كلمة العدد
مواقفُ كثيرةٌ ومتّصلةٌ يفتضح فيها الغربُ في زعمه أنه يَتَبَنَّىٰ الديموقراطيّةَ وحريّةَ التعبير أو حريّةَ المُعْتَقَد والدين . ولستُ هنا بسبيل إحصاء هذه المواقف ، وإنما سأكتفي بالإشارة إلى بعض المواقف الساخنة التي شَهِدَها العالَمُ خلالَ الأسابيع القليلة الماضية ، والتي كانت ردًّا قاطعًا على زعمه ، وشَكَّلَت مظهرًا حيًّا للتناقضات التي يتورّط فيها والكيلِ بمكيالين الذي يمارسه في وقاحةٍ أيِّ وقاحة .
الغربُ عندما يمسّ شيءٌ مصالحَه أو أهواءَه يتنكّر لكل ما عنده من حرية الرأي والديموقراطية المزعومة التي يَتَبَجَّح بها ؛ فها هو ذا عمدةُ مدينة «لندن» السيّد «كين ليفنجستون» يُعَاقَبُ بالتوقيف عن العمل لأربعة أسابيع بموجب القرار الصادر ضدّه يوم الجمعة 25/محرم 1427هـ الموافق 24/فبراير2006م عن الهيئة التأديبّية المُخَصَّصَة للنظر في أداء المسؤولين المحليين ، التي عَلَّلَتْ القرار بأنّ تصريحات العمدة: «تفتقر إلى الحسّاسيّة وتتضمّن إهانةً غير مُبَرِّرَةٍ للصحفيّ» لارتكابه «ذنبًا كبيرًا» مُتَمَثِّلاً في تشبيهه في فبراير 2005م (محرم/1426هـ) صحفيًّا بريطانيًّا يهوديًّا في صحيفة «إيفننج ستاندر» الصادرة بلندن بـ«حارس مُعَسْكَر اعتقال نازيّ خلال الحرب العالميّة الثانية».
والجدير بالملاحظة أن صدور هذا القرار جاء يُزَامِنُ صدورَ الحكم من إحدى المحاكم النمساويّة – الذي صَدَرَ في عاصمة النمسا «فيينا» يومَ الاثنين: 20/فبراير 2006م = 21/ محرم 1427هـ – ضد الكاتب والمؤرخ البريطاني «ديفيد أرفينج» بالسجن ثلاث سنوات ؛ لأنه أنكر حدوث المحرقة اليهودية المعروفة بـ«الهولوكوست» (Holocaust) .
إنّ الغرب المُطَبِّل لحريّة الرأي والداعي لها لحدّ التقديس لم يَسَعْه أن يتحمّل محاولةَ المساس باليهود حتى في إطار حرية التعبير وحريّة الرأي؛ لأنّ اليهود عنده – جنسًا وتأريخًا وسلوكاً – «خطّ أحمر» لايجوز لديه التقارب منه فضلاً عن عبوره وتجاوزه ؛ حيث إنهم فوق كل قانون وشرعيّة فضلاً عن الانتقاد والملام والاتّهام!.
أمّا عمدةُ لندن السيد «كين ليفنجستون» فمعاقبتُه لاتُعَرِّي فقط مبدأ «حرية الرأي» المزعوم الذي يتباهى به الغرب كثيرًا ودائمًا بين يدي الأسرة الدوليّة ، وإنّما تُعَرِّي كذلك الحقدَ الأسودَ والعصبيّةَ المنتنةَ التي يحملها ضدّ الإسلام والمسلمين مُحاوِلاً التغطيةَ عليها بأساليبَ عديدة؛ فالعمدةُ ظل من خلال مواقفه النبيلة يناصر القضايا الإسلاميّة والعربيّة عبر السنوات الماضية؛ فهو من القلائل من قادة وساسة الغرب الذين يُمَثِّلُون الصوتَ النزيه الذي ينبغي أن يكون نابعًا دائمًا من ضمير الغرب الذي لايفتر يتفاخر بالعدل والمساواة وحرية الرأي: المبادئ التي تتكسر دائمًا على صغي أن يكوخرة الواقع ؛ لأنه لاينادي بها عن صدق ونزاهة ، وإنما ينادي بها عن غرض أو مرض .
وقد فضح السيد العمدة بآرائه وتصريحاته الصادقة اليهودَ ، ووقف مواقفَ عديدةً شَكَّلَتْ للصهاينة ضربات مؤلمة للغاية على كل من المستويين السياسي والإعلامي ، وتناولت المشروع الصهيوني في فلسطين بانتقاد شديد ، وأداء الحكومة الصهيونية بملام لاذع ، وعارضت – على أساس متين من المصداقية – العملية العسكرية الأمريكية الغربية للعراق . كما وقف موقفًا مشرفًا عن العلاّمة المفكر الداعية المؤلّف المكثار الدكتور يوسف القرضاوي حين دافع عنه وأصَرَّ على استضافته بلندن ، رغم الحملات المكثفة التي شنها ضدّه الإعلام الغربي الصهيوني لتشويـه سمعة الدكتور.
ومن هنا ظلّت الدوائر الصهيونية تترصّد الفرصةَ لإيقاعه في الفخّ ، وتناوله بالعقاب ، حتى يكون عبرة لكل من تحدث نفسُه بالتجرأ على ممارسة حرية التعبير بشأن اليهود الذين هم أقدس جنس بشريّ على وجه الأرض !.
أما الكاتب والمؤرخ البريطاني «ديفيد إرفينج» فكان دنبُه أنّه فَكَّرَ تفكيرًا نابعًا من حرية الرأي وعبّر عما تَوَصَّل إليه تفكيره بحرية عن قضية «الهولوكوست» اليهودية أي المحرقة النازية التي أودت – كما يزعم الصهاينة – بـ 6 ملايين يهوديّ ؛ فقد أعلن «ديفيد» أكثر من مرة إنكارَه لهذه القضية التي جعلها الغربُ قضيةً مقدسةً وجعل الدفاعَ عنها أقدسَ ما تعنيه كلمة الدفاع. ورغم أن الرأيَ الذي أبداه الكاتب والمؤرخ البريطاني ينبني على أبحاث ودراسات أجراها على أرض الواقع أكّدت له أن «الهولوكوست» هي أصلاً الكذبة الصهيونية الكبرى التي اصْطُنِعَتْ حجةً قويةً ومُبَرِّرًا صلبًا لاحتلال العالم.
وقد صدق «ديفيد» عندما قال في كتابه «الهولوكوست الأخير»:
«إن اليهود في موقفهم الاستغلالي لقضية المحرقة يثبتون قدرةً عجيبةً في التأثير على الفكر الغربيّ خصوصًا ؛ بل والمؤسف أيضًا أن نجد من بين العرب من يكاد يصدّقهم في مقولتهم هذه التي تُثْبِتُ أفعالُهم عكسَها ؛ فما فعلته إسرائيلُ في هجمات بربريّة وحشيّة على مناطق عربيّة ، مثل جنوب لبنان ، يؤكّد النزعة الدموية الخالية من التوجّه الإنساني لديهم . ويكفي أن نتذكّر هنا مجزرةَ «قانا» ومقولةَ «ديفيد ليفي» الأخيرة بأنّه سيحرق لبنان . ثم أيُّ عنصريّة أبشعُ من تشريد شعب كامل ، وقتل أبنائه والتصدّي للعالم كله من أجل الوصول إلى حلّ عادل يعطي أصحابَ الأرض من الفلسطينيين بعضَ حقّهم وليس كلَّه».
وأضاف الكاتب والمؤرخ البريطاني قائلاً:
«إنّ المحرقة لاشكّ أنّها وإن وقعت جزئيًّا غير مقبولة إنسانيًّا ، إلاّ أنّ الفعل الإسرائيليّ لايختلف بحال من الأحوال في بشاعته عن بشاعة المحرقة إن كانت حقيقة على الصورة التي يتناقلها اليهود».
على كل فإنّ الغرب الذي يدافع عن حرية التعبير لحد الاستماتة ؛ ولحدّ أنه يتضامن مع الدنمارك – البادئة في نشر الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة إساءة بالغة لرسولنا ونبينا محمد ﷺ – في نشر الرسوم، بحجة حرية التعبير، ليزيد المسلمين استياءً وتأذّيًا وسخطاً ولاسيّما بعدما شاهدهم يحتجون ضدّ ذلك في العالم كله احتجاجًا صارخًا منقطع النظير؛ ولحد أنّ «حزب الشعب الدانماركي» اليميني يطالب حكومتَه بسحب الجنسيّة من أئمة مسلمين لأنهم عملوا على حشد الدعم العربي الإسلامي ضد هذه الرسوم التي تدلّ على ممارسة حق حرية التعبير، التي قامت بها صحيفة «بولاندس بوستن» عندما بادرت إلى نشرها ؛ ولحدّ أنّ رئيس الوزراء الدانماركي يرفض رفضًا باتًّا أن يعلن اعتذارَه عن هذه الإساءة إلى مسلمي العالم رغم إعلان عدد من الدول الإسلامية مقاطعةَ البضائع الدانماركيّة ورغم ملاحظته فعليًّا للخسائر الاقتصادية التي بدأت تلحق دولتَه جراء المقاطعة . وذلك لأنه يرى أن اعتذاره عن ذلك يمثّل – تمثيلاً صارخًا – جرحًا لروح حرية الرأي والتعبير ودوسًا واضحًا لهذا الحق الإنساني النبيل ! ولحدّ أن رئيس أمريكا الحاليّ «بوش» الابن – الذي يعتبره العالم كله الذي يؤمن بالعدل والمنطق ولاسيّما المسلمون أكبر إرهابي في العالم بجميع معاني الإرهاب ودلالاته وتفسيراته – يضغط على عملائه في العالم الإسلامي بأن يسيطروا على «العنف» و«التطرف» اللذين يمارسهما المسلمون الذين يقومون بالتظاهرات والاحتجاجات ضدّ الرسوم المسيئة إلى نبيهم محمد ﷺ ؛ ولحدّ أن «بوش» و وزيرته الخارجية «رايس» يضغطان ضغطاً قويًّا على الحكومة الأفغانية العميلة لأمريكا بقيادة عميلها «حامد قرضاي» أن تمتنع عن إنزال العقاب على مرتدّ أفغاني مدعو بـ«عبد الرحمن» ارتدّ عن الإسلام منذ 15 عامًا وارتدى المسيحيّة المزعومة ، فواجه حسب الدستور الأفغاني محاكمة ضدّه وكاد يُعْدَمُ شنقًا. ذلك أنّ المرتدّ مارس – عند الغرب وأمريكا – حرية الرأي والفكر والاعتقاد عندما ارتدّ عن الإسلام واعتنق المسيحيّة . وقد طلعت الصحف لدينا بنبأ الضغط الأمريكي والضغوط الأمريكية أيّامًا عديدة ولاسيما يوم السبت : 25/ مارس 2006م (24/صفر 1427هـ) .
وانهارت الحكومة الأفغانية – حسب ما كان مُتَوَقَّعًا لكونها عميلة لأمريكا والغرب – ورضيت بالإفراج عن المرتدّ بحجّة أنه يعاني أمراضًا عقلية واختلالاً فكريًّا ؛ فقد قالت الصحف لدينا يوم الثلاثاء : 28/ مارس 2006م (27/صفر 1427هـ) إن المحامين الرسميين في أفغانستان لَوَّحُوا بأنّ المعتقل المرتدّ رهن التحقيق والمحاكمة قد يُطْلَق سراحُه على أساس فحص عقليّ . وجاء الضغط الغربي بشأن المرتدّ على الحكومة الأفغانية مؤكِّدًا أن الحكم بقتله لايكون إلاّ خرقًا لحرية الاعتقاد والفكر ؛ ولحدّ أنّ وزير الإصلاحات الإيطاليّة «روبرتو كالديرولي» يقدم ، بحجة الوقوف بجانب قضية ممارسة حق حرية التعبير المتمثلة في نشر الرسوم المسيئة لنبينا محمد ﷺ ، على ارتداء «شورت» – قميص – يحمل الرسوم المسيئة ، حتى إن الوزير المهين اضطرَّ تحت ضغط الرأى العامّ العالمي وعلى دعوة من رئيس وزرائه «سيلفيوبيرلسكوني» أن يستقيل من منصبه ، مُؤَكّدًا على أنه ليس نادمًا على ارتدائه القميص، ومدافعًا عن مواقفه المناهضة للإسلام، ومطالِبًا العالمَ الغربي بالتعاطي بالمثل مع العالم الإسلامي . والجدير بالذكر أنّ إقدام الوزير الإيطالي المذكور على ارتداء القميص الحامل للرسوم المسيئة جَرَّ إلى أنّه أقدم المسلمون الغاضبون على إحراق القنصلية الإيطاليّة في «بنغازي» الليبية ، مما أدّى إلى مقتل 11 شخصًا وإصابة 55 .
إنّ الغرب المستميت في سبيل الدفاع عن حرية التعبير والاعتقاد ، لايكاد يحتمل أن يقول عاقل مايراه ويعتقده ويتوصّل إليه في ضوء دراساته وأبحاثه وقراءة الواقع المتمثل في سياقات التاريخ والملابسات المكتنفة له ، إذا كان يمسّ ذلك المصلحةَ الصهيونيةَ الصليبيةَ . فكأنّ حريّة التعبير والفكر منحصرة فيما وراء هذه المصلحة، ولاسيّما فيما يتعلّق بالإسلام والمسلمين والقيم الإنسانية النبيلة التي يمثِّلها الإسلام .
إنّ قراءة سلوكيّات الغرب بمجموعها من خلال التعامل الذي ظلّ يمارسه مع الإسلام والمسلمين يؤكّد بوضوح أنّه يعتبر الإسلام عدوًّا رقم واحد ، وأنّه لايخاف إلاّ هذا المارد الذي لايخضع لأيّ مُعْتَقَد ودين خرافي ولأيّ «مبدأ» يفسد على الإنسان إنسانيته . وكمثال على ذلك من بين الأمثلة الكثيرة التي تفوق الحصرَ، نذكر في هذا السياق ما نشرته الصحف العالمية ووسائل الإعلام مؤخرًا ، من أن إحدى الدول الغربية وهي «هولندا» رصدت شروطاً لمن يهاجر إليها ، من بينها مشاهدة فيلم إباحيّ في إطار امتحان جديد للمهاجرين ملعالمية ووسائل الإعلام مؤخرًا ، من أن ن دول ليست بينها أمريكا وبلدان الاتحاد الأوربيّ؛ حيث أصبح لزامًا على أيّ شخص يرغب في الهجرة إلى «هولندا» الخضوعُ لامتحان يثبت قدرتَه على التَّأَقْلُم مع القيم الليبراليّة في هذا البلد . ويتضمّن الامتحانُ مشاهدةَ لقطات إباحيّة من فيلم فاحش دون إعراب عن شعور بالاشمئزاز والصدمة . وأضاف النبأ أن الامتحان يهدف إلى اختبار أهلية التأقلم مع القيم الهولندية خصيصًا لدى المسلمين الراغبين في الهجرة إلى هولندا . وذلك للحدّ من وصول مزيد من المهاجرين المسلمين .
فذلك كله فيما يتعلق بحرية الفكر والرأي. فإذا رحتَ تختبر مدى مصداقية الديموقراطية التي يتباهى بها الغربُ وقائدتُه أمريكا وجدتَ أنّها ليست إلاّ وسيلةً لنشر «القيم» التي أنتجها الغربُ لإفساد إنسانية الإنسان ، وانتزاعه من طور الإنسانية إلى طور البهيمية . وعلى رأسها «القيمتان» : الماديّة الجامحة والشهوة الجنسية المسرفة المتخطية كلَّ حدّ ؛ فالدعوةُ إلى إشباع الحاجتين و«احترام» القيمتين هما المطلب الأمثل لدى الغرب . ونشر ثقافته الداعية لذلك ، وحضارته المتمثّلة فيه ، وأسلوب حياته المُتَبَلْوِر في المفاسد التي جَنَتْ على الإنسانية ، هو المجموع الذي يسميه الغرب «الديموقراطيةَ» و«العدل» و«المساواة» و«الحرية التعبيريّة».
ألا ترى أن قتل الزاني والزانية لدى الغرب تصوّرٌ غيرُ إنساني ، وأن تنفيذَ حدّ السرقة وحشيّةٌ ، وأن الاختلاط ، بين الذكور والإناث، وممارسة الجنس خارج إطار الزواج الشرعيّ عملٌ بالحريّة التي ينالها الإنسانُ ولادةً، وأن مغازلة الفتيات مع الفتيان بشكل سافر علني حقٌّ من الحقوق التي لابدّ من ممارستها لكل فتى وفتاة ، وأن ممارسة الجنس ودواعيه في الشوارع والحدائق والأمكنة العامّة حقٌ من الحقوق التي يتمتع بها كلُّ إنسان يولد من أب وأمّ ويُطْلَق عليه كلمة الإنسان . ومن هنا فهذه «القيم» كلُّها من دعائم الديموقراطية الغربيّة وأساسيّاتها . ولذلك عندما احتلّت أمريكا أفغانستان والعراق نشرت هذه «القيم» وغيرها من «المبادئ» التي تعمل على ترسيخها في أرض أفغانستان وأرض العراق قبل أن توفّر فيهما ما يبقي على حياة أهلهما من الغذاء والدواء وما يستر عوراتهم من الكساء . فأغرقت أمريكا البلدين بالأفلام الإباحيّة ، حتى تمتص من أبنائهما الدينَ الإسلامي وقيمه التي تبعثهم على «العنف» و«التطرف» و«الإرهاب» وتغرس فيهم قيم الغرب الماديّة الإباحية التي تبعث على «الاعتدال» و«الانفتاح» و«التأقلم» مع كل فكر فاسد وافد متعارض مع الدين الإسلامي وقيمه. وسمحت أمريكا بتدافع الصهاينة والمبشرين المسيحيين إلى أفغانستان والعراق ليقوموا بنشاطاتهم المُخَطَّطَة لنزع المسلمين من حضن الإسلام إلى اليهودية والمسيحية تحت ستار المساعدات والإغاثات والإعانات ؛ فانتشرت الكنائس ولاسيّما في العراق ، وتحركت الصهيونية بشكل رهيب لم يعرفه عهد من العهود السابقة .
ولاعجب إذا كان «بوش» و«توني بلير» كلاهما قد تَبَاهَيا أكثر من مرة أنهما يُمَثِّلان حضارةً متقدمةً ويحاولان زرعَها في كل من أفغانستان والعراق ، والمناطق المجاورة التي لاتعرف لحد الآن مثلَها في النبالة والتنّور والتحضّر، وأنّ أهلهما المسلمين متخلفون بدائيون يُمَثِّلُونَ حثالةً إنسانيةً ، فهم يكرهون حضارتَنا ويُعَادُونَ ثقافتَنا ، ولابدّ من تلقينهم درسَ التحضّر والتنوّر ! .
ويفضح هذين الممثلين الكبيرين البارزين في تاريخ اليوم للحضارة الغربية أنّهما يؤيّدان ماديًّا ومعنويًّا وعلى مرأى ومسمع من العالم وبوقاحة ليس بعدها وقاحة عددًا من الديكتاتوريات في العالم التي تمارس ضدّ شعوبها من الاعتداءات ما يعتبره الغربُ المتعاطي مع العالم الإسلامي بالازدواجية اعتداءات أيضًا بمقياسه ؛ فالديموقراطية التي يفاخر بها الغرب ليست إلاّ خاضعة لمصالحه ؛ فعندما تقتضي المصلحة أن يغزو دولةً من الدول تتبدّى له فيها كثير من السوءات التي تدعوه مُلِحّةً إلى غزوها لزرع «جنّة» الديموقراطيّة فيها وإزالة جميع مساحات «النار» منها . وقد أكّدت المشاهد الأفغانستانية وبعدها العراقية أن الغرب لاتعنيه معاناة الشعوب والأمم ، وإنما تعنيه المصالح المتنوّعة . إن القضية العراقية بصفة خاصّة أثبتت كون «بوش» وعشيقه «توني بلير» أكبر مجرمين في التأريخ المعاصر وأشنع مجرمين بين الفراعنة الحكام الذين دَرَجُوا عبر التأريخ البشريّ؛ ولكنّ الغرب المتظاهر بالعدل والمساواة والإنصاف والحقوق الإنسانية لم يرفع جدّيًّا وبشكل مثمر صوتَه لإيقافهما موقف المجرمين وإدانتهما بارتكاب الجرائم الحربية البشعة التي يشاهدها العالم كل لحظة ومحاكمتهما فعقابهما عقابًا رادعًا . وقد تأكّد كذبهما وتلفيقهما للأسباب التي تَذَرّعا بها لغزو العراق وأيضًا لغزو أفغانستان ؛ حيث إن «بوش» لم يقدم لحد اليوم دليلاً قاطعًا على إدانة القاعدة بتفجيرات 11/ سبتمبر2001م ، الأمر الذي اتخذه وسيلة لغزو أفغانستان وتدميرها عن آخرها .
وما دام الحديث يدور حول تباهي الغرب بـ«الديموقراطية» يطرح هناك سؤال نفسه طرحًا مُلِحًّا : لماذا لاتزال أمريكا ودولُ الغرب مُصِرَّةً على معارضة «حماس» التي فازت بأغلبية في الانتخابات العامة التي صَوَّتَ فيها الشعب الفلسطيني لصالحها . إذا كانت الديموقراطيةُ تعني فيما تعنى احترامَ إرادةِ الشعب فيما يتعلّق بإدارة البلاد ؛ فما هو السبب في الإصرار الأمريكيّ على الامتناع عن التعاون مع حماس التي كسبت إرادةَ شعبها ؟ وما هو الداعي لأمريكا والغرب على الإجماع على ممارسة الضغط عليها للتخلّي عن مبادئها التي تتبنّاها للدفاع عن الشعب الفلسطيني ومقاومة الاعتداء الإسرائيلي الذي تقف أمريكا والغرب بجانبه .
إنّه ليس السبب إلاّ الحقد على الإسلام والمسلمين ، ومعاداة القضايا العربية العادلة ، وتأييد إسرائيل في عدوانها الوحشي على الشعب الفلسطيني والأراضي الإسلامية العربية، الأمر الذي ينصبّ في خانة المصالح الغربية الأمريكية الصليبية الصهيونيّة ذات الأهداف الكثيرة .
وأعود لقضيّة حرية التعبير المزعومة لدى الغرب، لأشير إلى أن رئيس تحرير القسم الثقافي بصحيفة «جيلاندس بوستن» – المسؤول عن نشر الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة للنبي ﷺ – الذي كان قد أعلن عن خداع أو صدق نيّة اعتزامَه على نشر رسوم كاريكاتوريّة مماثلة ساخرة من المحرقة النازيّة ضدّ اليهود المعروفة بـ«الهولوكوست» نقلاً عن مسابقة أعلنتها صحيفة إيرانية ، قد مُنِحَ إجازةً إجباريّةً، رغم أنه كان قد تَراجَعَ في اليوم نفسه عن تصريحاته حول نشر رسوم ساخرة من «الهولوكوست» مُعْتَبِرًا أنّ إعلانه عن ذلك كان خطأ وأنّه سيلتزم بالخطّ التحريري الذي تُقَرِّرُه إدارة الصحيفة ؛ لكن تصريحاته الأخيرة الواضحة لم تُرْضِ المسؤولين عن الصحيفة ، حتى أرغموه على تقبّل إجازة إجبارية .
وفي السياق نفسه جدير بالذكر أن الصحيفة المذكورة التي أقدمت على نشر رسوم مسيئة إلى النبي ﷺ ، سبق أن رفضت في شهر أبريل 2003م نشر رسوم مسيئة إلى سيدنا المسيح – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – خشيةَ ردود الفعل الغاضبة من قبل قراء الصحيفة من أبناء الغرب الذين معظمُهم يدين بالمسيحية المشوّهة .
وكأنّ الصحيفة حين نشرت الرسوم الساخرة من نبينا محمد ﷺ تجاهلت ردود فعل المسلمين الغاضبة ، أو أنّها فرّقت بين النبيين – عليهما الصلاة والسلام – لأن ثانيهما نبيُّ المسلمين وحدهم على زعم الغرب . والمسلمون ونبيهم يليقون بكل إساءة ، لأنهم غثاءٌ كغثاء السيل ، ولا قيمة لهم عند الغرب !!.
إن هذا التعامل بل العبث بحقيقة حرية الفكر والتعبير لايحسنه إلاّ الغرب المتكبّر المتنكّر لكل فضيلة وقيمة لدى الشرق ولاسيما المسلمين الذين يحمله كبره على اعتبارهم غير «متحضّرين» .
(تحريرًا في الساعة 10 من الليلة المتخللة بين الثلاثاء والأربعاء 27-28/ المتخللة بين الثلاثاء والأربعاءفكر والتعبير لابحسنه إلاّ الغرب المتكرّ المتنكّر لكل فضيلة وقيمة لدى الشرق ولاسيما المسلميصفر 1427هـ = 28-29/ مارس 2006م)
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.