الأدب الإسلامي

بقلم : نور عالم خليل الأميني

       الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . وبعد :

       فأيها الإخوة الكرام ! يطيب لي أولاً أن أُهْدِيَ إليكم أطيبَ التحياتِ وأصدقَ التمنياتِ ؛ لأنكم تجتمعون الآن باسم اللغة العربية ، التي هي أشرفُ اللغاتِ باختيار الله إيّاها وعاءً لكتابِه الأخيرِ ، المهيمنِ على الكتبِ والصحفِ السماويَّةِ كلِّها ، وهي أَحْيَى الّلغَاتِ وأبقاها وأَخْلَدُها ؛ لأن الله عَزَّ وجَلَّ ضَمِنَ حفظَها من خلال وَعْدِه بحفظِ كتابِه ؛ فليس هناك في الكون لغةٌ أَحْرَىٰ بالتعليم والتعلّم من اللغة العربية ، وليس هناك لغةٌ أَنْفَعُ منها ؛ لأنها مفتاحُ علومِ الكتابِ والسنةِ. وقد أَهَّلَها اللهُ تعالى أن تَسْتَوْعِبَ كلامَه وتَسَعَ رسالتَه الخاتمةَ وأن تكون ذريعةً مُبَاشِرةً لآخر اتصالٍ للأرضِ بالسماء ؛ فالذين يتعلّمونها ويُعَلِّمونها ويشتغلون بها بأسلوب من الأساليب هم أَسْعَدُ مِنْ جميعِ الّذين يتعلّمون غيرَها من اللغات ، ويتخذونها هِوَايَةً لهم وشغلاً . فهنيئًا لكم أيها الإخوة الكرام . وَفَّقَكُمُ اللهُ تعالى لكلِّ ما يُحِبُّه ويرضاه .

       كما يَحْلُو لي أن أُقَدِّمَ جزيلَ الشكرِ والتقديرِ إلى الإخوةِ الأساتذةِ الدكاترةِ ، المسؤولين عن قسمِ اللغةِ العربيةِ وآدابِها بالجامعةِ المليةِ الإسلاميةِ هذه ، فلولا إلْحَاحُهُمْ الذي يَشِفُّ عن حبّهم لي وإخلاصِهم لِلُغَةِ القرآنِ الكريمِ ، لما تَشَجَّعْتُ لِلْمَقْدَمِ إلى هذا البرنامج ؛ لأنَّ داءَ السُكَّرِى ومَا أَدَّىٰ إِلَيهِ من تَدَاعِيَاتٍ يَمْنَعُنِي دائمًا عن حضورِ التجمعاتِ .

هذا الموضوع سبق أن تحدثت عنه لقيمته:

       أيّها الإخوة الكرام !

       إنّ هذا الموضوعَ : كيفيةَ تنميةِ المهاراتِ اللُّغَوِيَّةِ العربيةِ ، قد تَحَدَّثـْتُ عن مُعْظَمِ جَوَانِبِه الهَامَّةِ في مُحَاضَرَتِي التي ألقيتُها بالجامعةِ القاسميةِ المعروفةِ بـ «مدرسة شاهي» الكائنةِ بمدينةِ «مرادآباد» بولاية «أترابراديش». وذلك في 14/4/1417هـ الموافق 30/8/1996م في الليلة المتخلّلة بين الخميس والجمعة. وهي مطبوعةٌ باللّغةِ الأرديةِ باسم «حرفِ شيرين» . وربما يكون كثيرٌ من الحضور قد قَرَأَ الكتابَ ، ومن لم يقرأه ، فليقرأه ؛ فإنّه مفيد جدًّا في الموضوع الذي كُلِّفْتُ أن أتحدّث فيه الآن .

تلقّي اللغة يكون على صعيدين :

            أيها الإخوة الكرام !

       تَلَقَّي اللغةِ ، أيِّ لغةٍ ، عربيةً كانت أو غيرَ عَرَبِيّةٍ ، يكون على صعيدين :

       (الف) أن تُتَلَقّى وتُتَعَلَّم شَفَهِيًّا وعلى مستوى النطقِ والتكلمِ ، وأن يَكْسِبَ المرأُ مهارةَ التعبيرِ عمّا في ضميره بلسانه ، ويتدرّبَ على ذلك ؛ فيكونَ قادرًا على أداءِ كل غرضٍ من أغراضه شفهيًّا ، سواءٌ في البيت ، أو في الشارع ، أو في السوق ، أو في المدرسة ، أو في الجامعة ؛ ويتوسّعَ في القدرة النطقية ؛ فيقدر على إلقاء الخطاب والمحاضرة شفهيًّا وارتجالاً .

       ويتأتّى هذا المستوى أو قل : يتحقّق هذا المطلب ، بالمواظبة على النطق ، والتحدّث شفهيًّا ، إذا يستغلّ كلَّ مُنَاسَبَةٍ ليفصحَ فيها عن رأيه بلسانه ، ولايشعر بأي خَجَلٍ أو تحرّجٍ ، ولا يبالي بضحك الناس – ولا سيّما الزملاء والمعارف – عليه إذا بدرت منه زلّةٌ في التعبير ، أو عَثْرَةٌ في الأداء ، أو خطأٌ في صياغةِ لفظٍ أو تكوين جملةٍ . إن المواظبةَ على النطقِ باللغةِ العربيةِ في كلِ مكانٍ و مناسبةٍ تُخَرِّجُ المرأَ مَاهِرًا في النطقِ بها وبارعًا في إِبداءِ ما يريد إبداءَه شفهيًّا خاليًا من أي خطأٍ أو زلّةٍ في التعبير والصياغة .

       ولا يغيبَنَّ – أيها الإخوة ! – عن بالكم أن تعلُّمَ اللغةِ العربيةِ – كأيّ لغة أخرى – جدُّ يسير على من يحاول تعلّمها نطقًا وتحدّثًا و بالتالي خطابًا وارتجالاً لها ، بشكل شفهيّ . وقد رأيتُ كثيرًا من الذين لم يعرفوا من العربية كلمةً ، بل رأيت كثيرًا من الأميين الهنود ، قَصَدُوا مدينةً من مدنٍ المملكة العربيّة السعوديّة أو غيرها من الدول العربية ، فتعلّموا العربيةَ نطقًا وتحدّثًا في زمن يسير دونما مَشَقَّةٍ ؛ لأنّ تلقيّ أيّ لغةٍ نطقًا سهل جدًّا إذا استمرت المحادثةُ وتبادلُ الخطابِ بها .

       فإذا كانت لديكم رغبةٌ في أن تَقْدِرُوا على التَّكَلُّمِ باللغةِ العربيةِ وأداءِ كلِّ ما في نفوسكم من أغراضٍ بها شفهيًّا فعليكم المحادثةَ الدائمةَ بين زملائِكم ومعارفِكم فتعودون قادرين على النطق بها دونما حاجزٍ نفسيٍّ أو عمليٍّ ، وتعودون غيرَما أنتم الآن ، وتشعرون بدوركم أنكم أصبحتم غيرَما كنتم من قبل . ودَعُوا عنكم الخجلَ والمبالاةَ بأَنَّ زملاءَكم سيجعلونكم أضحوكةً ويتناولونكم بالاستهزاء ويتنادرون عليكم . إن كثيرًا من الطلاب في الجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند يأتونني ويسائلونني عن كيفية تنمية مهارة النطق باللغة العربية ، فأقول لهم : إنّ ذلكَ لأَسْهَلُ شيءٍ : تَكَلَّمُوا بها كلَّ وقتٍ وفي كلِّ مناسبةٍ وفي كلِّ مكانٍ يجمع بينكم وبين زملائكم غَيْرَ مُبَالِيْنَ بتنادرِ الْمُتَنَادِرِيْنَ وسُخْرِيَّةِ السَّاخِرِيْنَ ؛ لأن مَثَلَهم – ومعذرةً إلى أمثال هؤلاء – مَثَلُ الكِلاَبِ تَنْبَحُ في الطريق ؛ ولكن المارّةَ لا يُبَالُونَ بِنَبَاحِهَا ويَمْضُونَ في طريقهم ، ويصلون إلى المنزل . إن الوصولَ إلى المنزل إنما يتحقق دائمًا إذا لم نُبَالِ بـ«كلاب الطريق» أي العوائق والمتاريس التي تَعْترض الطريقَ.

       (ب) أن تُتَعَلّم وتُتَلَقَّىٰ كتابيًّا ، فيحاول المُتَعَلِّمُ والمُتَلَقِّيْ أن يعود قادرًا على الكتابة والتأليف باللغة العربية – أو بأيّ لغة يرغب فيها ويتصدّى لتعلّمها – وتعلّمُ لغةٍ على المستوى الكتابي أَنْفَعُ وأَدْوَمُ تأثيرًا؛ لأن النطقَ بها والخطابَ فيها والتحدّثَ من خلالِها يَذْهَبُ بعد فترةٍ – قليلة أو كثيرة إذا لم يُسَجَّل ويحفظ مطبوعًا – من الزمان ، حتى يصيرَ المستمعُ له ينساه وينساه الأجيال القادمة ولا تَذْكُرُ منه إلاّ ذكرىً تمحّي هي الأخرى على مَرِّ الأيامِ . إننا نسمع ذكرًا خافتًا لعدد من كبار الخطباء باللغة الأردية الذين كانوا خطباءَ مَصَاقِعَ حقًّا، وكان لخطاباتهم دويٌّ وسِحْرٌ وسلطانٌ على القلوب في عهودهم ؛ ولكنهم الآنَ صاروا مَنْسِيِّيْنَ لدى الجيل المعاصر في أَقَلَّ من نصفِ قرنٍ ؛ ولكن الكُتَّاب والمُؤَلِّفين الذين كتبوا لنا علومًا ، وأَلَّفُوا لنا كُتُبًا لايزالون أحياءَ لدينا رغمَ قرونٍ خَلَتْ على وفاتهم، فلا نزال نُشِيْدُ بِتُرَاثِهم العلميّ ، ونِتَاجِهِمِ الفكريّ ، وإنجازهم التأليفي ، وندعو لهم بالخير، ونَفْرِشُ لأرواحهم العيونَ والقلوبَ .

       ولكنَّ كسبَ المهارة الكتابية باللغة العربيةِ – كأي لغة أخرى – عملٌ صعبٌ لحدٍّما ، وعملٌ يَتَطَلَّبُ وقتًا وجهدًا ، واهتمامًا وجِدِّيَّةً ، لأنّ الكتابةَ لايقدر عليها المتعلم إلاّ بَعْدَ ما يُمْضِيْ وقتًا كافيًا في التَّدَرُّبِ عليها مُرَاعِيًا قواعدَ اللغةِ و وآدابَ الكتابةِ من الإيجاز والإطناب ، والترتيب والتنسيق ، والتقديم والتأخير والإطالةِ إذا اقتضت المُنَاسَبَةُ ، والإقصارِ إذا دعت الضرورة ، وَتَوَخِّي السهولةِ والسلاسةِ ، والعَفَوِيَّةِ والحلاوةِ ، والصياغةِ المحكمةِ ، والأسلوبِ الرائعِ ، والجزالةِ والدقّةِ في مكانهما ، وانتقاءِ الألفاظِ الملائمةِ للموضوع ، والوضعِ الصحيح لِلفقرات ، والمنهجِ الجذّابِ في العرضِ والنقاشِ والطرحِ ، بحيث إذا أَخَذَ القارئُ الكتابَ بيده لم يَطْرَحْهُ جَانِبًا مهما أَلَحَّتْ عليه الحوائجُ مالم يَقْرَأْه من أَوَّلِ سَطْرٍ إلى آخرِ سَطْرٍ فيه ، كأن الْمُؤَلِّفَ أو الكَاتِبَ شَدَّ القارئَ بِكِتَابِه فلا فِكَاكَ لَه منه حَتّى يُنْهِيَ «وظيفَته» من القراءةِ .

       إنّ الكتابةَ لاتُعَدُّ كتابةً إلاّ بعدَ ما تَوَافَرَتْ فيه هذه الشروطُ وأمثالُها ، وإلاَّ فَلاَ تَأْتِي على مستوى «وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأَرْضِ» (1).

من أين نبدأ في مشوار تعلم اللغة العربية كتابيًّا ؟

       أيها الإخوة الكرام !

       إنّ البدايةَ في مشوارِ تَعَلُّمِ اللغةِ العربيةِ كتابيًّا ينبغي أن تكون غيرَ مُعْتَمِدَةٍ على القواعد النحويّة والصرفيّة ، التي يراها الطلاب المبتدئون صعبةً جدًّا، كأنها مادةٌ فلسفيّةٌ ؛ بل ينبغي أن يُحَفَّظوا أولاً الكلماتِ والمفرداتِ الخفيفةَ ولاسيما التي ربما يكونون قَدْ أَلِفُوها من خلال اللغةِ المحليةِ التي رُضِعُوا بِلَبَانِها ، مثلُ اللغةِ الأرديةِ وغيرِها ، ثم يُعَوَّدون تكوينَ جُمَلٍ مُمَاثِلَةٍ من جملةٍ خفيفةٍ قصيرةٍ دون إشارةٍ إلى مُصْطَلَحَاتِ نَحْوِيَّةٍ أو صرفيةٍ ، وإنما يأخذ المُعَلِّمُ جملةً كنموذج من كتابٍ لأطفالِ العربيةِ أو يُكَوِّنُها من عِنْدِه ، ثم يَنْسُجُ عَلَىٰ مِنْوَالِهَا جملةً أو جملتين أو أكثرَ بين يدي الطُلاَّبِ لِيَعُوا مِنْهَاجَ تغييرِ الجملةِ و صياغةِ جُمَلٍ في قَالَبِهَا ، ثم يَأْمُرُهُمْ بتكوينِ جُمَلٍ في ضوئِها . مثلاً : هذا جَبَلٌ نأخذها نموذجًا ؛ هذا فقيرٌ ، وهَلُمَّ جَرًّا . فإذا أَحْكَمَ الطُّلاَّبُ النسجَ على منوالِ هذا النموذجِ ، نَتَدَرّج إلى نموذج مثلِه : ذلك كبيرٌ ؛ ذلك صغيرٌ ؛ ذلك مُعَلِّمٌ ؛ ذلك تلميذٌ . وهكذا . وكذلك يمكن أن يُفْعَل مع «كان التاجرُ صادقًا» كنموذج تُكَوَّنُ الْجُمَلُ في ضوئِه .

       فيقال (مثلاً) : كان العامِلُ صادقًا ؛ كان التلميذُ صَادِقًا ، كان المُعَلِّمُ صَادِقًا ، وهكذا ، فيجري تغييرُ اسمِ «كان» بغيره من الأسماء ، ثم يعود المعلمُ فيُكَلِّفُ الطلاّبَ بنزعِ خبر «كان» وإحلال الأخبارِ الأخرى محلَّه من غير إشارةٍ إلى مُصْطَلَحَيْ «اسمِ كان» و «خبرِ كان» وغيرهما من المُصْطَلَحَاتِ التي قد تُشَكِّلُ لدى الطلاب عُقْدةً قد لا تزول أبدًا .

       إنني دَرَّبْتُ كثيرًا من الطلاب على هذا المنهاج على تعليم الكتابة ، فوجدتُه أَنْجَعَ وأَنْجَحَ ؛ ولكنه لا يعزبنّ عن البال أن قضيةَ أهليّةِ الْمُعَلِّمِ من عدمِها ستبقى قضِيّةً أَسَاسِيَّةً باقيةً بقاءَ الدنيا ، ولن تتغير مهما تَقَدَّمَ العَالَمُ البَشَرِيّ أو تَأَخَّرَ . إنّ المُعَلِّم الْمُلْهَم – ولا يكون المُعَلِّمُ مُعَلِّمًا حتى يكون مُلْهَمًا – المُؤَهَّل المُدَرَّب ذَا الخِبْرَةِ المطلوبَةِ ، قد يصنع معجزةً في تعليم اللغة العربيّة أو غيرِها من اللغات ، والمُعلِّم الذي دونه لا يأتي على مستواه مهما كان المنهاجُ الدِّراسيّ مصوغًا في ضوءِ المواصفاتِ العصريةِ الحديثةِ ، وكان مبنيًّا على خِبَرات طويلةٍ، وتجاربَ واسعةٍ ، ومقرراتٍ دراسيّةٍ وَضَعَها نوابغُ الدهرِ في موضوعاتهم .

قصة كاتب بالعربية كان لايعرف القواعد النحوية :

       لقد عَايَشْتُ أكبرَ كاتبٍ عَبْقَرِيٍّ – بمعنى الكلمة الدقيق – باللغةِ العربيةِ وهو الكاتبُ الإسلاميُّ المفكرُ الداعيةُ الأستاذُ محمد الحسني (1353-1399هـ = 1934-1979م) رحمه الله منشئَ مجلةِ «البعثِ الإسلامي» ورئيس تحريرها ليوم وفاتِه ، الذي كان يكتب العربيةَ بأسلوبٍ مُحْكَمٍ رصينٍ عذبٍ سَلِسٍ رائعٍ يغبطه فيه حتى كبارُ كتّابِ العربِ في مصرَ والشامِ وغيرِهما . وكان لايعرف من النحو والصرف شيئًا ؛ ولكنه لتدربه الْمُبْتَكَر على صياغةِ الجملِ من جملةٍ واحدةٍ نموذجٍ، ثم التدربِ على الكتابةِ والترجمةِ كان يَضَعُ الكلماتِ في كلِّ فقرةٍ في مكانٍ مناسبٍ وبطريقة مناسبة، ثم يضع كلَّ جملةٍ بجنب جملةٍ مناسبة، فتأتي كتاباتُه ومقالاتُه بحيث تكون مغبوطة لدى أبناء اللغة العربية الأُصَلاَءِ ؛ حيث قد كانت تفوق أحيانًا كثيرةً كتاباتِ مَهَرَةِ الكتابِ منهم . وقد سَاءَلْتُه مَرَّاتٍ أَنَّى تَيَسَّرَتْ لكم مثلُ هذه العربيةِ في ديارِ العجم ؟ فقال ، هذا الأمر، أنا مَدِيْنٌ فيه لوالدي العالم الطبيب الداعية الحكيم الدكتور السيد عبد العلي الحسني (1311-1380هـ = 1893-1961م) الذي كان يُعَلِّمُني العربيَّةَ منذ قرأتُ القرآن الكريم – من القرآن الكريم ، فكان يأخذ منه جملةً قصيرةً سهلةً ، وكان يكلفني بنزع جزء من أجزائها ووضع كلمة أخرى مكانَه ، وصَنَعَ معي مثلَ ذلك عميّ العظيمُ العلاّمةُ المفكرُ الداعيةُ الشيخ أبوالحسن علي الندوي رحمه الله (1333- 1420هـ = 1914-1999م) وقد وَضَعَ لي مُؤَلَّفًا سهلاً باسم «قصص النبيين للأطفال» فصرتُ أكتب العربيةَ مُحْكَمَةَ النسجِ وأنا لم أَبْلُغْ منتصفَ العِقْدِ الثاني من عُمُرِي .

       ومعنى ما أقوله هنا وما أريد أن أؤكّده ، هو أنّ الطلاّبَ في مرحلتهم البدائية لايحتاجون إلى شيءٍ بمثلِ ما يحتاجون إلى أن يُحَفَّظُوا مفرداتِ اللغةِ العربيةِ من خلال كتابٍ أو كُتُبٍ سَهْلِ الأُسْلُوبِ رَئِعِ الْوَضْعِ ، وثانيًا أن يُكَلَّفُوا بصياغة جُمَلٍ خفيقةٍ على أسلوبِ ونهجِ جملةٍ نموذجيةٍ ، وبعدما يسيطرون عليها جيدًا ويعودونُ متَصَرِّفين فيها تصرّفًا مُتَنُوِّعًا ، تُعْرَضُ لديهم جملةٌ أخرى ، ويُلْزَمُون بتقليدها ومحاكاتها ، وهكذا . والأحسنُ أن يُبْدَأ هذا العملُ بجُمَلٍ اسميّةٍ وبعدَ قليلٍ يُثَنّى بالجملِ الفعليّةِ .

       فإذا تَمَكَّنَ الطلابُ من الجمل الصغيرة السَّهْلَةِ، يُجَرُّ بهم إلى الجمل الكبيرة ، فإلى مقطوعة صغيرة ، فمقطوعةٍ كبيرةٍ ، فإلى مقالٍ صغيرٍ ، فمقالٍ طويلٍ نسبيًّا . وهنا يُوْضَعُ أمامهم موضوعٌ، وتُذْكَرُ عَنَاصِرُه الضروريَّة ، وتُوْضَحُ لهم طريقةُ السير في الكتابةِ حولَ الموضوعِ ، ثم يُكَلَّفون الكتابةَ ، ثم يُصَحُّح ما يكتبونه مع شرح الأخطاء التي صدرت منهم في الكتابة . وكلُّ ذلك ينبغي أن يَصْنَعَهُ المعلمُ بأسلوبٍ شَيِّقٍ مُرَغِّب مُشَجِّع ، وحذارِ أن يَلْجَأَ إلى التهويل والتنفير . إن هذا المنهجَ في التعلّمِ والتعليمِ سيأتي بحاصلٍ كبيرٍ – إن شاء الله – في وقتٍ قياسيٍّ قصيرٍ .

       وقد شرحتُ طريقةَ السير في التنقّل من الجمل الصغيرة إلى الجمل الكبيرةِ فإلى مقطوعةٍ ، فإلى كتابةِ فكرةٍ كاملةٍ ، فإلى مقالٍ ، في كتابي «حرفِ شيرين» بالأردية ، فمن شاء ، فليراجعه في هذا الشأن وغيرِه من الأمور التي تساعد على تنميةِ المهارات اللغويةِ العربيةِ .

       وكلُّ ذلك ينبغي أن يَتِمَّ – كما أسلفتُ – في ضوءِ كتابٍ أو كتبٍ خفيفةٍ وُضِعَت لتعليم اللغة العربية للناشئين ، فيُدَرَّسُ الطلابُ هذه الكتبَ ، لتحفيظ التعابير والجمل والمفردات التي يحتاج إليها الإنسان في حديثه اليومي ، دون تكليف بالإلمام بالقواعد النحويّة والصرفيّة والالتزاماتِ المتفرعةِ منها.

       فإذا نَضِجَ الطلابُ في التصرف في الجمل والتعابير ، وكَسَبُوا رصيدًا لابدّ منه من الألفاظ العربية ومعانيها ، يُكَلَّفُون قليلاً قليلاً بالقواعد النحويّة والصرفية دون أن تُذْكَرُ لديهم مصطلحَاتُهما . وينبغي الاحترازُ من الإكثار من ذلك ؛ فلا يُذْكُرُ لهم في الصفحةِ الكاملةِ إلاّ في موضعٍ أو موضعين أن الاسم الأول الواقع – مثلاً – بعد هذه الكلمة (كان) يكون دائمًا مرفوعًا ، من ثم رُفِعَتْ كَلِمَةُ (الله) في (كان اللهُ عليمًا). فإذا أَتْقَنُوا ذلك يُذْكَرُ لهم في اليوم التالي في هذه الجملة أو غيرِها المماثلةِ لها أن الاسمَ الثانيَ بعدَ هذه الكلمةِ (كان) يكون دائمًا منصوبًا . ومن هنا نُصِبَتْ كلمةُ (عليمًا) في (كان الله عليمًا) .

المرحلة الثالثة  :

       وهنا تأتي المرحلة الثالثة بعد ما يكون الطُلاَّبُ قد تَمَكَّنُوا من التصرف في الجمل ، وحفظِ الألفاظِ الكثيرةِ ، ومَعْرِفَةِ بعضِ القواعدِ النحويةِ والصرفيّةِ ، فينبغي أن يقرأوا القواعدَ النحوية والصرفية بشكل مستقل ، ولكن الاعتمادَ الكبيرَ ينبغي أن يكون على التعابيرِ وتكليفِ الطلاّبِ بالاستقاءِ منها ومحاكاتِها، وتُسْتَخْدَمُ القواعدُ على المستوى الآليّ وكأداةٍ لتصحيحِ الجمل وتقويمِ الكلماتِ فلا تُسَلَّط على الطلاب بحيث ينهمكون فيها أكثرَ من انهماكِهم في تذوّق اللغةِ العربيةِ والاستفادة من التعابير ومحاكاتها في الكتابة . مثلَمَا يحدث عمومًا في مُعْظَمِ المدارسِ العربيةِ الأهليةِ ولاسيّما التي تَتَّبِعُ المنهجَ النِّظَامِيَّ ؛ قد يكون الأساتذة أنفسهُم فضلاً عن الطلاب ممسكين بزمام القواعد و متمكنين منها؛ ولكنهم قد لايقدرون على الكتابة في موضوعٍ ما كتابةً صحيحةً بل قد لا يقدرون على تكوين جُمَلٍ صحيحةٍ . وذلك يرجع إلى اتّكالهم الزائد على القواعد وحدَها ، وإلى ظَنِّهم أنّها هي وحدَها تَحُلُّ كلَّ مَسْئَلَةٍ فيما يتعلق بتعلمِ اللغةِ العربيةِ . وذلك – كما ترون – اغترارٌ هائلٌ وانخداعٌ مُخِيْفٌ .

       إنّ تعلّمَ اللّغةِ العربيةِ – كَأَيِّ لغةٍ ذاتِ قيمةٍ ثقافيةٍ – لن يتم إلاّ عن طريق التمرن المكثف بعد القراءة المكثفة وحفظِ رصيدٍ كافٍ من الألفاظ والتعبيرات وإلمام بالقواعد النحوية والصرفية ، فالعمادُ هو التمرنُ والمحاكاةُ والسيرُ في ضوءِ التعابيرِ والجملِ ، والتصرفُ الكثيرُ في العبارة . فمن حَاوَلَ تعلمَ اللغة العربيةِ عن طريقٍ بغير هذا الطريق فلن ينجحَ مَهْمَا نَجَحَ في حفظِ القواعدِ وحفظِ مَعَانِي المفرداتِ والجملِ .

       وهنا تُلِحُّ عَلَيَّ الّذكْرَى الجميلةُ أَنْ أَسْرُدَهَا ، وهي أن أستاذنا مُعَلِّم اللغة العربيةِ الْمُلْهَمَ المُوَفَّقَ كُلَّ التوفيقِ فضيلةَ الشيخِ وحيدَ الزمانِ القاسميَّ الكيرانويَّ (1348-1415هـ = 1930-1995م) رحمه الله كان يركّز في تعليم اللغةِ العربيةِ على التمرنِ ومحاكاةِ التعابيرِ النموذجيةِ وتحويلِ الجملِ المختارةِ إلى جملٍ كثيرةٍ متنوعةٍ تركيزًا كان لايُرَكِّزه على شيء ، وكان يقول دائمًا : إن الذي يقدر على الكتابةِ والذي لايقدر عليها ، إذا رُحْتَ تَتَلَمَّسُ الفرقَ بينهما لاتجده إلاّ مُتَمَثِّلاً في أن الأوّلَ أَكْثَرَ من التمرنِ والمحاكاةِ وأنّ الثانيَ لم يَحْذُ حَذْوَه، فَنَحَجَ الأوّلُ من حيث فَشِلَ الثاني . وكان يقول : إن تعليمَ اللغةِ العربيّةِ لايتحقق عن طريقِ الكمّ مثلَما يتحقق عن طريق الكيف . وكان يضيف : إن كتابًا واحدًا في فنِ تعليمِ اللغةِ العربيةِ قد يُعْطِي من النتائج ما لايعطيه كتبٌ كثيرةٌ . إن كتابًا واحدًا قد يُخَرِّجُ المُجِدَّ المُهْتَمَّ الَواعِيَ ، القارِئَ له ، المُسْتَغِلَّ لِمَا فيه من الجملِ الجميلةِ والتعابيرِ الرائعةِ ، قادرًا على الكتابة ، متمكنًا منها ؛ بل أديبًا متضلعًا ، وإن كتبًا كثيرةً قد لا تُسْعِفُ القارئَ بأَن يقدر على الكتابةِ ، فضلاً عن أن يَتَمَهَّرَ فيها ، إذا مَرَّ بنصوصها وعباراتها مرورًا عابرًا ولم يَعِ مافيها من الجمل المسبوكة سبكاً جيّدًا والتراكيب المحبوكة حبكاً مطلوبًا . وكان يقول: إِنَّ الكتابَ الموضوعَ لتعليم اللغة العربية – أو أيِّ لغةٍ أخرى – ينبغي أن يُقْرَأَ بإمعانٍ كاملٍ وتُتَحَسَّس كُلُّ كلمةٍ في نصوصِه وكلُّ جملةٍ ، وما بين كلمةٍ وأخرى وجملةٍ وأخرى من العلاقة ، وأن تُبْذَلَ المحاولةُ للمحاكاة ، بحيث تصبح الكلماتُ والجملُ وأساليبُ الكتابة وعرضُ الموادّ وما إلى ذلك ، مِلْكاً للقارئ ورصيدًا من أرصدتِه اللغويّةِ . وهنا تتجلى فائدةُ القراءةِ اللغويةِ وتَتَبَلْوَرُ نتيجةُ الاجتهادِ الذي بَذَلَه في تعلّمِ اللغةِ .

       أيها الإخوة الكرام !

       إن الطالبَ الذي لايُتْقِنُ هذه المرحلةَ ، أي لايَتَثَبَّتُ في إنتاجِ جُمَلٍ من جملةٍ واحدةٍ ، وصياغةِ تراكيبَ من تركيبٍ واحدٍ نموذجيٍّ في ضوءِ القواعدِ النحويةِ والصرفيةِ ، ولايَتَسَقَّطُها تَسَقُّطاً ، ولايَعِيْ طبائعَ الأَسَاليبِ والصياغاتِ ، ولا يدرك كيف يأتي في شأنِ كتابةِ اللغةِ العربيةِ البيوتَ من أبوابها ، ويتخطّى هذه المرحلةَ إلى مرحلةِ كتابةِ فكرةٍ وإنشاءِ مقالٍ ، رأيتُ كثيرًا من أمثالِه يظلّون يتخبّطونَ خبطَ عَشْوَاءَ عَبْرَ مِشْوَارِهم الْكِتَابِيّ ، فتضيع أعمالُهم من حيث يظنون أنهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا .

المرحلة الرابعة :

       إذا تَمَكَّنَ طالبٌ من هذه المرحلة أصبح قادرًا – بإذن الله تعالى – على الكتابة . وهنا يَتَدَرَّجُ إلى المرحلةِ الرابعةِ التي تعني أن يَتَوَفَّرَ على قراءةِ كتبٍ شيّقة ممتعةٍ بأقلامِ الكتابِ والأدباءِ الموثوقِ بهم أدبًا وفكرًا وعقيدةً ، وكذلك يَعْكُفُ على قراءةِ مقالاتٍ ، وصحفٍ ومجلاتٍ ، وقصصٍ ورواياتٍ، مدفوعًا بروح الأخذِ والتلقي ، والإِمعانِ والتعمقِ، فيستقي من كلٍّ منها ، ويَتَشَبَّعُ بما فيها من روائعِ الأقوالِ وبدائعِ التعابير وأطايبِ الأساليبِ . ويحاكيها عن ظهرِ قلب دون النظر إليها ، فيكتب مقالاً مثلَ مقالٍ قرأه ، ويصوغ فكرةً مُمَاثِلَةً لما قرأه في كتابٍ أو مجلةٍ ، ويُعِدّ خَبْرًا أو تقريرًا أو قصةً قصيرةً مثلما استوعبه خلالَ قراءَته . وينبغي أن يدوم على هذا التصرفِ زمنًا لا بأس به ، ويَعْرِضَ ما يكتبه على أستاذ إذا كان مُيَسَّرًا ، وإلاّ فليكن أستاذَ نفسه ، كما كان يقول أستاذُنا الكبير فضيلةُ الشيخ وحيدُ الزمانِ القاسميُّ الكيرانويُّ رحمه الله تعالى ؛ حيث كان يُعَوِّد تلاميذَه أن يراجعوا ما يكتبونه كأنهم أساتذةٌ ، وينتقدوه انتقادهم ويُحْصُوا الأخطاءَ وعِلَلَها . وربما كان – رحمه الله – يكلفهم بذلك حتى في الامتحاناتِ الفَرْعِيَّة ، ويقول : من يستخرج في كتابته أخطاءً أكثرَ يستحقَّ علاماتٍ أكثرَ ، ويقول: تَزَوَّدْ بالجراءةِ على شطبِ ما يبدو أروعَ ما في مقالك ! وبذلك تتخرج كاتبًا أمثلَ ، ولا تكون كاتبًا يشار إليه بالبنان إذا ضَنِنْتَ بكل ما في كتاباتك من تعابيرَ صحيحةٍ أو ذاتٍ خطأٍ .

       في هذه المرحلة الرابعة يتخرج المتعلمُ كاتبًا أو شبهَ كاتب ؛ فلا يظنَّنَّ أنه أصبح كاتبًا متقنًا ؛ لأن الإتقان لايَتَأَتّى إلاّ بعدَ مشوارٍ طويلٍ في الكتابة . وهنا تأتي المرحلة الخامسة التي تعني أن يَتَوَفَّرَ على قراءةِ كاتبٍ وأديبٍ واحدٍ يجمع بين روعةِ الكتابةِ وبين الاتجاهِ السليمِ ، فيَتَشَرَّبُ ما عنده من الألفاظ المنتقاة ، والأساليب الرائعةِ ، والعرضِ اللبقِ ، والخطابِ الحكيمِ ، وطريقةِ السير في الكتابةِ ؛ حتى يتخرّج في مدرسته ، ويكون نسخةً منه أو مثِلها أو مثلِ مثلِها ، ويحاول أن يستجيب لروحه الكتابية ، ويَتَّبِعَ أَثَرَه في صياغةِ الجملِ وفي إِتْبَاعِه إحداها الأخرى .

       وذلك لأنّه يجتاز الآنَ مرحلةَ النموّ الإتقاني ؛ فلابدّ أن لايكون فَوْضَوِيًّا في أسلوبهِ الكتابيّ ؛ لأن الكاتبَ إذا تَعَرَّضَ للفوضى الأُسْلوبِيَّة لدى تَكَوُّنِ الأسلوبِ ، يَظَلُّ أسلوبُه مُضْطَرِبًا عَبْرَ حَيَاتِه ، ولا يكون مستقيمًا ممتازًا ذا هُوَيَّةٍ منفردةٍ ، وإِنّما يَبْقَى مُتَأَرْجِحًا بين أساليبَ عديدةٍ جيّدةٍ ورديئةٍ ؛ فَيَتَوَجَّبُ عليه أن يَنْقَطِعَ إلى دراسةِ أعمالِ كاتبٍ أو أديبٍ واحدٍ في هذه المرحلة ، فيُتَابِعَ قراءَتَها وبجانب ذلك يُتَابِعُ الكتابةَ في موضوعاتٍ شتَّىٰ يميل إليها ، ولايكتفي بمجردِ القراءةِ دونَ الكتابةِ ؛ لأن السائرَ على دربِ الكتابةِ ما إِنْ تَوَقَّفَ سيرُه حتى تَعِبَ وَكَلَّ وصار محتاجًا إلى عمليّةِ إِنْعَاشٍ جديدةٍ ؛ فلابدّ للكاتبِ أن يَجْمَعَ دائمًا بين القراءةِ والكتابةِ معًا .

أمور لابد للكاتب أن يتقيّد بها :

       هذا ، وهناك أمور لابدّ للكاتب أن يُرَاعِيَها :

       1- أن يُلاَحِظَ آدابَ الإملاءِ وقواعدَه ولاسيّما فيما يتعلّق بالهمزة ، لأن كتابتَها تتغير بتغير الصيَغِ والإعرابِ وغيرِ ذلك ، فإذا لم يُرَاعِ آدابَها و تَعَامَلَ مَعَها كيفَ مَا شاء ، قُرِئَتْ – خطأً – على غيرِ ما قُصِدَ منها : كلمةُ «سَأَلَ» تُكْتَبُ حَسْبَ ما كتبتُه هنا ؛ ولكن الفعلَ المَبْنِيَّ للمجهول يُكْتَبُ «سُئِلَ» على الهيئةِ التي كَتَبْتُه عليها . أي الهمزةُ تُكْتَبُ في الفعلِ المَبْنِيِّ للمعروفِ على الألفِ ، وفي الفعلِ المبنيِّ للمجهولِ (المفعول) تُكْتَبُ على النبرةِ أو قُلْ: على الياء . وكذلك ينبغي أن يَسْتَوْعِبَ الإِمْلاَءَ الْقَيَاسِيَّ والتوقِيفِيَّ لكلمةٍ من الكلمات العربية . مثلاً «الصلاةُ» تُكتب في كتاباتنا بعد اللامِ الواردةِ في هذه الكلمة «الألفُ» كما يقتضي القياسُ ؛ ولكنّها تكتبُ في المصحف الشريف على هيئةِ نصْبٍ عموديٍّ «الصلوٰة».

       2- أن يلاحظ رموزَ الوقف من الشَّوْلَة (،) والشَّوْلة المنقوطة (؛) والنقطة (.) والنقطتَيْنِ الرَّأْسِيَّتَيْنِ (:) وعلامة الاستفهام (؟) وعلامة الانفعال (!) والشَّرْطَة (-) والتّضبيب (><) والقوسين أو الهلالين ( ) .

       وهذه رموزٌ واجبٌ تعلُّمها وتنفيذُها لدى الكتابةِ ؛ لأنّها تُعِينُ على فهمِ العبارةِ وإِساغتِها بشكلٍ جيّدٍ . ولها من الأهميّةِ ما يكفي أن نقولَ لكم: إنَّ المدارسَ العصريةَ ذاتَ المستوى الرفيعِ تَقْتَطِعُ من علاماتِ التلاميذِ في الامتحاناتِ قدرًا كافيًا إذا أخطأوا في التعامل معها بشكلٍ صحيحٍ . وإذا قرأتَ كتابًا مطبوعًا في بيروت صادرًا عن مكتبةٍ شاعرةٍ بالمسؤوليةِ ، مثلِ «دارالعلم للملايينِ» وجدتَه قد نُفِّذَتْ فيه رموزُ الوقفِ بحيث كأنه صار مُعَلِّمًا لمن لا يَعْلَمُها . وهناك كُتَّابٌ بالعربيةِ والأرديةِ في بلادِنا أيضًا يَلْتَزِمُوْنَ بهذه الرموزِ التزامًا كاملاً ، حتى صَارَتْ كِتاباتُهم ذاتَ هُوِيَّةٍ خاصّةٍ من هذه الناحيةِ أيضًا بجانب الرصانة التي تمتاز بها.

       3- التَّلَفُّظُ الصحيحُ بالكلماتِ والحروفِ العربيةِ ، وأداؤُها من مخارجها . هذا شيء يجب الالتزامُ به بشكلٍ دقيقٍ ؛ لأن حروفَ اللغةِ العربيةِ متجانسةٌ في الصوتِ والجرسِ ، ومختلفةٌ في المخارج والأداءِ ؛ فإذا لم يَهْتَمَّ بتعلمِ أدائها بشكلٍ صحيحٍ اسْتَعْجَمَتْ ، ولم تُمَيَّز جَيِّدًا ، ولم يُدرِكِ المستمعُ الفرقَ الدقيقَ بينها ،والتبس عليه الأمرُ ، وفَهِمَ غيرمَا هو المراد .

       مثلا: ضرب – جرب ؛ المسير – المصير ؛ الصيف – السيف ؛ الضليل – الذليل ؛ التل – الطل؛ التوق – الطوق ؛ الأريب – العريب ؛ وما إلى ذلك من الكلمات ، لايمكن تَبَيُّنُ الفرق بينها إلاّ بأدائها الصحيح المطابق للواقع ؛ فإذا أَدَّاهَا القارئ مَغْلُوطَةً ، أَخْطَأَ المستمعُ لها في فهمِ معانِيها؛ لأنّه يظنّها كما أُدِّيَتْ ولا يدركها كما هي في الواقع .

       من ثم كان يقول أستاذُنا فضيلة الشيخ الكيرانويُّ – رحمه الله – إذا شِئتَ أن تُفْهَمَ عبارتُك صحيحةً فاقرأها صحيحةً ، وإذا شئتَ أن تُقْرَأَ عبارتُك صحيحةً فاكتبها صحيحةً ؛ لأنك في هذا الشأنِ ، كما تَصْنَعُ يُصْنَع معك .

       4- ينبغي أن ينطِقَ الطالبُ بالعربية بِلَهجةِ العربي لحدٍّ مستطاع ، لأنّها أجملُ ما تكون تُشَنِّف أُذُنَيِ الْمُسْتَمِعِ بجَرْسِها الرائعِ ونَبْرَتِها الحلوةِ . إنّها شيءٌ غيرُما أَبَنَّاه من أداءِ الكلماتِ والحروفِ من مخارجها . إنّ أداءَ الكلمات من مخارجها حسبَ قواعدِ التجويد والقراءات ، قد يتعلَّمُه المرأُ ويَتَدَرَّبُ عليه حتى في ديار العَجَمِ وعلى بارِعِيْنَ فيه من المقرئين والمُتَخَصِّصِيْنَ سواءٌ أكانوا عَرَبًا أو عَجَمًا ؛ ولكنَّ اللهجةَ العربيةَ وطريقةَ أداءِ العربيِّ لِلُغَتِه لايُتَاح تعلُّمها إلاّ من خلال مُصَاحَبَةِ العَرَبِيِّ أو من خلالِ الاستماعِ – بغيةَ التلقي – للإذاعاتِ والتلفازاتِ العربيةِ أوِ البرامجِ العربيةِ التي يُقَدِّمُها عربيٌّ صميمٌ من أيّ محطّاتِ الإذاعةِ والتلفزةِ في ديارِ العربِ أو العجمِ ؛ أو من خلال الاستماع لأَشْرِطَةِ الْخِطَابَاتِ العَرَبِيَّةِ التي يكون قَدْ أَلْقَاهَا عَرَبِيٌّ صحيحُ اللهجةِ ، أو نشراتِ الأنباءِ التي تُقَدَّمُ عَبْرَ الإِذَاعةِ والتِّلْفَازِ . وقد سَهَّلَ الأمرَ اليومَ تكنولوجيا المعلوماتِ والإنترنتُ ووسائلُ الاتصالِ السريعةُ التي وَفَّرَتْ وسائلَ الثقافةِ وتسهيلاتِ تعلّمِ اللغةِ وتلقي العلومِ والفنونِ في داخلِ بيوتِنا فضلاً عن داخلِ مدارسِنا وجامعاتِنا .

       ربما حدث أني كتبتُ مقالةً وقرأتُها بلهجتي الهنديَّةِ العجميةِ ، وشعرتُ أنها ضعيفةُ السَّبْكِ ركيكةُ اللغةِ ؛ فإذا قَرأَهَا عربيٌّ بمناسبة واستمعتُ إليها مقروءةً بلسانه ولهجتِه العذبةِ القويَّةِ الساحرةِ ، شعرتُ أنها متينةُ الصياغةِ قويةُ اللغةِ . هذه اللهجةُ لابدّ أن نتلقّاها من عَرَبِيٍّ مُثَقَّفٍ قويمِ اللسانِ أو نتلقّاها من خلالِ الاستماعِ إلى أحاديثهِ الإذاعيةِ والتلفازيةِ أو المُوْدَعةِ الأشرطةَ التسجيليةَ أو الحاسوبيّةَ . إنّها شيءٌ ذو قيمةٍ كبيرةٍ جدًّا ، فلا تجوزُ الاستهانةُ بها .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم – صفر 1427هـ = فبراير – مارس 2006م ، العـدد : 1–2 ، السنـة : 30.


(*) ألقيت هذه المحاضرة المؤسسة على تجارب طويلة ودراسات واعية في إحدى قاعات المحاضرات لقسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة الملية الإسلامية الحكومية بدهلي الجديدة على دعوة ملحة من الأساتذة والمسؤولين . وذلك في الفترة ما بين الساعة العاشرة والساعة الثانية عشرة من ضحى يوم الجمعة 18/ شعبان 1426هـ الموافق 23/ سبتمبر 2005م . وقد استمع لها الطلاب والأساتذة مدفوعين برغبة وحرص بالغين . واتجهت النية إلى نشرها في مجلة MالداعيL تسجيلاً للنقاط القيمة التي تنطوي عليها المحاضرة ، وحفاظاً لها من عبث الدهر بها ، وتعميمًا لفرصة الاستفادة منها ، وتسجيلاً لهذه الآراء ذات الأهميّة لكل من يرغب في الاستقاء منها من الحريصين على تعلّم اللغة العربية آتيًا بيتَه من بابه .

(1) سورة الرعد ، الآية 17 .

Related Posts