كلمة العدد
يُهِلّ علينا العامُ الهجري ، والقوى غيرُ الإسلاميّة تتكالب عليه اليوم بشكل لم يشهده الماضي في عهدٍ من عهوده . تَعَاضَدَتْ كلُّها على محاربته والتصدّي له وتطويقه من كل جانب . تُعْمِلُ كلَّ حيلة ، وتستخدم كلَّ وسيلة ، وتُجَرِّب كلَّ أسلوب من أساليب الحرب ، وتفتح جبهةً بعدَ أخرى ؛ حتى تشغل أبناءَه في كلّ منها؛ لكي لايجدوا فرصةً كافية لمقاومتها مقاومةً حاسمةً فاصلةً .
إنّ أسلوبَ تنويع الجبهات ، وتكثير نقاط العمليّات الحربيّة ضدّ الإسلام أحدُ الأساليب المُعْتَمَدَة المُفضَّلَة لدى القوى المحاربة للإسلام ، علمًا منها أن أبناءَ الإسلام يكونون أقدرَ على التعامل وإنهاء الحساب معها فيما إذا قلّت جبهاتُ المعارك ؛ ولكنّهم لدى تكاثرها – الجبهات – واطّرادها عليهم لن يتمكّنوا – كما تحسب هذه القوى – من مواجهتها جميعًا من خلال الجبهات الكثيرة ، فتخضع للهزيمة ، وترضى بالانقياد لها ، والاعتراف لها بالفتح والانتصار .
هذه السياسة التكثيريّة والتنويعيّة هي التي تسلكها كلٌّ من القوى المحاربة للإسلام التي تعمل اليوم مُتَكاَتِفَةً مُتَعَاضِدَةً رغم جميع العوامل التي كان من شأنها أن تُفَرِّقَها ولا تَدَعَها تَتَّخِدُ وتَتَآلَفُ. ومن غرائب الزمان ومفارقات الأيّام أن تَتَّحِد القوى المُتَشَتِّة التي تَتَوَزَّعُها المُعْتَقَدَات والاتجاهات ، والطقوس والأوهام ، بالإضافة إلى الأغراض والمصالح ، والأعراق والأجناس ، والألوان والأوطان ، والكثير الكثير من الأصنام، المنحوتة والمنجورة ، والمقبورة والمنصوبة .
لم تكن سياسةُ تمزيقِ الخلافة العثمانية التي كانت – على علاّتها – جُنَّةً للإسلام والمسلمين؛ ثم سياسة زرع غرس إسرائيل الخبيث في قلب الأرض الإسلاميّة العربيّة التي بارك الله فيها – أرضِ بيت المقدس والمسجد الأقصى : أرضِ فلسطين – ثم العمل بالسياسة الثابتة تجاه إضعافِ دول المواجهة لإسرائيل والدول العربية المجاورة كلّها مقابلَ توفير كل الفرص ، وتقديم كل نوع من المساعدات ؛ لتَتَقَوَّىٰ إسرائيل عسكريّا واقتصاديًّا، وتصبح قادرة على ابتلاع فلسطين، وتأديب الفلسطينيين ، والنيل من كل دولة عربية وإسلاميّة والكيل لها الصاعَ صاعين قبل كل مخافة وهميّة تشعر بها منها ؛ ثم إتاحة الفرصة وتكريس الإمكانيّات لتُضْحِيَ – إسرائيل – دولةً نوويّة تمتلك المئاتِ من الرؤوس النووية ؛ مقابل تضييق الخناق على كلّ دولةٍ عربيةٍ أو كلّ دولة تُصَنَّف إسلاميّةً تتحدّث بل تفكرّ مجرّدَ تفكير في التعامل بالطاقة النوويّة ، ولو صرّحت آلافَ المرات وقدّمت آلافَ الشواهد أن برنامجها النووي ليس إلاّ لأهداف إيجابيّة غير عسكريّة ، وأنها ليست لديها نيّة في إنتاج أسلحة نوويّة . ثم العمل بسياسة امتلاك الدول الكبرى كلّها وعلى رأسها شرّ الدول الإرهابية : أمريكا برامجَ نوويةً مُكَثَّفَةً وإنتاجها لمئات الأنواع من الأسلحة الفتاكة بما فيها أسلحةُ الدمار الشامل مقابلَ ممارستها الضغطَ المستمرَّ المُكَثَّفَ على الدول الصغيرة ، ولاسيّما الدول العربية والإسلاميّة للخضوع للتخلّي عن أي نيّة لاتّخاذ برنامج نوويّ وعن الإرادة للبدء فيه وعن الإنتاج لأي سلاح يُعَدُّ نوويًّا .
على حين إن صحيفة «التايمز» البريطانية بَيَّنَتْ أخيرًا أن 2450 رأسًا نوويًّا في العالم قادرةٌ على تدمير الكرة الأرضيّة عِدّة مرات ، تمتلك منها أمريكا وحده 10500 رأس نووي ، وقد بدأت تجاربَها النووية عام 1945م ؛ وبريطانيا تملك 200 رأس نووي ، وقد أجرت أولى تجاربها النووية عام 1952م ؛ وفرنسا تملك 350 رأسًا نوويًّا ، وقد أجرت أولى تجاربها النوويّة عام 1960م ؛ وأنّ هناك جزمًا أن إسرائيل تملك من الرؤوس النوويّة ما يبلغ المئات. فيما تمتلك روسيا 18 ألف رأس نووي، وقد أجرت أولى تجاربها النوويّة 1949م ، وتدّعي كوريا الشماليّة أنها تملك أسلحة نووية من الصعب التأكّد منها . والصينُ تملك 400 رأس نووي ، وقد أجرت أولى تجاربها عام 1964م . وتملك الهند بحسب التايمز ترسانة صغيرة للأسلحة النوويّة . أما باكستان فمن المُعْتَقَد وليس من المؤكّد أنّها تملك أسلحة نوويّة. وقد أثارت ولاتزال أمريكا والدول الكبرى الممتلكة للحلّ والعقد في الشؤون الدوليّة ضجّةً كبيرةً ضدّ باكستان ومُتَوَلِّي مسؤوليّةِ السبق إلى برنامجها النووي السيد عبد القدير خان بشكل قد أَغْضَبَ العالمَ الإسلاميَّ ولاسيّما الشارعَ الإسلاميَّ العامَّ . أمّا إيران فإنها لم تتعدَّ البدءَ في تخصيب اليورانيوم ، وقد نَفَتْ مرارًا وتكرارًا أنها ليست لديها أية نية لإنتاج أسلحة نووية ؛ ولكنك تعلم : كيف أقامت أمريكا العالَم كلَّه ضدّها ، ولم تقعده بعد ولن تقعده حتى يتخذ ضد إيران ما يسرّ أمريكا وإسرائيل والقوى المعادية للإسلام ؛ لأن إيرانّ ذنبُها أنها تُصَنَّف «دولة إسلامية» وتتحدى – ضمن معركة كلاميّة وكاستهلاك محلّي – إسرائيلَ من حين لآخر . وقد صَرَّحت الأنباءُ الأخيرةُ التي أذاعتها وكالات الأنباء العالمية يومَ السبت 4/فبراير 2006م (5/محرم 1427هـ) أن 27 من دول العالم بما فيها الهند صَوَّتت لصالح رفع قضية البرنامج النووي الإيراني إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حتى يتخذ ما يراه من القرار. علمًا بأن أمريكا عازمة – كما تشير جميع مواقفها – على القيام بالعمليّات العسكريّة ضد كل من إيران والشام . ومجلس الأمن أو الأمم المتحدة – كما تؤكد جميع وسائل الإعلام والمصادر العليمة – ليست إلاّ أداةً طيعة بيد أمريكا لتأديب الدول الإسلامية والإضرار بالقضايا الإسلاميّة ، وفرض الهيمنة على الدول الضعيفة ولاسيمال الدول العربية والإسلامية ، وامتصاص خيرات الدول الخليجيّة المنتجة للبترول .
وأخيرًا – وليس آخرًا – عرضُ مسرحيّةِ 11/ سبتمبر 2000م وتأسيس «الحرب ضد الإرهاب» عليها ، وصيدُ الإسلام والمسلمين من خلالها ، واقتحامُ كلُّ دولة إسلاميّة بجميع العُدَد والعُتَاد والجيش الجرّار ، واستهدافُها كلَّها إحدىً بعد أُخْرَىٰ ، وممارسةُ الضغوط ضدّ كل منها للتغيير في مناهج الدراسة ، وأنماط الحياة ، وسياسات الحكم؛ ولاعتبار كلِّ مسلمٍ ملتزم بالإسلام من شعوبها إرهابيًّا ، وكلِّ عالم ديني «أصوليًّا» وكل مدرسة وجامعة دينية مصدرًا للإرهاب ، وكل جميعة خيريّةٍ مُمَوِّلةً ومُؤَيِّدةً للإرهاب ، واعتبارِ الإسلامِ الأصيلِ إرهابًا ، تمهيدًا لإنتاج «إسلام معتدل» مُتَمَاشٍ مع العصر الحاضر ، مُتَعَاطِف مع أمريكا وإسرائيل والصهيونية العالميّة والمسيحية المتصهينة ، ومتحمّل لكل شيء يُمَارَسُ ضد الإسلام والمسلمين ، من الأفاعيل التي لن يَتَحَمَّلها إلاّ منافقٌ أو مارقٌ من الإسلام ، ولن يَتَحَمَّلها مسلمٌ يتمتع بذرة من الغيرة الدينية ، والحمية الإسلاميّة، ويخفق قلبُه بحبّ الله ورسوله والكتاب الذي أنزله عليه .
وأخيرًا – وليس أخرًا – سياسةُ محاولةِ الانصرافِ بالمسلمين السُذَّج الأميين الجهلاء بأصول الدين وأحكامه عن الإسلام الذي جاء به محمد ﷺ بنشر كتاب «الفرقان الحق» – بالعربية والإنجليزية – الذي أعدّته أمريكا ؛ ليكذبوا – نعوذ بالله – بدينهم ، وبنبيهم ، وبالقرآن الكريم ، ويعودوا مرتدّين عنه ويؤمنوا بكون الجهاد مُلْغىً بعد محمد ﷺ ولاسيما في هذا العصر ؛ فيقلعوا عنه؛ فتأمن أمريكا ، وتأمن إسرائيل والقوى الواقفة بجانبهما ؛ ثم اتّباع سياسة نشر الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة إلى سيدنا الرسول محمد ﷺ ووصفه ﷺ بأنه كان إرهابيًّا ومنتجًا للإرهابيين ومُعَلِّمًا للإرهابيّة . وذلك عبر الصحف الدنمركية والفرنسية والألمانية وغيرها من الدول الأوربيّة . وكذلك عرض أفلام ساخرة من الإسلام والمسلمين واعتبارهم إرهابيين لَيتِمَّ تشويةُ صورهم وسيرهم في العالم كلّه ؛ فتسود ضدّهم كراهيةٌ عامّةٌ العالمَ كلَّه ؛ فيسهلَ اصطيادُهم وتطويقُهم واستعبادُهم وإخضاعُهم لجميع الأغراض الخسيسة والمصالح الخبيثة التي تُهِمُّ الصهيونيّةَ والمسيحيّةَ والعلمانيةَ الغربيّةَ والوثنيةَ العالميّةَ .
هذه وتلك – وغيرها التي ستظل تتتابع – سياساتٌ لايمكن أن تُصَنّف إلاّ ضمن تكثير الجبهات وتنويع أساليب المعارك ضد الإسلام وأهله. وهي ليست إلاّ امتدادًا لتلك السياسات الكثيرة المُتَنَوِّعة التي اتّبعتها قريشٌ لمحاربة الإسلام في مهده بمكة، ثم في داره وقراره بالمدينة ، ثم في انتشاره في أرجاء بلاد العرب وغيرها ؛ حيث جَرَبَّتْ جميعَ ما اهتدت إليه من أساليب التهديد والترغيب ، والإيذاء والتعذيب، والترحيل والتهجير، والمحاربة والتمثيل ، والمؤامرة والتأليب، والدعاية والتكذيب ، والحيلولة بكل طريق دون كل تقدم كان للإسلام أن يحزره وقد أحرزه رغم كل ماصنعته .
قد كان لقريش ومن إليها من المشركين أن ينجحوا ، ولو بعضَ النجاح ، ولو لبعض الوقت، في منع المدّ الإسلامي الذي كان يترامي ويتنامى جارفًا لكل مانع وحاجز كانوا يزرعونه ويقيمونه في سبيله ، لوكان هذا المدُّ صاحبُه شخصٌ آخرُ غيرُ النبي الخاتم محمد ﷺ الذي لم تَعْرِفِ الجبالُ ثباتًا مثلَ ثباته ، ولم تعرف النمل إصرارًا مثل إصراره ، ولم يعرف السيل اندفاعًا مثلَ اندفاعه . لقد ثـَبَتَ ﷺ – بتوفيق الله عز وجلّ – ثباتًا غريبًا لم يعرفه الكونُ اندحر أمامه جميعُ قوى الكفر والعدوان زعم جميع العُدَد والعَدَد والمكر والتفنن في الحرب التي لاَحَقَتْ بها الإسلامَ ، ولم تقهر ماردَه حتى في أشدّ المواقف حرجًا .
فقرروا – المشركون – يومًا في دار ندوتهم أن يختاروا من كل قبيلة فتى جلدًا نسيبا ، ليجتمعوا بباب محمد ﷺ ، و يهجموا عليه ، لدى خروجه من البيت ، هجمة رجل واحد ، فيُرْدُوْهُ قتيلاً ، ويتخلّصوا من «جماع الشر» و «رأس الفتنة» للأبد. وبذلك يتفرّق دمُه في القبائل كلّها ، ولا يقدر بنوعبد مناف أن ينتقموا منها جميعًا .
وكأَنَّهُمْ قرّروا أن يُجَرِّبوا آخِرَ سَهم في كنانتهم ؛ ولكن الله كان لهم بالمرصاد ، فأوحى إلى نبيه عن طريق جبريل أن لايبيت هذه الليلةَ في مضجعه . وقد خرج عليهم وجعلهم الله لايشعرون بخروجه ، حيث أخذ عنه أبصارَهم . فأَفْلَتَهُمْ «الصّيدُ» . ولكنّهم لم يَقْعُدُوا مُتْعَبِيْنَ مكدودين ، بل لاَحَقُوا الصيدَ في طريقه إلى مأوى آخر رَضِيَه الله له دارًا وقرارًا ، وأعْلنوا بجائزة غالية جدًّا لمن يأخذ إليهم محمدًا وصاحبَه – أبا بكر رضي الله عنه – حيًّا أو ميّتًا : جائزةَ مائةٍ من حُمْرِ النَّعَم ، وقد أَغْرَتِ الجائزةُ الباهظةُ رجلاً جَلْدًا وسيمًا من قريشٍ اسمُه سراقةُ بنُ جعشم ؛ لِيَحْظَىٰ بها ويَحْظَىٰ معها بالسمعةِ التاريخية والذكر الخالد في المجتمع العربيّ بأنّه قبض على «مُجْرِم» هاشميّ غير مسبوق في تاريخ العرب ؛ فخرج مُتَنَكِّبًا قوسَه مُتَقَلِّدًا سيفَه مُتَوَسِّمًا خُطَىٰ المُسَافِرَيْن إلى أبد التاريخ الذي لايعرف بدايتَه بالمعنى الصحيح ولانهايتَه بجميع المعاني إلاّ خالقُ الكون الذي هو مَبْدَأُ كلّ شيء .. إلى نقطة انتصار الحق بشكل حاسم وانكسا الباطل بشكل نهائيّ . وكان لايعرف المسكينُ سراقةُ أنّه ساعٍ في غير مسعاه ؛ ولكنه تَأَكَّدَ من ذلك عندما أَكَّدَتْ له أزلامُه أن الخيبةَ هي التي يجنيها من وراء سعيه الحثيث، وسَبَقَ خلطَ الأزلام والاقتراعَ بها سقوطُ فرسِه مرتين ورسوخُ أرجلها في الأرض، فَطَلَبَ منه ﷺ الأمانَ، ورَجَعَ يُمَثِّل خيبةَ الكفر ويُشَكِّل رمزًا مَبْنِيًّا على اندحاره في جميع المواقف القادمة التي يَتِمُّ فيها الصراعُ بينه – الكفر – وبين الإسلام الذي كان يُغِذُّ السيرَ إلى الأمام مُتَخَطِّيًا جميعَ المتاريس التي وَاصَلَ صناديدُ الكفر وسَدَنَتُه إقامتَها في طريقه .
ولكن المشركين لم يُقِرُّوا بهزيمتِهم وعجزِهم في بداية المشوار . وكأنّ الله العليم الحكيم شاء أن يُرِيَهُمْ والكونَ كلَّه مشَاهِدَ سقوطهم ومَنَاظِرَ اندحارِهم في كلِّ مركب ؛ ليكون ذلك شاهدًا حيًّا شاخصًا على أن ما حَقَّقَه الإسلامُ من الانتصار لم يكن عفويًّا وفيضًا مُجَرَّدًا من القوة الغيبيّة والقدرة الإلهيّة وأنّ انهزامَ الكفر كذلك لم يكن تقديرًا بحتًا وتقريرًا محضًا من الله القادر، وإنما كان كذلك مبنيًّا على سنة الصراع والمواجهة المكشوفة الشديدة الطويلة بين الإسلام والكفر .. السنة التي وضعها الله تعالى لحكمة يعلمها ؛ فلم يتمكن الكفر من مقاومته المثمرة ، والسعي المنتج للتغلّب عليه وبذل الإرادة الناجعة لإقعاصه . لقد شاء الله أن يُتَابِعَ سَدَنَةُ الباطل مجهوداتهِم الجبَّارة ليغالبوا الحقَّ على مرأى ومسمع من العالم ، ليُسَجِّلَ التاريخُ البشريُّ مدى تهالكهم على التصارع والاستماتة في سبيل المبدأ الذي كانوا يرونه من سوء الحظ الحقَّ الأصيل الأبلج ثم فشلهم النهائي الواضح الفاضح .
فخاضوا بدرًا وأحدًا والخندقَ وتبوكَ وحنينًا وما إلى ذلك من المعارك الكبيرة والصغيرة الكثيرة، وتَفَنَّنُوا في إعمال المؤامرات ، وإقامة التكتّلات ، وعقد التحالفات ، ضد الإسلام وأهله . ولم يُقِرُّوا بانكسار شوكتهم واستئصال شأفتهم إلاّ عندما دَاهَمَهُمْ نَبِيُّ الإسلام سيّدُنا محمدّ ﷺ في عقر دارهم : مكة – شرفّها الله – وأُخِذُوا من حيث لم يجدوا مفرًّا ، وأعلن ﷺ إطلاقَهم وعدَم اعتقالهم واستعبادِهم وقال: أنتم أيها الناس طُلَقَاءُ أحرارٌ لامُؤَاخَذَة .
إن مناسبة ذكرى حادث الهجرة تُهِلُّ علينا كلَّ عام لتذكّرنا بما قدّمه سيّدُنا محمد ﷺ من الأسوة في معاني الثبات والإصرار – علاوة على مشوار حياته كلها التي هي كلها أسوة بجميع مواقفها – فلم يَضْعُفْ ، ولم يَتَقَاعَدْ ، ولم يشعر بهزيمة داخليّة ، وانكسار معنويّ ، ولم يُفَكِّرْ قطُّ بأن الكفر وأنصاره لايمكن تخطّى شرّهم وإفسادهم ومكرهم ودهائهم وتألّبهم بقضّهم وقضيضهم وإلقائِهم أكبادَهم في معارك رَقَصَ فيها الموتُ رَقْصَ السَّعَالِي في سَوَادِ اللّيل البهيم . وإنّما ظلّ ﷺ يعمل صابرًا منذ بداية مشوار البعثة ، ويتحمّل كلَّ أذى لا أسبوعا أو شهرًا وإنما عَبْرَ سَنَوَاتٍ طويلة حتى لحق بالرفيق الأعلى، وقد رأي أنّ عمله وصبره الطويلين قد أثمرا ، وأن الله قد أتمّ نوره ، وأن جنودَ الباطل لم يتمكنوا من إطفائه بأفواههم ، رغم كلّ مكر نسجوه ، وكل شرّ صنعوه ، وكل حركة وسكون استخدموهما عبر سنوات طويلة .
ما أَشْبَهَ الليلة بالبارحة ؟ فقد نَهَضَ سَدَنَةُ الكفر وعَبَدَةَ الطاغوت في العالم كله يقودهم أمريكا ، ويرأسهم رئيسُها، وتُوَجِّهُهُمْ الصهيونيةُ العالميّةُ والمسيحيّةُ المُتَصَهْيِنَةُ والوثنيّةُ العالميةُ ، لينقضَّوا على عدوّهم المشترك وخصمهم العنيد: الإسلام . وها هم قد انقضّوا ، وها هم يهجمون اليوم هجمة رجل واحد ، وها هم لايكادوا يُوَلُّون مُدْبِرِيْنَ رغم كلّ أنواع الذلّ المقرون بالهزيمة ، ولايكادون يُقِرُّون بهزيمتهم . فأَحْرِ بالمسلمين الصادقين من جنود محمد ﷺ أن لا يَتَخَاذَلُوا ولايَتَكَاسَلُوا ولايتراجعوا عن مقاومتهم وملاحقتهم حتى يجبروهم على الانزواء إلى جحورهم ، والاعتراف بهزيمتهم ، بعد إصابتهم بجروح غائرة في كل من الأنفس والأرواح وأعماق الضمائر . «وَاللهُ غَالِبُ عَلَى أَمْرِه وَلـٰـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُوْنَ» (سورة يوسف/21).
أَلاَ فَاثْبتُوا أيّها المجاهدون في كلّ مكان ، وصابروا ورابطوا واتقّو الله لعلكم تفلحون . فإن النصر من الله ، بعد ما تصنعون كلَّ ما تستطيعونه من جدّ وكدّ ، وإعداد لما تُرْهِبُوْنَ به عدوَّ اللهِ وعَدُوَّكُم وآخرين من دونهم لاتعلمونهم ، الله يعلمهم .
(تحريرًا في الساعة :3012 من يوم الأحد 6/محرم 1427هـ الموافق 5 بسيارة مفخمِّلاً في الاغتيال 12/فبراير2006م)
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم – صفر 1427هـ = فبراير – مارس 2006م ، العـدد : 1–2 ، السنـة : 30.