هزَّ الزلزالُ- الذي ضرب في الأيام الأخيرة كلًّا من «سوريا» و«تركيا»، وجعل عاليهما سافلهما، ونزل عليهما صاعقةً – لا الدولَ المتضررة منه؛ بل العالم كله: مشاهد الدمار والخراب الشامل من جثث وأشلاء تحت الأنقاض: جثث نساء، وأطفال، وشباب، وشيوخٍ خرَّ عليهم سقف بيوتهم من فوقهم، فخنقتهم؛ ومشاهد رجال ذهبت عقولهم فزعًا، وطارت نفوسهم شعاعًا من هوله؛ ومشاهد البكاء والعويل والصريخ، والاستغاثة والاستعانة بمن حولهم من الناجين، ومن رجال الإغاثة؛ ومشاهد أموالٍ لعبت بها أيدي الهلاك، وانهيار أبنية شامخة، أصلها في الأرض، وفرعها في السماء تناطح السحاب قد تمزقت كل ممزق، وتطايرت تطاير أوراق الشجر من الهواء في بضع ثوانٍ؛ ومشهد العجز البشري أمام القدرة الإلهية: قدرة الله الذي فطر الكون كله، ورفع السماوات بغير عمد ترونها، وأمسكها أن تقع على الأرض. قال تعالى:﴿خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجٖ كَرِيمٍ﴾ [لقمان:10]، وقال: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦ وَيُمۡسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [الحج:65].
وكل هذه الخسائر الاقتصادية والبشرية – التي مُنيت بها الدول المتضررة- إذا كانت تدفع الإنسان إلى أن تذرف عيناه دمًا، لا دموعًا؛ وتورث قلبه أوجاعًا، وكدمات، وآلامًا لايعلم مداها إلا الله تعالى، فهي في جانب آخر تشكل آيةً من آياته تعالى، وتذكرة بقدرته التي لانهاية لها، وعظمته سبحانه وتعالى، وبعجز الإنسان المغرور بعلمه، وقوته، وما اخترعه من آلات وماكينات، و وسائل، و حِيَلٍ يظن أنه بها يصنع المستحيل، وأصبح في غنًى عن فضل الله، ورحمته، وكلئه وحفظه، بما اتخذه من قصور مشيدة، ومصانع لعله يخلد. قال تعالى: ﴿قُلۡ مَن يَكۡلَؤُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحۡمَٰنِۚ بَلۡ هُمۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِم مُّعۡرِضُونَ﴾ [الأنبياء:42].
ومما لاريب فيه أن ما شهده، ويشهده جهاتٌ كثيرةٌ من العالم من الزلزال هو من جملة آيات يخوف الله بها عباده، وآيات على عظمة الجبار، وضعف البشر مهما أوتوا من قوة، قال: ﴿وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا﴾ [الإسراء:59].
فأحرِ بالإنسان المسلم في مثل هذه الزلازل وغيرها من الآيات الإلهية أن يلجأ إلى الله تعالى خوفه وخشيته، وإلى الإنابة إليه تعالى، والإقلاع عن معاصيه، والتضرع إليه سبحانه، والإكثار من ذكره واستغفاره سبحانه، بجانب التفكير في هذه النعمة التي صبها الله عليه، والمتمثلة في سكون الأرض و قرارها. وقد نبهت عدة آيات إلى ذلك، يقول الله تعالى: ﴿أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا﴾ [النمل:61]، وقال: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا﴾ [غافر:64]، أي جعلها الله تعالى ساكنةً واقفةً، قارةً غير مائدةٍ، لتكون مستقرًا ومهادًا، فيتمكن الإنسان من السعي والعمل، والجلوس للراحة والنوم، والتجارة والزرع و الحرث وغيرها ممالا محيص له عنه ليعيش على وجه البسيطة. يقول الله تعالى: ﴿وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَٰرٗا وَسُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [النحل:15]. وقال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ﴾ [الرعد:3].
اللهم احفظ المسلمين، وبلادهم، والعالم كله من كل سوء أو مكروه، ولاتسلط علينا بذنوبنا من لايخافك ولايرحمنا. [التحرير] (تحريرًا في الساعة العاشرة صباحًا من يوم السبت: 19/رجب 1444هـ=11/فبراير 2023م).
مجلة الداعي، رمضان – شوال 1444هـ = مارس – مايو2023م، العدد: 9-10، السنة: 47