كلمة العدد
من حكمة الله عزَّ وجلَّ أنه جَعَلَ مكانَ الحج واديًا غير ذي زرع في جزء من أجزاء الجزيرة العربيّة . ولو شاء الله لَجَعَلَ محجَّ الناس مكانًا مُخْضَرًّا جميلاً رائعًا ، فاتنًا للأبصار ، خالبًا للأفئدة ، جنَّةً غَنَّاءَ ، وروضةً فَيْحَاءَ ، مُزْهِرَةً مثمرة ، مُعْشِبَةَ مُشْجـِرَةً ، تَعْلَق بها النفوس ، وترنو لها العيون ؛ ولكنّه جَعَلَه واديًا لازرعَ فيه يُذْكَر ولا ضرعَ فيه يُسْتَرْزَق ؛ لكي لا تَعْلَق القلوبُ بجمال المكان ، ومشاهده الخلاّبه ، ومظاهره الجذّابة ؛ فتتجرد للتعلّق بالله ، متفاديةً كلَّ علاقة زائلة ، ورغبة فانية .
وقد شَرَّف المكانَ – وهو الذي خلق جميع الأمكنة – بأن جَعَلَه من قبلُ مَحَجَّ الملائكة كما صَرَّحَت بذلك الأحاديث والآثار ، وحَجَّه الأنبياءُ منذ ما خَلَقَ الله آدمَ عليه السلام ؛ حيث كان به أَوَّلُ بيت وُضِعَ ليَعْبُدَ فيه الناسُ ربَّهم الله «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِيْ بِبَكَّةَ» (آل عمران/96) وجعله الله ذريعةَ بركة وهداية للناس عن كل ضلال يتعرضون له خلال الرحلة البشرية التي انطلقت منذ خلق أول ناس ، وستتابع إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها . وبعد ما أنهى سيدُنا إبراهيمُ خليلُ الله بناءَ البيت أمره الله أن ينادي في أبنائه إلى يوم القيامة أن يحجّوا البيتَ . وقالت الروايات إن إبراهيم عليه السلام استعجب وتحيّر كيف يوصل نداءه إلى الناس كلهم من ثنايا الجبال الشاهقات ومن خلال واد لايسكنه الناس ، قائلاً: يا ربّ كيف أنادي وأنا بين هذه الجبال ، وبوادٍ لايوجد حوله سكن ؟ فقيل له : إنما عليك النداء وعلينا تبليغه الناس . فارتقى جبلَ أبي قبيس – وقيل : جبل الرحمة بعرفات – ونادى: أيّها الناسُ ! إنّ الله قد فَرَضَ عليكم الحجَّ فحُجُّوا، فأَسْمَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذا النداءَ الإبراهيميَّ جميعَ من قَدَّرَ لهم الحجّ من ذرّيته في الأصلاب البشرية إلى يوم القيامة . واستجاب للنداء كلُّ من أراد الله هدايتَه وإسعادَه بإدخاله جنَّته ، إنّه عليم حيكم . وذلك قوله تعالى : «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوْكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِيْنَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيْقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ» (الحج/ 27-28).
وكان هناك شهادتان من بني آدم بوحدانيّة الله سبحانه وتعالى التي عليها تتوقّف نجاتُهم في الآخرة وصلاحُهم في الأولى وسعادتُهم في الدارين أَخَذهما الله قبل أن يُولَدوا ، ويؤدّوا دورَهم في الحياة . وذلك لكي لايقولوا يومَ القيامة : إنّه ما جاءنا من بشير ولا نذير ، ولم ندرِ حقيقة الإيمان بالله ، وخطورةَ الكفر به ، والاستجابة لغواية الشيطان الذي جعله الله لحكمة يعلمها عدوًّا مبينًا لنا نحن البشر يصاحب رحلتنا الحياتية في جميع خطواتنا دونما غياب للحظة من لحظات الحياة الدنيا .
كانت الشهادة الأولى المأخوذة منهم تلك التي وَرَدَ ذكرُها في الحديث أن الله عزّ وجلّ لما خَلَقَ آدمَ مسح ظهره ، فخرجت ذريتُه كلُّها ، وأشهدهم على أنفسهم بأنّه تعالى هو ربّهم . وذلك ما جاء ذكرُه في القرآن الكريم بقوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ منْ ظُهُورِهِمْ ذُرٍِّيَّتَهُمْ وَأَشْهِدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيـٰـمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غـٰـفِلِيْنَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ» (الأعراف/ 172-173) .
والشهادة الثانية كانت شهادةَ العمل الذي يتفرَّع من الإيمان بالواحدانية والإقرار بالتوحيد، وهي نداءُ سيدنا إبراهيم الخليل في الناس بالحجّ. ومن المعجزة الإلهية الباهرة أن النداء أَصَّلَ في قلوب أفراد المسلمين الرغبةَ الأكيدة العجيبة للاستجابة وحجّ البيت والطواف به والصلاة فيه وعنده في البقعة المباركة التي تحمله . إنّ مجردَ النداء من فرد بشري مهما كان أعذب الصوت وأجهره وأقواه ، لايمكن – ولم يمكن ولن يمكن – أن يُوجـِد في قلوب كل مسلم على ظهر البسيطة في كل زمان ومكان هذه الرغبةَ الجامحةَ والشوقَ الكبير الذي لايقبل الوصفَ للحج والزيارة . إنّه تصرُّفٌ إلهيّ مُعْجـِزٌ تَمَّ على لسان نبيه تعالى وخليله إبراهيم عليه السلام الذي كان من أولي العزم من الرسل ؛ فكل مسلم يتشوّق ويتلهّف أن يقصد مكّةَ والمدينةَ، ويتشرف بالحج والزيارة ، ويطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، ويتعبّد في المشاعر، ويتمشّى في الأمكنة التي مشى فيها إبراهيم وإسماعيل ومن بعدهما سيد الرسل محمد ﷺ ، ويتّخذ من مقام إبراهيم مصلّى ، ويشرب من زمزم ، ويعيش أيامًا سعيدة في الحرم ، ويضع جبهته حيث وضعت الأسلاف جباههم . ومن قبلهم إمامُهم محمد ﷺ وصحبُه الكرام رضي الله عنهم ، ومن اهتدَوا بهديهم .
ومن حكمة الله تعالى أنّه عَلَّلَ فرضيَّةَ الحج بقوله : «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ويَذْكُروا اسْمَ اللهِ» ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: «إنما جُعِلَ الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكرالله» (الدارمي 1780 وغيره موقوفًا ؛ وأبوداود، 1613 وأحمد 23215، 23328، 23929 مرفوعًا) .
ومن هنا أُمِرَ الحاجّ أن يستشعر هذا الموقف العظيم فلا يرفث ، ولايفسق ، ولا يجادل . قال تعالى : «الحجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيْهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوْقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحجِّ» (البقرة 197) . ومن هنا يجب على الحاجّ أن يحترز من كل عمل يسلبه روحَ الحج من الإخلاص والتطهير من الذنوب وكونه مبرورًا لدى الله – والحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة (الشيخان) – فلا يجعل فيه حظاً للنفس ولا للشيطان ، فلا يرائي ولا يباهي ، ولا يجعله رحلة سياحة ، ولا مجرد مكسب للدينا ، ولايجعله ترفيهًا وإمتاعًا للنفس ، ولا ذريعة تعرّف على الناس وتعريف بنفسه إليهم حتى يستثمر التعرف والتعريف لتحقيق الأغراض التي لاصلة لها بالله ورضاه . ويجمع ذلك كلَّه قولُه عليه الصلاة والسلام : «من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق ، رجع كيوم ولدته أمه» (البخاري) .
فركّز عليه السلام أن يكون الحج لله وابتغاء وجهه لاتشوبه شائبة من المطلب الدنيوي الذي ما إن شاب عملاً من أعمال الآخرة إلاّ جعله عملاً دنيويًا مجردًا .
وقد أفاض العلماء في ذكر المنافع التي نصّ عليها القرآن الكريم ؛ فمن قائل أن المراد المنافع الأخروية من الأجر المذخور والجزاء الموفور ، ومن قائل أن المراد المنافع الدنيوية من التجارة وغيرها ، ومن قائل أن المراد كلا النوعين من المنافع الدينية والدنيوية . قال الطبري عن مجاهد: إنها التجارة وكل ما يُرضِى الله من أمرالدنيا والآخرة . من الاطّلاع على أحوال المسلمين في العالم ؛ ومن التعارف الأخوي بين المسلمين ، واغتنامه للدين والدعوة والأعمال التي تنفع المسلمين في الدنيا والآخرة ؛ ومن العمل بمقتضيات إنكار الذات والتواضع ؛ ومن التآلف والتعاون والتحابب ؛ ومن التذكر لموقف يوم القيامة حيث يحشر الناس على حالة واحدة ؛ لأنه في الحج يتساوي الحجاج كلهم في الزي والمظهر وأداء المناسك ، والخوف والخشية ، والتضرع إلى الله ؛ ومن المنافع الجليلة أن الحاج خلال قيامه بأداء الشعائر يتدرب على مجاهدة النفس على ممارسة الطاعات واجتناب المنكرات وعلى الانقياد للانضباط والنظام وقوة الإرادة وشحذ العزيمة على أداء جميع الأحكام الشرعية ، وعلى تفادي الغفلة والإهمال والكسل ، وما إلى ذلك من المعاني المماثلة التي تنشأ لدى الإنسان بطول الأمد ؛ فيعود يُعْنَي بالروح بدلَ عنايته بالجسم، وبجانب الآخرة مكان الإهتمام بالعاجلة فقط، وكأنه يستجيب للنداء الكريم الذي أطلقه شاعر عربي مؤمن :
يَاخَادِمَ الْجِسْم ! كَمْ تَشْقَىٰ لِخِدْمَتِه
أَتَعَبْتَ نَفْسَكَ فِيمَـــا فِيــــه خُسْــــرَان
أَقْبِلْ عَلَى الــرُّوْحِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا
فَأَنْتَ بالـــرُّوْحِ لاَ بـِالْجـِسْــمِ إِنْسَـــان
ومِن تفقدِ الفقراء والمحتاجين ، والمرضى والمنكوبين ، والمظلومين والمكبوتين في العالم ، الذين يحتاجون إلى مساعدة بني جنسهم ليبقَوا مسلمين محتفظين بإيمانهم ؛ ومن الإكثار من العبادة في الأمكنة التي عَبَدَ فيها الرسول وصحابتُه ؛ ومن الثواب الكثير الذي يعطاه المسلم من الصلاة في الحرمين ، ولا يعطاه في غيرهما ؛ ومن شحذ الإيمان ، وتدعيم اليقين ، وتربية النفس على العبادات، الأمر الذي لايتأتّي إلاّ في هذه البقاع الطاهرة وما إلى ذلك من المنافع التي لاتُحصى .
وبعد فالحاجّ يجب أن يجعل تقوى الله شعارَه ودثارَه حيثما كان . وصدق رسولُنا الكريم ﷺ حينما قال يُوَدِّع معاذ بن جبل رضي الله عنه : «اِتَّقِ الله حيثما كنتَ وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ الناسَ بخلق حسن» . وصدق الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه ، عندما قال:
يُــــرِيْـدُ الْمَــرْأُ أَنْ يُؤْتَىٰ مُنَـاهُ
وَيَـأْبَــــى اللهُ إِلاَّ مَـــــــــا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْأُ : فَائِدَتِيْ وَمَا لِيْ
وَتَقْوَى اللهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا
فالتقوى هي التي تورث الإخلاص والتجرد عن كل غرض إلاّ الغرض الأصيلَ : ابتغاءَ وجه الله . وصدق القاضي شريح (شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي أبو أمية المتوفى 78هـ / 697م) إذ قال : الحاج قليل والركبانُ كثير . ما أكثر الذين يعملون الخير ؛ ولكن ما أقلّ الذين يريدون وجهَ الله .
خَلِيْلَيَّ ! قُطَّاعُ الفَيَا فِي إِلَى الْحِمَىٰ
كَثِيــــرٌ وَأَمَّا الــــوَاصِلُــــــونَ قَلِيْـــــلٌُ
اللهمّ اجعل جميعَ المزمعين للحج من الواصلين ، واجعلنا معهم ، ولا تجعلهم من الهائمين على وجوههم الضائعين ، ولا تجعلنا معهم .
(تحريرًا في الساعة 8 من الليلة المتخللة بين الأحد والاثنين : 18-19/ ذوالقعدة 1427هـ = 10-11/ ديسمبر 2006م)
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1427هـ = يناير 2007م ، العـدد : 12 ، السنـة : 30.