الفكر الإسلامي
بقلم : الأستاذ فرج الشهاوي
قال تعالى : «إِنَّا أَنْزَلْنَاه فِيْ لَيْلَةِ القَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الملاَئِكَةُ وَالرُّوْحُ فِيْهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ» تحدّثتِ الآيات عن نزول القرآن الكريم ، وعن فضل ليلة القدر على سائر الأيام والشهور ، لما فيها من الأنوار القدسية والتجلّيات الربّانية والنفحات ، التي يفيض بها البارئ – جلّ وعلا – على عباده الصائمين ، تكريمًا لنزول القرآن ، وكما تحدّثت عن نزول الملائكة الأبرار حتى مطلع الفجر ، وبأنها ليلة عظيمة رفع الله قدرها ، وأن العبادة فيها خير من ألف شهر. كما أجمع المفسرون أنها منحة ربّانية للأمة الإسلامية ولرسولها عليه الصلاة والسلام .
ما أسباب هذه المنحة الربّانية ؟
وقد رُوِيَ يومًا لرسول الله – ﷺ– ، أن رجلاً من الأمم السابقة على الإسلام ظلّ يجاهد في سبيل الله ألف شهر، فبات رسول الله ﷺ مهمومًا؛ لأن أمته قصيري الأعمار، قليلي الأعمال !!! فدعا ربّه، وقال: «يا ربّ جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارًا وأقلّها أعمالاً»، فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: «ليلة القدر لك ولأمتك خير من ألف شهر جاهد فيها ذلك الرجل» رواه «ابن عباس»، وقال «مجاهد»: عملها وصيامها خير من ألف شهر .
لماذا سُمِّيَتْ بـ «ليلة القدر»؟
وسُمِّيَتْ بـ «ليلة القدر»، لعظم قدر ما وقع فيها من بدء نزول القــــرآن ، وبعثة النبي «محمد» –ﷺ – برسالة الإسلام كخاتمة للرسالات السماوية، أو لرفع الله ثواب الصائمين وثواب العبادات فيها إلى الألف في غيرها ، ولما جعل الله فيها من الفيض الربّاني وما فيها من التجلّيات ومن هذه النفحات الربّانية .
فيا سعد من أحياها بالقيام وبقراءة القرآن الكريم وبذكر الله فيها حتى تفيض على الذاكرين البركات وتتجلّى عليهم الرحمات ، قال تعالى: «فَاذْكُرُوْنِيْ أَذْكُرُكُمْ وَاشْكُرُوْا لِيْ وَلاَ تَكْفُرُوْنَ»، كما أن فيها حكمة الصوم الصبر والحكم .
ما الحكمة من إخفاء ليلة القدر ؟
من مأثور الأقوال عن إخفاء ليلة القدر في شهر رمضان أو في العشرة الأواخر من رمضان ؛ لأن الله أخفى أمورًا في أمور، لحكم جليلة ولمصالح عظيمة لكي يجتهد العباد في العبادات وفي الطاعات:
قال رسول الله – ﷺ – «إن لله في أيام دهركم نفحات ، ألا فتَعرَّضوا لها ، فلعلّ أحدكم تصيبه نفحة ، فلا يشقى بعدها» . ومعنى التعرّض لها أنها فضل من المنعم على عباده ، ولعلّ أَنّ ليلةَ القدر من أعظم ما يفيض الله به على أمة الإسلام، قال الله عنها : «حـٰـم * وَالكِتَابِ المُبِيْن * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِيْ لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِيْنَ * فِيْهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيْمٍ».
- فأخفى الله ليلة القدر في ليالي رمضان ؛ ليجتهد الصائمون في كل لياليه .
- وأخفى الله ساعةَ الإجابة في يوم الجمعة وليلها؛ لنداوم الدعاء فيهما معًا .
- وأخفى الله الصلاةَ الوسطىٰ في الصلوات الخمس ؛ لنحافظ على كل الصلوات .
- وأخفى الله اسمَه الأعظم ، الذي إذا دُعِيَ به أجاب ؛ لندعوه بكل أسمائه الحسنى .
- وأخفى الله رضاه وثوابه في طاعته وعبادته ؛ لنحرص على العبادات كلها .
- وأخفى الله غضبَه في معاصيه ؛ لكي ينزجر العباد عن كل معاصيه .
- وأخفى الله وَلِيَّهُ في عباده الصالحين ؛ لنحسن الظن بكل الصالحين من عباده .
- وأخفى الله يوم القيامة ؛ ليكون العباد في خوف واستعداد ليومها .
- وأخفى الله عن الإنسان أجله ؛ ليكون الإنسان دائمًا في خوف من حساب ربه .
تحديد ليلة القدر في خلافة «عمر » – t –
في خلافة «عمر بن الخطاب» رُؤِيَ اختلاف الآراء في تحديد ليلة القدر ، بأنها في شهر رمضان، ثم قالوا : بأنها في العشر الأواخر من رمضان ، ثم قالوا: بأنها في ليالي الآحاد التي هي ليلة: 21-23- 25- 27- 29، ثم توقّفت آراء الصحابة، فأراد «عمر» دقة التحديد، وكان «عمر» – t – يمتاز بأنه من أصحاب «الإلهامات»، وممن يعرفون بأصحاب الحاسة السادسة ، فأرسل إلى الصحابي الجليل «عبد الله بن عباس»، وكان لا يزال شابًا في ريعان الشباب. إلاّ أنه كان يلازم رسول ا لله – ﷺ – ملازمة العين لأختها ، وكان يجهّز له ماءَ وضوئه، ويصبّ عليه إذا أراد الوضوء ليل >راد >نها في العشر الأواخر من رمضان ، ثم قالوا: بأنها في، وفي ليلة باردة وجد الماء شديد البرودة ، فأوقد النار وأدفأ ماء الوضوء. وبعد أن توضأ رسول الله – ﷺ – سَرَّهُ تصرّف «عبد الله» في إدفائه الماء، فرفع يديه ودعا له «اللهم فَقِّه في الدين وعلِّمه التأويل»، فاستجاب الله لرسوله – ﷺ – فكان عبد الله يحفظ ما يقرأ ولو لمرة واحدة، وكان إذا حفظ لاينسى ، واشتهر برواية الحديث ، وفي تفسير القرآن ، وفي الفقه ، وكل علوم الإسلام ،حتى قالوا عنه بأنه: حبر أمة الإسلام الذي لا ينسى .
تحديد ليلة القدر في «27» رمضان
فطلب «عمر» من «عبد الله بن عباس» عن رأيه في تحديد ليلة القدر، فقال : يا أمير المؤمنين: إن السموات سبع ، والأرضين سبع ، وفاتحة الكتاب سبع، نَزَل القرآن الكريم على أحرف سبع، وتطورات خلق الجنين في بطن أمه سبع ، والطواف حول الكعبة سبعة أشواط، والسعي بين الصفا والمروة سبع ، ورمي الجمار سبع، ونحن نسجد على سبع، ويأكل الإنسان من حبوب سبع . وظلّ يُعَدِّد من أمور الحياة مع الإنسان على سبع . ولذلك فإني أرى أن ليلة القدر هي «ليلة 27 رمضان» ، فكبّر من حضر من كبار الصحابة وشيوخ وعلماء المسلمين ، حتى ارتجت جنبات المدينة كلها تأييدًا لرأي «ابن عباس» وسعدوا برأي «ابنٍ عباس» ، وقال «عمر» مؤيدًا ومشاركاً له : لقد فطنت لما لم نفطن إليه ، ومنذ إقرار «ابن عباس» وتأييد الصحابة t وهي في ليلة 27.
كيف نحيي ليلة القدر ؟
فعلينا أن نحيي ليلة القدر بالتفرّغ الكامل للعبادة وبالصلاة وبالقيام ، وأن نتوب إلى الله توبةً نصوحًا عما وقع منّا من أخطاء ، وأن نردّ ما علينا من حقوق إلى أصحابها ، وأن نكثر من قراءة القرآن الكريم ، وأن نكثر من الاستغفار، ومن ذكر الله تعالى، وأن ننصرف عن مشاهدة الملاهي والتلاهي في تلك الليلة العظيمة، داعين الله راجعين إليه منيبين سائلين الله من كلّ قلوبنا ، بأن نكونَ من العُتقاء والمقبولين في تلك الليلة ، ليلة الغفران وقبول التوبة ، فهي يا أخي القارئ ! ليلة الفيض الربّاني، والعبادة فيها خير من عبادة «ألف شهر» خالية من ليلة القدر، أي 3/831 عامًا لعابد متفرّغ، فيا سعد من أحياها بحقها ، ويا خسارة من غفل عنها وضيَّعها!!
«إن للّه في أيّام دهركم نفحات»
قال رسول الله ﷺ : «إن لله في أيّام دهركم نفحات ، ألا فتعرّضوا لها ، فلعلّ أحدكم تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدًا» ، ومعنى التعرّض لها أن يجتهد فيها كلّ جهده ، وأن يخلص النيّة لله واثقًا من وعد ربه ومن فضله ومن فيضه ، وأنّها ليلة تشرق فيها الأرض بنور ربها، حيث يتجلّى الله على عباده في تلك الليلة : ألا هل من مستغفر فأغفر له .. ألا هل من تائب فأتوب عليه ، ألا هل من داع فألبيّ دعاءه ، ويباهي اللهُ الملائكة بعباده الصائمين العابدين .
ليلةُ القدر هي جوهرة الليالي والأزمان
ليلةُ القدر هي جوهرة الليالي، وسيِّدة الزمان، وأكبرُ منحة ربّانيَّة للأمّة الإسلامية . فمن أراد الله له التوفيق والسعادة فيجب عليه أن يتخلّى فيها عن مشاغل الدنيا وملاهيها ، وأن يتّجه إلى الله بكل قلبه ونفسه وكيانه نادمًا على ما فات عازمًا على الخير كلّ الخير فيما هو آت ، وأن نؤدّي ما علينا من زكاة وصدقات ، وأن نصلَ أرحامنا وغيرهم من الضعفاء ومن الأيتام ؛ لأنّ الصدقةَ على القريب المحتاج لها ضعف ثوابها على غيره . وعلينا أن نتّجه إلى الله بكل حواسنا وبكل إحساسنا ؛ لأنّ الثواب والأجر سيكون لمن أخلص فيها وصدق.
ربــاه كفَّارَتي عَــــنْ كُلّ مَعْصِيَةٍ
أنّي أتَيْتُ وَمِــــلْءُ القلب إيمــــانُ
أتيتُ أَدْرُقُ بابَ كلِّ مُــــــــذْنِبٍ
أتاه يَرْجِعُ عنـــــــــه وهو جذلانُ
فَاغْفِرْ وسامِحْ وتُبْ واصْفَحْ فَفِي كَبِدِيْ
الإثمُ يَصــرُخُ والإحساسُ يقظانُ
يَا مَن يَرىٰ مَا في الضمير ويَسْمَعُ
أنتَ المعــــــــــــدُّ لِكُلِّ مَا يَتَـــــوَقَّعُ
ما لِيْ سِوىٰ قَــــرْعِيْ لبابِك حِيْلَةٌ
وَلَئِنْ رُدِدّتُ فَأَيُّ بَابٍ أَقْـــرَعُ؟!!
نداء لكل مسلم ومسلمة بالدعاء في ليلة القدر
الأمّة الإسلامية إمكاناتها المادية كبيرة في سعة أرضها وكثرة اليد العاملة ، وفيما رزقهم الله به من تحت أرجلهم «وماتحت الثرى» من البترول وكنوز المعادن في أرضهم وجعل الله قوّتهم في وحدتهم ، ويعرف ذلك أعداؤهم فسعوا بينهم بالوقيعة ؛ لتفريقهم ولاحتلال أرضهم ، ونهب خيراتهم على مبدأ «فَرِّقْ تَسُدْ» . وقد وقعت الواقعة ، وكلّ يوم يُقتل منهم العشرات على أرض فلسطين أو العراق ، وفي فتنة واسعة يقتل فيها المسلم أخاه المسلم !!! وحصنُ الأمة الإسلامية في وحدتها ، قال تعالى: «وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيْمٍ… » «وَاعْتَصِمُوا بِحبْلِ اللهِ جميعًا وَّلاَ تَفَرَّقُوا» (آل عمران:103)
فاسْئَلوا الله في ليلة القدر أن يعيدَ للأمّة الإسلامية وحدتَها وقُوَّةَ إيمانها وعزّتِها .
قصدتُ بابَ الرِّجَا والناسُ قَدْ غَفَلُوا
وبتُّ أشكُو إلى مــــولايَ مَا أجـِـــــدُ
وَقُلْتُ يَا أَمْلِيْ في كلِّ نائبــــــــــــــــــةٍ
يَا مَنْ عليهِ لِكَشْفِ الضُرّ اعتمـــــــــدُ
فلا تَرُدّنّها يا ربّ خــــــائبـــــــــــــــــةً
فتجدُ جُودك يَروي كلّ مَن يَــــــــرِدُ
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1427هـ = أكتوبر – نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.