الصفاء والودّ والإخلاص، فيتجردون من هذه القيم ليكونوا متصفين بالنفاق واللاَّوُدِّ والازدواجيَّة في القول والعمل. الناسُ: مُعْظَمُهم يكونون في مُقْتَبَلِ العمر، قبل أن يعرُكُوا الدهرَ ويعرُكَهم الدهرَ، على طبيعتهم؛ فإذا وَدُّوا، كان وُدُّهم خالصًا من كل شائبة من الأغراض والمصالح والرغبات، وإذا أَحَبُّوا، كان حبُّهم إملاءً من القلب ، وضغطاً من الضمير، وفيضًا من الإعجاب. وإذا كَرِهُوا، كان الكرهُ مبنيًّا على العوامل الإيجابيّة، وحكمًا من العقل الساذج، واقتضاءً من الفكر البسيط الذي لم يعرف التعقيد والالتواء والصدور عن عقدة المصلحيّة .
ولكن كلَّ شيء يتغيّر – في الأغلب – بعدما يقطع الإنسان أشواطاً من التقدم في عمره – الذي يكون قد بدأ مشوارَه من نقطة البساطة والصفاء – فكلما كان متقدمًا في السن، كان متغيّرًا عن طبيعته الأصلية وفطرته التي كان قد فُطِرَ عليها؛ لأنه يكون قد حَلَبَ الدهرَ أَشْطُرَه، وعَرَفَ أساليبَ الحياة؛ وجَرَّبَ الشتاءَ والصيف، وعاش الشمسَ والظلَّ، ومارس فنونَ القول والعمل، وأدرك نقاطَ انتصاره وانكساره في مجالات الحياة، وتوصّل إلى الحيل التي بها يستخلص النتائج الإيجابيّة، ويستنبط الخلاصات التي لاتكون إلاّ في صالحه؛ فأصبح ناضجًا بعد ما كان فجًّا، فأضحى مشوبًا بعدما كان صافيًا، وأصبح مُعَقَّدًا بعدما كان بسيطاً: فتعلَّم من الحياة خُبثَها، ومن المجتمع مكرهه ودهاءَه، ومن الإنسان تفننه في نسج المؤامرة والاِتّجار بالحبّ والمساومة على كل قيمة غالية ومثل عالٍ .
فالحياةُ وقساوتُها، والمجتمعُ الإنسانيّ ومخالفته بين القول والعمل، والتعاملُ الطويلُ مع الجنس البشري بأنواعه التي لاتُحْصَى، غيّرته عما كان عليه عندما كان وليدًا فصبيًّا فغلامًا فرجلاً، ولم يعد على ما كان عليه من الفطرة التي لم تَمَسَّها تجاربُ الحياة المُغَيِّرَة بما فيها أيام السَرَّاء والضراء، والسرور والألم، والمشاغل الملحة، والأمراض التي تتناوب الجسمَ الإنساني، فلا تؤثر فيه وحده وإنّما تؤثر كذلك في العقد والفكر، وترغمه على أن تُغَيِّر مسارَه، وتملي عليه أحكامَه، ليترجمها إلى الواقع منصرفًا عما كان فيه من صفاء الفطرة، وجمال الطبيعة، وخيارات البساطة .
على ما كان عليه من الفطرة التي لم تَمَسَّها تجاربُ الحياة المُغَيِّرَة بما فيها أيام السَرَّاء والضراء، والـراحـة والألم، والمشاغل الملحة، والأمراض التي تتناوب الجسمَ الإنساني، فلا تؤثر فيه وحده وإنّما تؤثر كذلك في العقل والفكر، وترغمه على أن يُغَيِّر مسارَه، وتملي عليه أحكامَه، ليترجمها إلى الواقع منصرفًا عما كان فيه من صفاء الفطرة، وجمال الطبيعة، وخيارات البساطة .
وجدتُ كثيرًا من الأتراب كانوا أوفى الناس عهدًا، وأصفى الناس ودًّا، وأكثرهم إخلاصًا. كانت صحبتُهم إيناسًا، ومجالستُهم إيلافًا، وحوارهم تفريجاً عن الكربة ومخبرُهم أنقى من مظهرهم. بوجودهم كنتُ أشعر كأن الدنيا جنة ونعيم، وكأن الحياة كلَّها عبارة عن مسرات لاوجودَ فيها لأيّ معنى من الحزن؛ فإذا بهم أجدهم بعدما قطعوا مسافاتٍ على طريق الحياة – التي فيها الوهادُ والنجادُ – غير ما كانوا عليه من الودّ والصفاء والإنسانية بأصحّ معانيها المنشودة. فُوجِئتُ بأن أكثرهم أصبحوا أقسى من الحجارة، ومجّوا كلَّ معنى من الإنسانية التي تُفَرِّق بين الإنسان والبهيمة العجماء، وصُدِمْتُ منهم بجفاء لم أُصْدَم به قطَّ من قِبَلِ أجنبيٍّ لم يتمّ بيني وبينه تعارف أو لقاء؛ فكان ذلك أشدّ مضاضة على نفسي من وقع الحسام المُهَنَّد، كما قال الشاعر العربي القحّ الجاهلي طرفة بن العبد (نحو 543م- نحو 573م) .
وقد وُفِّقْتُ من الله عزّ وجلّ – الذي بيده كلُّ شيء – أن أظلّ على الفطرة في كثير من جوانب الحياة ولحدّ كبير؛ فلا أتغيّر في الأغلب عما كنت عليه في الصبا من الصفاء والودّ والإخلاص والوفاء ومعاني الإنسانية الكثيرة النبيلة التي جعلت الأتراب والزملاء يبادلونني حبًّا بالحبّ وصفاءً بالصفاء؛ فلمّا أحببت أحدًا في مقتبل العمر بنصاب بقيت أحبّه بعدما صرت شابًّا ورجلاً وكهلاً بنفس النصاب أو بأوفى منه، ولم أتنازل عنه بحال من السرور والحزن والسهولة والصعوبة، مررت بها بشكل أكثر ممّا يكون قد مَرَّ به أحد من أترابي وزملائي بحكم اليتم الذي ذقتُ كأسه المرة وأنا في الشهر الثالث من عمري؛ فانحسر عن رأسي ظلُّ الأبوة ليحترق بالشمس اللافحة منذ ذاك الوقت المبكر؛ فتعوّدتُ أن أتعامل مع قساوة الظروف بلباقة بارعة لا يُلَقَّاها إلاّ الموفقون الذين تحالفهم السعادة لتباركه في كل منعطف من منعطفات الحياة .
بينما وجدتُ كثيرًا من أترابي وزملائي – الذين ظلّوا ينعمون بظلّ الأبوة الكثيف عبر حياتهم ولا يزالون؛ ومن ثم فظلُّ النعم المتنوعة ظلَّ يُظِلُّهم – لم يستطيعوا أن يَبْقَوْا على الحالة الواحدة المستقيمة من الصفات المحمودة من البساطة والصفاء وعدم الالتوائية والازدواجيّة. صَدِّق أني لم أقدر على أن أُقَدِّرَ أن بعضهم قد ينحدرون إلى الحضيض السافل من النفاق والازدواجيّة والحسد والبغضاء، الذي جربّتُه منهم ولم أكن مستعدًّا لهذه التجربة المفاجئة المدهشة بكل معنى من المعاني. قمتُ في الحياة ببعض الانتصارات بتوفيق من الله عز وجل، وكنت أومن بأن أترابي وزملائي المصافين سيسعدون بها عندما يسمعون عنها سعادة أكبر من سعادتي وسعادة الآخرين من ذوي القربى والمودة والمعرفة؛ ولكني حزنتُ كلّ الحزن عندما علمتُ أنهم شَقُوا بها شقاءً أشدّ من شقاء الأعداء بها؛ فكان ذلك صدمة أليمة ما كنت أظن أني أصاب بها في حياتي . والحق أني لم أكن أتصور أن الإنسان يكون كثيرًا من الإنسان في هيكل إنسانيّ واحد، ولم أكن أتصوّر أن «المصافين» يصبحو على هذا المستوى من النفاق والحقد والحسد، وأنّ مظاهر حبهم في أوائل العمر تصير زبدًا يذهب جفاء! .
قمت ببعض التأليفات نالت قبولاً في جميع أوساط المثقفين، وقلت في نفسي: إن زملائي وأترابي سيكونون أفرح الناس بها، عندما يجدون أن أحد إخوتهم الأصفياء صنعها بهذا المستوى. وكذلك وُفِّقت أن أُخْتَار أستاذًا لأكبر مدرسة في الهند، وسُرِّ بالخبر بهذا الاختيار كثير ممن كانوا من المتعارفين من المحبين لي أو غير المحبين؛ ولكن بعض زملائي الأتراب – الذين كانوا أشدّ صفاءً عندي – حزنوا به، وأبدوا حزنهم على مسمع من الناس، وقالوا: نحن مدهوشون كيف تمّ اختياره وفيه معايب ونقائص نعرفها نحن ويعرفها كثير من الناس وأنه لايرتقى إلى مستوى الكفاءة المطلوبة للأستاذية في مثل هذا المعهد الأكبر الأعرق !!.
وكذلك صنعتُ أعمالاً كانت حقًّا جديرةً بالثناء والتحبيذ؛ لأنها كانت نافعة بفضل الله، وفعلاً أثنى عليها الأقارب والأباعد؛ ولكنها ظلَّت غُفْلاً من كل ثناء ممن كنت أظن أنهم وحدهم سيكونون أسعد الناس بها وبغيرها من أعمالي وإنجازاتي. تلك تجارب في الحياة قاسية مُنِيْتُ أن أُصْدَمَ بها ولم أكن مستعدًّا لاستقبالها؛ ولكنها الحياة إذا سَرَّتْ فيها أمور، ساءت فيها أمور، ولاينبغي للإنسان أن يغر بطيبها، ففيها ما يحزن ويشقى أكثر مما يسرّ ويسعد، فليكن فيها تعامُلنا مُتَّزِنًا لا يميل إلى هذا أو ذاك، ولنتأكد أن أقرب الإخوان اليوم قد يكون أبعد الإخوان غدًا، وأن الدنيا لاقرار فيها، وأن الأيام متداولة بين الناس؛ فقد تكون لنا وقد تكون علينا، فلا تدوم الحال على وتيرة واحدة، وإنما هي تتقلب، فإن دانت يومًا لشخص ففي غد تجافيه .
(تحريرًا في الساعة 12 من يوم السبت 15/5/1428هـ = 2/ يونيو 2007م) .
أبوأسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الأولى – جمادى الثانية 1428هـ = مايو – يوليو 2007م ، العـدد : 5–6 ، السنـة : 31.