الشيخ محمد عارف السنبهلي الندوي رحمه الله 1357-1427هـ = 1938-2006م

إلي رحمة الله 

       في نحو الساعة الخامسة من صباح يوم الجمعة 12/5/1427هـ = 9/6/2006م هَاتَفَنِي الأخ الأستاذ محمود الحسني الندوي وفاجأني بقوله : إن الشيخ محمد عارف السنبهليّ فارق دنيانا قبل الآن بنحو ساعة بنوبة قلبية أصابته فأَقْعَصَتْه ، أي في الساعة الرابعة صباحًا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

       تركني النعيُ الحزينُ قَلِقًا ، للحبّ الصافي الذي بذره رحمه الله في قلبي – كما بذره في قلوب عدد لايُحْصَىٰ من الإخوان والزملاء والطلاب والمعارف – بتواضعه الجمّ الذي كان رمزًا على شخصه ، وبسذاجته الزائدة التي كانت تُمَيِّزه عن أقرانه ومُعَايِشِيْه في المجتمع التعليمي الديني العامّ الذي كان أَحَدَ أعضائه .

       قدم الشيخ السنبهليُّ دارَالعلوم ندوة العلماء أستاذاً لمادة التفسير وبعض المواد الأخرى من مواد أصول الدين ، بعدما كنتُ أستاذًا للغة العربية وآدابها فيها ، بنحو عام أو عامين . وما إن انضمّ إلى المجتمع التدريسي حتى صارًا مرموقًا فيه يستقطب اهتمامَه ، بتواضعه البالغ ، وسذاجته في تعامله العام ، وعفويّته في الحديث والكلام . يتحادث إلى مُحادِثِيه وكأنّه عضو في أُسَرِهم أو جزءٌ من أشخاصهم – وهذا هو الأصحّ – يتعامل مع أحد بشيء ، فيصدر في التعامل عن إيحاءات القلب ، وإملاءات الإخلاص ، وإلهامات الصفاء والإيثار؛ يكاد بحديثه ينفذ في نفس المخاطب ، ويتلاحم معه في المشاعر .

       عرفتُ في دنيا الله رجالاً يُعَدُّون على الأصابع، شَهِدَ قلبي بكل ما فيه من نور الإيمان وفراسة العقيدة أنهم مؤمنون بالله ، وأن أمانيهم في الدنيا قليلة ، وأغراضهم في الآخرة جليلة ، وأنهم لايهمّهم من متطلبات الحياة إلاّ ما يستر عوراتهم ويُبْقِي على حياتهم ليؤدّوا دورهم نحو ربّهم وعباده؛ وأنّهم قد آمنوا أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأنهم ما يزرعونه فيها اليوم سيحصدونه بالتأكيد غدًا في الآخرة . لقد كان الشيخ السنبهليّ أحدَهم.

       رأيتُه دائمًا في ثياب متواضعة قليلة الثمن غير مكويّة ، ونزلتُ أكثر من مرة في بيته المتواضع من السكن العائلي بدارالعلوم ندوة العلماء ، مدعوّاً منه لتناول الشأي أو بعض الأكلات الخفيفة التي كانت تُعَدُّ في منطقته الوطنية «سنبهل» وما جاورها بمدينة «مرادآباد» ، فوجدتُه لدى كل نَزَلاتي مجردًا من كل نوع من الأثاث والرياش ، أي من الأشياء التي تُعَدُّ من الضرورات ، فضلاً عما يُعَدُّ من الكماليّات والزينات . كان عفويًّا حقًّا في كل ما يمسّ الحياةَ فلا يُنِيلُه اهتمامًا يقتطع من الوقت والتكاليف ما يمكن أن يُبْذَل فيما ينفع في الآخرة ويغني عن الدنيا.

       ومع ذلك كان هَشًّا بَشًّا لم يكن مُقَطَّبَ الجبين مثل بعض المتزاهدين ؛ بل كان خفيف الروح ، كثير المزاح ، يبادل ملاقيه الأقرانَ فقراتٍ ساخرةً ، تستخرج الضحكَ ، وتبعث السرورَ ، وتزيل الحزنَ، وتجدّد الحيويةَ ، وتدفع إلى النشاط والانتعاش ، وتوهم أن الدنيا تفاهة لاينبغي أن تشغل بالَ المؤمن مهما ماجت بالبلايا ، وفاضت بالمحن . لم يكن منهجه في الحياة خشونةً وتشدّدًا ، أو سذاجةً في غير محلّها ، أو يبوسة يستوحش منها أعضاءُ المجتمع ، ويستنفر منها المعارفُ والإخوانُ .

       كثيرًا ما رأيتُه يتأبّط كتابًا في مادّة التفسير أو علومه ، أو في أيّ من الموادّ الإسلاميّة التي تحلو له دراستُها ، وهو مُتَوَجِّهٌ في طريقه إلى الفصول الدراسية أو عائد منها أدراجَه إلى بيته أو آخذ طريقَه إلى مَقْهىً داخليّ ، في حصّة من حصصه الدراسيّة شاغرة ، فما إن يقع نظره على أحد من الزملاء المتصافين مثلي ، حتى يفاجئه بفقرة ساخرة : أخي! لاتَظُنَّنَّ أني ما رأيتُك ! » أو «أخي ! لاتَحْسَبَنَّ أنك وحدَكَ تُلِمُّ بالعربيّةَ فإني أيضًا قد استظهرتُ كثيرًا من الجمل والعبارات العربية خلال تعلُّمي ؛ ولكني نسيتُها اليوم أو عدتُ لا أستحضرها لأني صرتُ شيخًا! » أو «أخي ! لا يَغُرَنَّك أنك وحدَك من الْمُتَزَلِّفِين للشيخ أبي الحسن الندويّ – وكان رحمه الله حيًّا آنذاك طبعًا – فإني أيضًا من الأحبّة لديه ؛ لأني خطيب مُفَوَّه في موضوعِ مكافحة المبتدعين كما تَعْلَم» . وهكذا كان يُطلق جملةً من الجمل لم تكن بحسبان المخاطب ، فتنقله من الجوّ الذي كان فيه إلى جوّ آخر يُوجده إطلاقُه الجملةَ بشكل مُنْعِش مُمَدّ بكل عفوية وبساطة .

       لقد كان الشيخ السنبهلي طرازًا فريدًا بالنسبة إلى عدد من الخصائص . منها تشاغلُه بشؤون نفسه، وعلى رأسها عيوبها التي كان يحصيها دائمًا ويعدّدها ؛ فيزداد شغلاً على شغل . والدليلُ على تشاغله بها أنني ما وجدتُه قطُّ مشغولاً بتعداد عيوب غيره . وقد تأكّدتُ بما سمعته كثيرًا على ألسنة مشايخي وأساتذتي : أن من يُشْغَلْ بعيوب نفسه ، يُشْغَل عن عيوب غيره ؛ فذلك يجعلني أجزم بأن الشيخ أغنته نفسُه عن شؤون الآخرين .

       كان له – رحمه الله – شغف بالغ بالقرآن الكريم ، تلاوةً له ، وتدبّرا في لفظه ، وغوصًا على معانيه ، ودراسةً وتدريسًا لتفسيره ، وعناية بتفهّم الدلالات ، والتعمّق في المرادات ، والتوصّل إلى أسراره ووجوه إعجازه . وكان كثير الاقتناء للكتب التي تتصل بهذه المواضيع ، ولا يفتر عن دراسة كتب التفسير للعلماء الأعلام ؛ فكان يعرف الفرقَ بينها بخصائص كل منها . وكان يشيد – فيما يتعلق بكتب التفسير بالأردية – بغناء «التفسير الماجدي» لمؤلفه الأديب الكاتب الأردي الأكبر الشيخ عبد الماجد الدريا آبادي رحمه الله (1309-1397هـ = 1892-1977م) في الموضوعات المستجدة في العصر الحاضر؛ و«التفسير العثماني» لصاحبه العلاّمة شبير أحمد العثماني الديوبندي رحمه الله (1305-1369هـ = 1887-1949م) الذي وضعه على هامش ترجمة معاني القرآن الكريم لأستاذه الكبير صقر الإسلام والمسلمين في الديار الهندية الشيخ محمود حسن الديوبندي رحمه الله (1268-1339هـ = 1851-1920م) المعروف في شبه القارة الهندية بـ«شيخ الهند» . وذلك للغته البارعة ، وإيجازه المُعْجِب ، ودقّته في التعبير عن حقائق القرآن ، وتقيّده بمسار العلماء الموثوق بهم لدى الأمة في التفسير والتأويل . وكان معجبًا جدًّا بتفسير «بيان القرآن» لمؤلفه الكبير العلاّمة الشيخ المربي الكبير أشرف علي التهانوي رحمه الله (1280-1362هـ = 1863-1943م) لكونه مستوعبًا لما جاء في تفاسير أئمة الفنّ ، ومشتملاً على معانٍ دقيقة وإشارات لطيفة لاتُوْجَدُ في غيرها؛ فدراسته تُعَمِّق النظر، وتَفْتَح العقلَ ، وتُجْلِي البصيرةَ ، وتزيد الدارسَ إيمانًا على إيمانٍ بإعجاز كتاب الله لفظاً وغايةً ومبنى ومعنى .

       وكان من سعادته أنه – رحمه الله – ظلّ يدرِّس هذه المادة عبر سنوات طويلة ؛ فكانت دراسةُ معاني القرآن هوايةً لديه وضرورةً معًا . ومن حسن الجدّ أن يكون هوايةُ المرأ هي ضرورتَه أو «مهنتَه» فيجمع بين ممارسة المتعه وصنع المعروف في وقت واحد . والتفسيرُ موضوعٌ واسع جدًّا أو قل: هو بحر لا ساحل له ، فمن يتوسّع فيه يتوسّع في كثير من المواضيع ، ويصبح خازنًا لكثير من المعلومات وصنوف المعارف التي تجعله عالمًا مُؤَهَّلاً للنطق بالإسلام ، والتعريف به ، والدفاع عنه ، والصمود في وجه الملحدين والمنحرفين عن جادة الصواب . وقد كان الشيخ السنبهليّ على هذه المواصفة للعالم الديني المُتَوَسِّع المُتَعَمِّق ؛ فكان سبّاقًا إلى مكافحة الفرق المنحرفة والحركات الهدّامة ، ولاسيّما المبتدعة التي ظلّت قوية في الديار الهندية بتأييد وتشجيع من كثير من الجهات المعادية للإسلام الداخلية والخارجية ، فألّف في الردّ عليها كتابًا باسم «زلزله در زلزلة» كان تعقيبًا مُعَضَّدًا بالدلائل لكتاب أحد الكتاب المبتدعين باسم «زلزلة» كما لاَحَقَ المبتدعةَ في عدد من حفلات الحوارات وتجمعات النقاشات ، وطردهم عنها صاغرين .

       وكان له مساهمة في مكافحة القاديانية . وهي عملية مشرفة اضطلع بها كلٌّ من علماء أهل السنة والجماعة في شبه القارة الهندية ؛ حيث اعتبروها أقوى وأعنف مؤامرة ضد الإسلام في العصر الحاضر نُسِجَتْ على إيعاز وتشجيع ودعم وتخطيط من قبل الاستعمار الإنجليزي الذي وَجَدَ الإسلام صخرة صمّاء في سبيل توسّعه في هذه الديار .

       وكان يهتمّ بحضور حفلات دعوية وإصلاحية تُعْقَد في أقطار الهند ، ولاسيّما التي تنعقد في «لكهنؤ» والمناطق المجاورة . وكان خطيبًا مُؤَهَّلاً يؤثـّر في المستمعين بأهليته الخطابية ،وبطرحه المثري، وبصدوره عن العمل بما يقول . وذلك أقوى عنصر من عناصر التأثير لدى الخطيب ، وكان ذلك أكبر عدّة لديه . ولم تكن الخطابة عنده مهنة كمعظم الخطباء لدينا الذين يمتهنونها لاستدرار المال وتكديس الثروة وكسب السمعة ، وإنما كانت لديه رسالةً يقوم بها وفريضة يؤديها شاعرًا بمسؤوليته الملقاة عليه نحو دينه وأبنائه ؛ لأنّه عالم دينيّ تخرّج ليَصْلُحَ ويُصْلِحَ ؛ من هنا كان لايهتمّ بتحصيل تكاليف السفر من مسؤولي الحفلات ؛ بل كثيرًا ما ينفق من عنده على الذهاب والإياب والزاد ، رغم كونه محدود الدخل ؛ حيث كان موردُه شحيحًا لايبضّ إلاّ بالقدر الضئيل الذي كان لايغنيه في تغطية حاجاته اليومية إلاّ بصعوبة بالغة . وكان موضوعه الرئيس في الخطاب التوحيد ، وتفنيد الشرك ، ومحاربة البدعة بأنواعها والدفاع عن الديوبندية التي هي في شبه القارة الهندية رمز التوحيد والعقيدة الصحيحة رغم كره الكارهين من اللامذهبيين . كما كان يتبنى مواضيع الإصلاح ، وتزكية النفس ، واجتناب التقاليد غير الإسلامية ، في كل من الزواج والموت ، والأفراج والأتراح والأعياد ، وتنقية العبادات والمعاملات ، مما علق بها من طقوس غير المسلمين لطول الجوار، وكثرة الاحتكاك .

       وكان – رحمه الله – رقيق القلب ، يغلبه البكاء في مناسبات الاتّعاظ ، ولدى قراءة آيات التنذير والترهيب خلال الصلوات أو خارجها ، ويعتذر إلى الإخوان عفويًّا إذا شعر بأن موقفًا منه جَرَحَ شعورَه أو آذى وعيَه . وكان يصارح الإخوانَ بالتنبيه إلى خطأ ارتكبوه في قضية دينية ، أوموقف علميّ ، أو مناسبة اجتماعيّة .

       وكان ابن أحد أشقاء العالم الهندي والداعية الإسلامي الكبير فضيلة الشيخ محمد منظور النعماني رحمه الله صاحب المؤلفات الكثيرة (1323-1417هـ = 1905-1997م) . وتلقّى معظم تعليمه بدارالعلوم ندوة العلماء ، ودرّس بها نحو ربع قرن من شريط عمره ، وبها تُوُفِّيَ ، وفي رحابها صُلِّي عليه ، ودفن بمدينة «لكهنؤ» .

       ترك رحمه الله في قلوبنا ذكرى لاتمحّي بإذن الله ، لمداخلته قلوبَنا بإنسانيته وتواضعه ، وسذاجته وعفويّته ، وعدم تكلفه ، وزهده الصادق ، إلى جانب مُؤَهِّلاته العلميّة ، التي كسبت له قلوبًا لاهجةً بذكره ، شاكرةً إفادتَه من خلال التدريس والمذاكرة ، والوعظ والخطاب ، والنصح والإرشاد، والحوار البنّاء ، والنقاش العلميّ الجادّ ، ومناظرة المبطلين .

       كم أناس يموتون كل يوم ،ولكن الذين يحفرون ذكرهم في قرارة نفوسنا بإنسانيتهم الصحيحة وآدميتهم في تواضعهم واتّرابهم ، لايموتون بعد موتهم ؛ لأنهم أحياء في قلوبنا ومتجددةٌ ذكراهم على ألسنتنا ، وخالدة حسناتهم على فم الزمان . منهم فقيدنا الغالي بأخلاقه قبل علمه ، وبـخموله قبل ذكره ، وتواضعه قبل سموّه . جزاه الله خيرًا ، وأكرم نزله ، ووسّع له في قبره ، وأعلى مكانه في جنة الخلد ، وألهم أهله وذويه ومحبيه كلّهم الصبر والسلوان .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1427هـ = سبتمبر 2006م ، العـدد : 8 ، السنـة : 30.

Related Posts