بقلم: الدكتور / أحمد الحجي الكردي
لم تكن الهجرة النبوية رحلة إجمام قام بها النبي -ﷺ- وأصحابه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة للنزهة أو الترفيه، كما لم تكن هربا من العذاب الشديد الذي كانوا يلاقونه على أيدي بعض زعماء قريش ابتغاء الخلود إلى الراحة والسكنية، وإيثار العافية على المعاناة، ولم تكن أيضا تخلبًا عن المسؤولية عن البلد الحرام الذي بقي أبد الدهر موئلا للأتقياء والعباد من بني البشر، ولا فرارًا من الزحف، ولكنها كانت مرحلة ضرورية لابد منها لسلامة سير الدعوة الإسلامية بعد أن كادت تصل إلى طريق مسدودة. فهي إذن مرحلة من مراحل الكفاح في سبيل الله تعالى، وخطوة من خطوات الدعوة إلى الإسلام كان لها أسبابها الكثيرة المتشابكة.
وأهم هذه الأسباب:
(1) اشتداد العذاب الذي كان يمارسه كفار قريش ضد المستضعفين من المؤمنين، ولو ذهبنا نتحدث عن أساليب التعذيب الوحشية التي كان يمارسها بعض زعماء قريش ضد هؤلاء المستضعفين لكتبنا في ذلك المجلدات دون أن تنتهي هذه الصور. وحسبنا أن – نشير إلى قصص تعذيب بلال وياسر وسمية وابنهما عمار، وغير ذلك.
وينبغي أن نتنبه هنا إلى أن هذا التعذيب لم يكن هو الدافع إلى الهجرة أو أحد الدوافع إليها بقصد الخلاص من العذاب، ولكنه الدافع إليها بغية تمكين الإسلام من الانتشار، ذلك أن العذاب كان يثني كثيرا من الهمم المتشوقة إلى الدخول في الإسلام من الدخول فيه خشية أن يصيبها من العذاب ما يصيب هؤلاء المستضعفين. وذلك بدليل أن عدد المسلمين ازداد زيادة كبيرة بعد الهجرة وخلاص المؤمنين من هذا العذاب، كما أن أحدا من المؤمنين الذي لاقوا العذاب الشديد لم يرجع عن إسلامه، بل فضلوا جميعا الصبر على العذاب واحتمال الأذى والموت على الارتداد إلى الكفر بعد الإيمان، وما قصة ياسر وسمية زوجه عنا ببعيدة.
(2) الحصار الاقتصادي:
ذلك أن الكفار عندما شعروا بعجزهم عن إيقاف مد الدعوة الإسلامية رغم كل أنواع العذاب الذي مارسوه ضد المسلمين قرروا محاصرة بني هاشم والمسلمين محاصرة اقتصادية كاملة تحول بينهم وبين ضروريات العيش البسيط، وتمنعهم من الاتصال بأحد من العرب أو غيرهم، فاتفقوا على كتابة الصحيفة التي علقوها في جوف الكعبة، تلك التي عانى منها بنو هاشم والمسلمون أنواع العذاب والحرمان حتى كادوا يأكلون أوراق الشجر من شدة الجوع، ولقد كان باستطاعتهم أن يحتملوا ذلك كله لو أنه أتيحت لهم معه حرية ممارسة الدعوة إلى الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، ولكن الأسى كان يحز في نفوسهم عندما أضحت هذه الصحيفة المشؤومة حائلا بينهم وبين الاتصال بالعرب في غير المواسم الدينية القليلة مما يجعل دعوتهم تسير نحو الاختناق في قمقمها لا محالة لو استمروا هم على إقامتهم في مكة.
هذا ولا يضر أن الصحيفة نقضت قبيل الهجرة، ذلك أن آثارها لم تزل باقية، وأنى لها أن تزول وقد أدمت قلوب المسلمين وقرحت أكبادهم، وأهاجت أحقاد العرب عليهم.
(3) وفاة الناصرين لرسول الله -ﷺ- ذلك أن الله سبحانه قيض لرسوله الكريم ناصرين له من أهله يواسونه ويخففون من آلامه، ويدافعون عنه ويمنعون أذى الكفار من أن يصيبه، ذلك الذي وصل إلى درجة لا يستطيع إنسان عادي احتمالها، وهما خديجة بنت خويلد زوجه الكريمة التي وقفت إلى جانبه بمالها وجاهها، ونصبت من نفسها مواسيا لجراحه ومخففا لأحزانه، وعمه أبو طالب، ذلك الإنسان الذي وقف إلى جانب النبي -ﷺ- على كفره في جميع المواقف يدافع عنه ويحميه وينتصر له وهو من هو في مكانته ومقامه من قريش. أما الآن فقد ماتا متتابعين في عام واحد وألحق ذلك الحزن العميق بنفس النبي -ﷺ- لفقده المواسي في الملمات، والمدافع في المهمات، حتى أصبح عرضة للعذاب الشديد الذي يحول بينه وبين تنفيذ مهماته ومتابعته دعوته، الأمر الذي يتوجب معه الانتقال إلى دار أخرى وقوم آخرين يحمونه ويدافعون عنه ويؤمنون به.
(4) كبرياء قريش وتعاليها:
فقد كانت قريش تتمتع بمكانة كبيرة بين العرب منذ القديم، ذلك أنها حامية بيت الله تعالى، الذي يجتمع فيه العرب جميعا في كل عام من شتى أرجاء الجزيرة العربية للحج والتجارة وإنشاد الشعر والأدب. وقد حالت هذه المكانة بينها وبين الدخول في الإسلام الذي يسوي بين كل الناس قرشي وغير قرشي، وعربي وغير عربي. ذلك أن الإسلام دائما يعلن المساواة التامة بين جميع البشر، وأن السبب الوحيد للمفاضلة بينهم هو تقوى الله تعالى. وقد حاول النبي الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – طيلة ثلاثة عشر عامًا أن يصل إلى نفوس القرشيين عبر تلك الكبرياء، وذلك التجبر دون أن يمسه بسوء أو يقضي عليه لعلهم يرجعون عن غيهم وينتهون من غفلتهم، فرضي بتخصيص مجلس خاص بهم بعيدا عن عامة المسلمين، ولكنهم أبوا إلا العناد والتعالي على الإسلام والمسلمين حتى لم يعد بد من كسر هذه الكبرياء والتعالي واستعمال السلاح والقوة، ولكن أنى للنبي -ﷺ- هذه القوة لو لم يهاجر إلى المدينة المنورة لإعداد الجيش والمجاهدين.
ذلك ما اضطر معه النبي – عليه الصلاة والسلام آخر الأمر إلى الرحيل من ديارهم ثم العودة إليهم بعد ذلك عودة الفاتحين المنتصرين، يكسر عنادهم وتعاليهم بحد السيف وسنان الرمح فتتفتح قلوبهم بعد أن زالت الأغلال عنها وتنيخ لصوت الحق، وتحمل لواء الفضيلة والهداية، وتدخل في دين الله أفواجا.
هذه هي أهم الأسباب التي دفعت النبي -ﷺ- إلى الهجرة من بلد الله الحرام مسقط رأسه ومحط أمله وأحب بلاد الله إليه. ذلك أن الدعوة التي أنزلت عليه من الله تعالى وأمر بتبليغها للناس كافة كانت أحب إليه من بلده ومن الدنيا جميعها، فغادرها وهو يناديها بنفس مكتئبة وقلب حزين: إنك لأحب بلاد الله إلي، ولو لا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت (أو كما قال).
هذه أهم الأسباب التي دفعت النبي -ﷺ- إلى الهجرة، وهي بمجموعها تتركز حول حرصه -ﷺ- على سلامة سير الدعوة الإسلامية نحو القلوب المقفلة والنفوس المظلمة.
والآن لا بد لنا أن نتساءل: هل حققت الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة الغاية المرجوة منها..؟
وللإجابة على ذلك فإن علينا أن نتطلع إلى النتائج التي انتهت إليها هذه الهجرة الكريمة، وإلى سير الدعوة الإسلامية بعدها. وإذا ما فعلنا ذلك فإننا سوف نرى أن الهجرة النبوية كانت نقطة تحول كبرى في طريق الدعوة الإسلامية، فقد انتقلت بها من عهد إلى عهد آخر يختلف في كثير من جوانبه عن العهد الأول.
ويتجلى ذلك في النقاط التالية:
(1) حرية الدعوة إلى الله تعالى
فقد أصبح النبي -ﷺ- في المدينة المنورة حرا طليقا يدعو إلى ربه سبحانه من شاء في أي وقت شاء، دون ما رقيب عليه أو معارض له. فهؤلاء هم الأوس والخزرج في المدينة يلتفون حوله ويدافعون عنه ويحمونه ويؤمنون به، وهم من هم في قوتهم وجلدهم، فقد أعطوه العهد والميثاق يوم العقبة على شركهم وعدم إيمانهم به بعد لا ينالونه بأذى، لأنهم بصدد دراستهم لأحواله ودعوته وفي طريقهم للإيمان به.
هذه الحرية لم تكن متاحة للنبي -ﷺ- في مكة، فقد كان أذى قريش يناله وينال كل من يتصل به أو ينصت إليه فيصرف ذلك الناس عن الإيمان به.
(2) الخلاص من عذاب قريش وأذاها
فقد كانت قريش تنال المسلمين والمستضعفين منهم خاصة بأذى شديد لا يحتمله بشر والأمثلة على ذلك كثيرة لا تعد. وهذا العذاب صارف ولا بد لكثير من النفوس عن التفكير في الإسلام والإيمان به لما ركبت عليه النفوس الإنسانية من ضعف خلقي. أما في المدينة فقد أصبح المسلمون في أمان الله بعيدين عن أن تنالهم أيدي المشركين بأذى، فإن المدينة بلد – حصين. وأن الأنصار قوم أشداء وأقوياء وقد آخوا المهاجرين والتزموا بحمايتهم والدفاع عنهم.
(3) تفرغ النبي -ﷺ- لبناء الدولة، فقد أمضى في مكة ثلاثة عشر عاما كان فيها مشغولا ببناء الفرد لم يتحول عنه، أما بناء الدولة والمجتمع المسلم فهو ما لا سبيل إليه في مكة مع قلة العدد وشدة العدو. أما الآن فقد زاد عدد المسلمين وتفقهوا جميعا في دين الله تعالى، وخف عنهم أذى قريش، لذلك فإننا نرى النبي -ﷺ- قد انصرف إلى بناء الدولة الإسلامية وتنظيم المجتمع المسلم على أسس مخططة مدروسة أثمرت أقوى دولة عرفها التاريخ البشري تناسقا وتماسكا وحضارة ورفاها. دولة تحمل النور والهداية والعلم للعالم كله، فتنير بذلك قلوبا مظلمة، وتفتح أفكارا مغلقة، وتهدي نفوسًا طالما تعطشت إلى العدالة والحرية والحق، وتخلص بذلك الإنسانية المعذبة كلها من الهاوية التي كادت تتردى فيها. فحق لها أن تكون بذلك كله خير دعوة وخير رسالة حملتها خير أمة أخرجت للناس.
وعلى ذلك تكون الهجرة النبوية نقطة تحول كبرى في تاريخ الدعوة الإسلامية، انتقلت بها من مرحلة بناء الفرد إلى مرحلة بناء الجماعة والدولة.
وقد واكب القرآن هذا التحول، فبينما كان يُعنى في مكة المكرمة ببناء العقيدة والأخلاق وترسيخ القيم وغسل الأفكار والقلوب مما ران عليها من الجهل والضلال، أصبح يعنى في المدينة المنورة بأمور التشريع وتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع من النواحي المختلفة المادية منها والمعنوية وبقيمها على أسس من العدالة وتكافؤ الفرص أمام جميع المسلمين؛ بل أمام جميع الناس على اختلاف لغاتهم وأجناسهم ودياناتهم، حتى أن النبي -ﷺ- كان يعلن دائما قوله الشريف: (من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة)، ويعلن قوله: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، فإنه ليس بعد هذا الإنصاف إنصاف، وليس بعد هذه العدالة عدالة على وجه الأرض.
(4) تفرغ النبي -ﷺ- للوقوف في وجه الكفر، وصده بالدليل والبرهان، وبالقوة والحرب. فإنه من المعروف أن للضلال شوكة في كثير من الأحيان لا يمكن ردها بالدليل والبرهان وحده، ولا بالحوار فقط؛ بل إنه يحتاج في كثير من الأحيان مع الدليل والمجادلة بالحسنى إلى السلاح، وهو ما لم يكن متيسرا للنبي -ﷺ- في مكة مع قلة عدد المؤمنين وضعف قوتهم أمام كبرياء قريش وشدتها، ولكنه تيسر للنبي الكريم -ﷺ- بعد ذلك في المدينة المنورة. فقد استطاع أن يعد جيشا من المؤمنين تمكن به من أن يدرأ الأذى عنهم، كما استطاع به أن يفك الأقفال الثقيلة التي جثمت على صدور كفار قريش وغيرها من العرب، فلم تدع النور الإلهي يصل إليها إلى أن فكّها سيف المسلمين، وأزال الغشاوة التي كانت على تلك القلوب، وهو ما يشير إليه النبي الكريم -ﷺ- بقوله: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا»، ذلك أن الفقه هو استنارة القلب بنور الله بعد إزاحة غشاوة الكفر والعناد والشرك من فوقه. وبذلك نستطيع أن نؤكد أن الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة قد آتت أكلها وثمارها وأنتجت كل نتائجها المرجوة منها، وكانت بذلك فتحا كبيرا في تاريخ الدعوة الإسلامية مما حدى بأمير المؤمنين عمر ابن الخطاب – رضي الله عنه – أن يجعل منها منبثقا للتاريخ الإسلامي، إشادة منه بمكانتها وأهميتها. وحق له أن يفعل ذلك. رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين وعن تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47