دراسات إسلامية
بقلم : الدكتور جمال رجب سيدبى
ظهرت أطروحات الحوار الحضاري بين المسلمين والغرب بشكل واضح في الأونة الأخيرة خاصة إثر كتابات «فوكوياما» عن نهاية التاريخ، وأن النموذج الغربي الليبرالي هو النموذج والمثال، والذي يجب محاكاته، أو أن يسود العالم بأسره شرقه وغربه، شماله وجنوبه، وكتابات «صمويل هنتجتون»، عن الصراع الحضاري، ويبدو أن هذه الكتابات تعاظمت بصورة جلية بنهاية الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي.
ولقد تبنت الأمم المتحدة فكرة الحوار الحضاري واعتبرت عام 2001م عام الحوار بين الحضارات ، وانطلاقاً من هذه الأهمية على المستوى العالمي، بهذه القضية، نحاول في هذه الورقة أن نطرح لأساسيات الحوار بيننا وبين الغرب من خلال الرؤية الإسلامية .
1- الحوار بين الحضارات مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام:
لابد وأن نقرر بداية، أن الحوار بين الأنا والآخر، من مبادئ الإسلام العظيمة والتي أعلى من قدرها، وأن التعارف والتعاون بين الشعوب سمة أساسية من سمات الإسلام الحنيف، وليس أدل على هذا من بلاغة القرآن الكريم، فلو نظرنا في سورة الحجرات، لوجدنا أن المولى تبارك وتعالى يقول: ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَّ أُنْثـٰـى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا﴾ آية 13، فأصل دعوة الإسلام هو الالتقاء بين الأمم والشعوب لمزيد من التفاعل والتواصل الحضاري.
2- الحوار الحضاري لايعني الذوبان في الآخر:
الحوار الحضاري يعني في نظر الحضارة الإسلامية احترام ثقافة وخصوصية الآخر، وأن تعدد الحضارات يُعْتَبَر تعددَ تنوع وتعاون لا تعدد صراع وتنابز؛ ومن ثم فالحضارة الإسلامية عندما دان العالم لها بالقوة والسيادة، لم تسع إلى ابتلاع الآخر أو فرض هيمنتها على الآخرين. بالعكس لو نظرنا إلى هذه الحضارة لوجدنا أن أهم سماتها هو التواصل والتفاعل مع الحضارات المجاورة، فلقد استفادت الحضارة الإسلامية من تراث الإغريق والرومان، فقد تم ترجمة مؤلفات أرسطو وطب أبقراط وهندسة أقليدس، ثم أبدع العالم المسلم من قريحته الفكرية وأضاف إلى هذه الأفكار أفكارًا أخرى وظهر طب ابن سينا ويتمثل ذلك في كتاب «القانون» في الطب. لم تسع الحضارة الإسلامية إلى ابتلاع الحضارات المجاورة، أو الهيمنة على ثقافة الآخرين مثلما يعتقد فوكوياما أو غيره من الكتاب والمفكرين .
أود أن أقول إن كل حضارة لها خصوصيتها الثقافية، فالحضارة الإسلامية نتاج عقيدة التوحيد وما يترتب على هذه العقيدة من منظومة القيم الروحية، والثقافة الإسلامية المترتبة عليها، أقول ليس معنى الحوار أن تطالبني بالتخلي عن ثوابتي العقدية وقِيَمي الأخلاقية التي هي أخص خصائص حضارتي، وحتى يكون الحوار حوارًا مثمرًا؛ فلابد وأن نحترم ثوابت الآخر وثقافته التي يؤمن بها، ومن هنا تكون أرضية الحوار أرضية بناءة لمزيد من التلاقي والتلاقح بين الشعوب والحضارات .
3- القواسم المشتركة بيننا وبين الغرب لدعم الحوار الحضاري:
يبدو لي أن القواسم المشتركة بيننا وبين الغرب كثيرة، لتفعيل الحوار الحضاري، وأول هذه القواسم ترسيخ مبدأ التعايش في سلام، فالإسلام دين السلام بأوسع معانيه، لأن كلمة الإسلام تعني السلام، أو إسلام الوجه لله وتحية الإسلام السلام، والإسلام يدعو إلى السلام النفسي للفرد والمجتمع، ومن هنا فإن التأكيد على هذه الحقيقة كمبدأ إسلامي أصيل، والتي دعانا إليها الغرب في عصرنا الحديث من خلال منظمة الأمم المتحدة كأحد مبادئها، أقول إن البشرية الآن ترنو إلى تحقيق الهدف الذي أصبح بعيد المنال «الإسلام». وحتى لايكون الكلام في حوار الحضارات مجرد أماني، فلابد أن يكون المدخل الصحيح للحوار، أن ديننا يؤكد حقيقة «السلام» بمعناه الكامل، ولو نظرنا إلى تاريخ السيرة العطرة في دولة المدينة، لوجدنا أن النبي ﷺ قد كتب ميثاق المدينة وهو عهد بين النبي ﷺ والمسلمين واليهود، فقد حفظ النبي ﷺ لليهود حقوقهم كاملة، «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» ، لم ينظر النبي ﷺ على أنهم أقليات، بل نظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الأولى بلغة الفكر السياسي المعاصر، وهذا هو تاريخ حضارتنا في التعامل مع «قيمة التعايش» في سلام. ومن هذا المنطلق فالسؤال المطروح للحوار هل الغرب يطبق هذه القيمة في العالم المعاصر؟
4- من القواسم المشتركة بيننا وبين الغرب
أيضًا التعاون بين الأمم والشعوب في كل المجالات اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، فالدعوة إلى تعزيز العلاقات بين الأمم والشعوب تعزز الحوار الحضاري، وتزيل كابوس «الخوف من الآخر». وهذه النقطة (الخوف من الآخر) سأشير إليها في النقطة التالية بصورة واضحة .
5- ظهرت كتابات تعزز مفهوم النظر إلى الإسلام كعدو
أو الخوف من ظهور الحضارة الإسلامية كبديل عن الحضارة الغربية مثل كتابات «نيكسون» الفرصة السانحة والحق يقال إن الإسلام الحضاري في صالح البشرية لأنه لايود أن يفرض نفسه بالقوة بلغة موازين القُوَى المعاصرة، وإنما تنظر الحضارة الإسلامية إلى مصلحة البشرية جمعاء، وتحترم إنسانية الإنسان لكونه إنسانًا بصرف النظر عما يعتقد. والسؤال الذي نتحاور على أساسه هل الحضارة الإسلامية في أوج مجدها حاولت أن تفرض نفسها بالقوة الهيمنة؟ إن التاريخ والواقع يؤكِّدان عكس ذلك. ولابد أن نتحاور على هذا المبدأ مع الغرب، لأنه لو حدث ودارت الأيام دورتها، وعادت الحضارة الإسلامية إلى سابق عهدها في العصور الوسطى، فستكون في صالح الغرب أولاً لأن الإسلام علمنا أن نحترم الإنسان ونقدره لكونه إنسانًا بصرف النظر عما «يعتقد» ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيْ آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِيْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلىٰ كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً﴾ الإسراء: آية 70 .
6- المسلمون والدور الحضاري لدعم الحوار :
دائمًا أقول إن الخلل من داخلنا، فمازال الإسلام الحضاري مغيبًا عن الوجود، ومازال المسلم تحكمه لغة الانفعال لا لغة المنهج، ومن هنا فإن توضيح صورة الإسلام الحضاري بتوازنه بين مطالب البدن وعالم الروح، نحن في أمسِّ الحاجة لتوضيح هذه الصورة للإنسان الغربي، فكما يقال: «الناسُ أعداءُ ما جهلوا». ومن هنا فإن الصورة المزرية هي التي مازالت تعشعش في ذهن وذاكرة العديد من الغربيين وتؤثر بشكل أو بآخر عليهم، وحتى يكون الحوار حوارًا مثمرًا فلابد وأن نميط اللثام عن حقيقة الإسلام وبمعناه الحضاري. الإسلام الفاعل في دنيا الناس حضارة وثقافة وعلمًا. وهذا الدور من أخطر الأدوار حتى نستطيع أن نقيم قاعدة ثابتة بيننا وبين الغرب بأن الإسلام الحضاري يوم يسود فسيكون لنفعهم هم أنفسهم، لا أن يكون مرعبًا لهم، والبون شاسع بين المفهومين، فالخوف النفسي عقدة الغرب من النموذج البديل في المستقبل، يتمثل هذا في الإنسان الأخضر أو «المسلم الحضاري».
7- الموضوعية أساس الحوار :
لابد أن تكون قيمة «الموضوعية» هي أساس كل حوار بيننا وبين الغرب، فليس من الإنصاف أن نتحاور مع غيرنا وتحكمنا أفكار محددة، وإن النظرة الأحادية لمن أخطر الأمور في دنيا الحوار وقالها الإمام الشافعي قديمًا: «رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصواب».
إن هذه القاعدة المنهجية لمن أخطر الأمور في الحوار الحضاري، والغرب الآن في حاجة إلى تأسيس حوار بناء، حوار يبنى ولا يهدم، حوار يقيم مملكة العدل في الأرض لسعادة الإنسان .
8- الحوار والمجادلة بالحسنىٰ منهج قرآني فريد:
يقول المولى تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوْا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِيْ هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مِنْهُمْ وَقُوْلُوْا آمَنَّا بِالَّذِيْ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلـٰـهُنَا وَإلـٰـهُكُمْ وَاحِدٌ وَّنَحْنُ لَه مُسْلِمُوْنَ﴾ العنكبوت: آية 46، تدل الآية على التعاون فيما اتفقنا عليه، والإيمان بالألوهية، وأن يعمد المتحاور إلى أحسن الأساليب في عرض الدعوة والحوار، وأن يختار من بينها، فليست الآية مخيرة المحاور بين الحسن والقبيح، وإنما آمرة إياه أن يختار الأحسن بدلاً من الحسن، وهذا يدل على مدى احتفاء القرآن بمراعاة نفسية محاوريه، وهناك آيات قرآنية كثيرة، ونكتفى بهذا النموذج .
9- حوار لا صراع :
كما أشرت أطلق «صمويل هنتجتون»، صراع الحضارات، ولست أدري ما الذي أدى إلى هذا الصراع، فعندما كانت الحضارة الإسلامية في أوج مجدها، بحثت عن «التواصل» مع الشعوب المجاورة، ومن يستنطق التاريخ يجد الكثير والكثير، فابن رشد الإسلامي أثر في المدرسة اللاتينية في فلسفة العصور الوسطى المسيحية واليهودية، دون أن يكون هدف هذه الحضارة ابتلاع الحضارات تحت مسمى العولمة تارة، والكوكبة تارة أخرى وغيرهما من مسميات أخرى كثيرة .
10- التوازن بين الحضارات سنة كونية :
من سنن الله في خلقه القانون ﴿وَكُلُّ شَيْءٌ عِنْدَه بِمِقْدَارٍ﴾، وهذا القانون الإلـٰـهي كما يحكم الحياة، يحكم أيضًا – فيما نعتقد – سير الدول والشعوب والحضارات، ولو حادت عنه لبادت هذه الحضارات، كما حدث للحضارات السابقة. ومن هنا فإن التأكيد على المبادئ الرئيسية التي تؤدي إلى التوازن بين الحضارات والشعوب لابد وأن يكون سمة الحوار الحضاري، مثل مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، وحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، وعدم استخدام القوة لحل الصراع بين الأمم والشعوب. وهذه المبادئ التي دعت إليها عصبة الأمم في وقتنا الحديث – وكما أشرت آنفًا – هي مبادئ إسلامية، كما أنها تحقق التوازن بين الشعوب والحضارات، ولو حادت حضارة من الحضارات عن هذه المبادئ لتعرضت للأفول والاحتضار.
أعتقد أن المبادئ والعناصر الآنفة تصلح لأن تكون بمثابة مقدمة وأساس للحوار الحضاري بين المسلمين والغرب، إذا أردنا أن يكون حوارًا حقيقيًا، يفيد الإنسان أيًا كان لونه أو نوعه أو جنسه على أرجاء المعمورة .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.