الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
الناسُ غَالَوْا في تعظيم الصالحين و أولياء الله ، فعمدوا إلى تشييد الأضرحة الشامخة على قبورهم؛ ولكن هذا الشكل من تعظيم الأولياء يُحَرِّمه الشرعُ. على أنّ تعظيمهم لا ينحصر في هذا الأسلوب ، أي في تشييد قبورهم ؛ لأنهم مُعَظَّمُون ولو كانوا في قبورٍ غيرِ مُشَيَّدة ؛ بل إن قبورهم المُطَيَّنَة غيرَ المُشَيَّدة أكثر نورًا وبركةً لكونها مُوَافِقَةً للسنّة ؛ فقد لمسنا أنّ قبر الشيخ الكبير قطب الدين بختيار الكاكي (582-663هـ = 1186- 1265م) يعلوه الوقار الذي لايعلو بشكل قبورَ السلاطين والأباطرة المُشَيَّدَة . إنّ ذلك شيء يدركه من لديه البصيرة ؛ فيعلم أن القبورَ المُطَيَّنة عليها من الأنوار والبركات ما لا يمكن أن يُوْجَدَ على القبور المُشَيَّدة . ومن ليس لديه البصيرةُ فليعلم أن الأنوارَ إنما تخصّ السنّةَ ، وأنَّ القبورَ المشيَّدةَ إنّما بناها السلاطينُ والأثرياءُ ولم يَبْنِها أيٌّ من الأولياء والصالحين ، ولم يكن الأشياء التي هي من صنع الملوك والسلاطين لتسعد بالأنوار والبركات . إن الصالحين من عباد الله لايهتمّون بأبدانهم ، فضلاً عن أن يهتموا بالقبور والأضرحة وتشييدها . إنّها ليست من صنع أولياء الله عزّ وجلّ ، وإنما هي من صنع الأثرياء والملوك الذين لايَهُمُّهم إلاّ أمثالُ هذه الأشياء ؛ لأنّهم لايدركون حقيقةَ الدين ، فيميلون إلى ممارسة أعمالِ الفسق والفجور . إن من يتمتعون بمعرفة بالدين وبحبّ للأولياء والصلحاء ، لايفكرون في تشييد الأضرحة وممارسة البدع . إن ثريًّا كبيرًا أحضر للشيخ رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله (1244-1323هـ = 1828- 1905م) فروًا ثمينًا جدًّا رائعًا ذا لون صارخ ، ليرتديه ، فأهداه الشيحُ إلى سَرِيّ قائلاً : سيادةَ السريّ ! اِلْبَسْ هــذا الفروَ ، إنّه ينسجم مع ملابسك ؛ لأنها قد تكون ثمينةً مثلَه . أمّا أنا فلستُ لأَِكْسِبَ به زينةً إذا ارتديتُه على ملابسي البسيطة . ثم إنّ صيانتَه من الديدان من يقوم بها ؟ لأني أنا ليست لديَّ فرصةٌ لذلك ، فلن أَضَعَه عندي عبثًا فَأُضَيِّعَه . على كلٍّ ، فإنّ أولياءَ الله إذا كانوا لايُحِبُّونَ أمثالَ هذه المشاغل ، فكيف يحبّون هذه الخرافاتِ فيما يتعلّق بالقبور . إنّ القبورَ المُشَيَّدة تُضَادُّ طبيعةَ أولياء الله ، كما أنّ تشييدَها ينافي الهدفَ من زيارة القبر ؛ لأن الغرض من زيارته إنما يحصل إذا كان مُطَيَّنًا لا مُشَيَّدًا .
الغرضُ من زيارة القبور
إن الغرضَ من زياة القبور هو تَذَكُّرُ الموتِ واستحضارُه وتَمَثُّلُ منظرِ فناءِ الدنيا . وهذا لايتحقّق إلاّ إذا كانت القبورُ مُطَيَّنَةً غيرَ مُزَيَّنة ؛ لأن زيارتَها تُؤَثـِّر على القلب وتُذَكِّرُ بالموت . أما القبور الْمَلكِيَّة المُشَيَّدَةَ فإنّها لاتُذَكِّرُ بالموت ولا تُمَثِّل زوالَ الدنيا ولامنظرَ فناءِ الكون . ولو قال أحدٌ : إن القبورَ المُشَيَّدَة تُؤَدِّي إلى حبّ الأولياء وإكرامهم : لقلنا : إن هذا الحبَّ مثلُ حبّ من يتّخذون الأضرحة – أضرحة سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما – من الخشب والقصب والأوراق ، الذين لايُطَاوِعُهم البكاءُ على شهداءِ البيتِ النبويِّ ما لم يَتَّخِذُوها وما لم يُنْشِدُوا المَراَثِيَ . ألا ! إنّ الحبَّ الصادقَ والاحترامَ الواقعيَّ لايحتاجان إلى أمثالِ هذه الأدواتِ . أفهل يَجْرُأُ أحدٌ على أن يزعم أن الصحابةَ – رضي الله عنهم – كانوا لايُحِبُّونَ النبيَّ ﷺ ولايحترمونه . إنهم بلغوا من حبّهم له ﷺ أنّهم كانوا يتبادرون إلى تناول وَضُوئِه ولايَدَعُوْنَه يَسْقُطُ على الأرض فيمسحونَ به وجوهَهم وعيونَهم .
موقفُ الصحابة رضي اللّه عنهم
ورغم حبّهم هذا ، لم يشيّدوا قبرَه ﷺ وإنما أَبْقُوْهُ كما كان مُتَرَّبًا مُطَيَّنًا ؛ لأنّه ﷺ نهاهم عن ذلك . فاقتضى حبُّهم له ﷺ ، أن لايَعْمِدُوا إلى تشييد قبره عملاً بنهيه . ومن الواضح أن الصالحين والأولياء حرصوا في حياتهم على اتّباع أوامره ونواهيه ﷺ ، حرصًا لم يُبَالُوا من أجله بأنفسهم وأموالهم . فكان رضاهم تَبَعٌ لرضي النبي ﷺ .
ولو قال أحد : إن تشييدَ القبر فيه تخليدٌ لأَِثـَرِ الصالحين ؛ لقلنا : إنّ الله هو الذي قد ضَمِنَ تخليدَ أثـَرِهم ؛ لأنّه تعالى أَحَبَّهم ، ولن يَخْلُدوا بتخليدكم إذا لم يُرِدْ هو تعالى تخليدَهم ألا ترون أنّ كثيرًا من أصحاب القبور المُشَيَّدَة لا يَعْرِفُ أحدٌ حتى أسماءَهم ، فكيف ظننتم أن تشييد القبور هو الطريقُ الوحيدُ إلى بقاء أسمائهم وأثارهم ؟ إنّ الذي يخلّد ذكرهم وأسماءَهم إنّما هو صلتهم القوية بالله وفضلُهم في عبادةِ الله تعالى ؛ فهم لايحتاجون إلى محاولتكم لإبقائهم وتخليدهم . وقلنا – ثانيًا – إنّ الطريقَ إلى تخليد ذكرهم قد يمكن أن يكون أن تُبْقُوْا قبورَهم مُتَرَّبةً ، وأن تقوموا بتطيينها وتتريبها سنويًّا . الغريبُ أن عُبَّادَ الدنيا هؤلاء لايُشَيِّدون إلاّ قبورَ من يَظُنُّونَهم كانوا لايُحْسِنُونَ اتّباعَ السنة . أمّا من يَظُنُّونَهم أنهم كانوا يتَّبعونَ السنّةَ كاملاً ، فيُبْقُونَ قبورَهم غَير مُشَيَّدَة . فها هو ذا قبرُ الشيخ قطبُ الدين بختيار الكاكي – رحمه الله تعالى – لايزال مُطَيَّنًا ، ولا تزوره النساء . وقد سألتُ سَدَنَة قبره – رحمه الله – عن السبب في ذلك . فقالوا : لأنه – رحمه الله – كان مُتَّبِعًا للسنّة جدًّا ، فلم نُجِزْ ممارسةَ هذه الخرافات على قبره . فكأَنَّ غيره من الصلحاء لم يكونوا مُتَّبِعِيْنَ للشريعة والسنة في معنى الكلمة . إنّ هؤلاء يَتَّهِمُونَ مشايخَهم بموقفهم هذا اِتِّهَامًا شنيعًا بأنهم لم يكونوا يتّبعون الشريعةَ كما ينبغي . فمن أين كانوا صلحاء ؟!. إنّ هذا العملَ جديرٌ بالاجتناب لكونه مُؤَدِّيًا إلى هذا الإيهام .
تشييالعملَ جديرٌ بالاجتناب لكونه مُؤَدِّيًا إلى هذا الإيهام .ا بأنهم لم يكونوا يتّبعون الشريعةَ كما ينبغي . ا . كم لإبقائهم وتخد القبور منهيٌّ عنه في الشريعة
إنّ تشييد القبور والأضرحة نَهتْ عنه الشريعةُ. وهناك حكمةٌ أخرى في النهي عنه : إِنّ الشريعة مَنَّتْ علينا عندما نَهَتْنَا عن تشييد القبور ؛ لأَنَّها لو شُيِّدت منذ اليوم الأوّل ، لما كان مجال لسكنى الناس ، ولا كانت أرضٌ للزراعة ؛ لأنّ الأمواتَ عددهم لايُحْصَىٰ منذ أن وُجِدَ الكون حتى لاتخلو قطعة من الأرض في الدنيا لا يوجد بها مَيِّتٌ . فقل لي : إن وُجِدَتِ القبورُ كلُّها مُشَيَّدَة فهل وجدنا سعةً لموقفنا ، إننا اضطررنا – إذاً – أن نبني على القبور بيوتًا ذاتَ أدوار عديدة ، حتى كانت لتعود مثلَ الجبال . أمّا القبور الترابيّة ففيها مجالٌ لأن نَتَّخِذَ مكانَها قبورًا أخرى لدى امّحاء أثرها . وإن لم تكن الأرضُ التي فيها القبورُ موقوفةً ، جاز أن نزرعها إذا مضت على القبور مدّةٌ تؤكّد أن الأموات تكون قد صارت ترابًا . أما ما قلنا من أنّ كل مكان يوجد به مَيِّتٌ مدفونٌ ، فيجوز تصديقه عن طريق تعداد الأحياء من الناس ؛ حيث إنه إذا كانت الأحياءُ بهذا العدد الكبير في عصر واحد ، فكم يكون الأموات الذين دَرَجُوا خلال ستّة أوسبعة آلاف عام ، فضلاً عن السنوات غير المعلومة. وكلُ مَيِّتٍ لقبره قدرٌ من الأرض ، فالأرضُ لايمكن أن تَسَعَ الأمواتَ كلَّها . ومن هنا يقول العلماء بالطبيعة – Scientists – إنه لو كان الناس كلُّهم أحياءَ لما وَسِعَتْهُمُ الأرضُ .
فتشييدُ القبور كان لِيُؤَدِّيَ إلى هذا الحرج . أمّا اليوم فإن الناس يسكنون أمكنةَ دفنِ الأموات ؛ بل إنّهم يبنون بيوتهم بتراب أجسادهم وقبورهم ومدافنهم ، كما يتّخذون بها الأواني ؛ فقد يجوز أن تكون الجرار والكؤوس والأواني الموجودة في منازلنا قد صُنِعَتْ من تراب أجساد سلفنا . فتشييدُ القبور ينطوي على أمثال هذه المفاسد . على أنّ الموتَ إنما خَلَقَه الله تعالى للمحو والإفناء ؛ فالاهتمامُ باتِّخَاذِ وسائلِ الإبقاءِ شيءٌ غيرُ معقولٍ .
ولو قال أحدٌ : إنَّ القبورَ قد تُفِيْدُ الأحياءَ ؛ فهي في حاجة إلى الإبقاء : قلتُ : إن الفائدةَ منها غيرُ مُعْتَبَرَةٍ في الشريعة ؛ لأن الاستفادةَ المعنويَّةَ منها لاتؤثـّر في تربية الأحياءِ وتزكيتِهم ؛ فهي كالحرارة التي يَشْعُرُ بها الجالسُ إلى التنوّر ، حيث لا تبقى طويلاً ، بل تنتهي إِثـْرَ مغادرةِ التنّور ، ومسِّ الرياحِ الجسمَ . أمّا الاستفادةُ من المشايخ الأحياء فهي مثلُ القوة التي تَتَوَلَّدُ في الجسم بتناول الأدوية المُقَوِّيَة ، فهي تبقى وتدوم وتنفع وتُعْطِيْ مَفْعُولَه . فالأحياءُ لايحتاجون إلى الاستفادة من الأموات ، لأن المشايخ الأحياء يكفيهم للاستنارة المعنوية والتربية الروحيّة.
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1426هـ = يناير 2006م ، العـدد : 12 ، السنـة : 29.