دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ فيصل بن علي البعداني
ترمي الشريعة إلى إشاعة الخير ودروس الشر، ولذا علت منزلة الاحتساب، وجلَّت رتبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا غرو فهو أصل من أصول الشريعة، وركن عظيم من أركانها المنيعة، ومفتاحٌ للإصلاح، وبوابةٌ لاستقرار المجتمع وظفره بالأمن والسعادة، وضرورةٌ كبرى تُحمَى به العقيدة، وتصان الفضيلة، ويُدافَع الباطل، وتُحْمَى الأمة من عبث ذوي الأهواء والشهوات، ويُوقَى أفرادها من اتِّباع الهوى وولوج سوق الرذيلة. يقول الغزالي: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوِي بساطه، وأُهمِل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد»(1).
وكيف لا يكون الاحتساب بهذه المنزلة وقد جعله الله – تعالى- شعار هذه الأمة ومناط خيريتها، فقال – تعالى-: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ﴾ [آل عمران:110] ، وأبان – عز وجل – أن القيام به عنوان السعادة وبوابة الفلاح، وأن تركه سبيل استحقاق لعنته، والطرد من رحمته فقال آمرًا به: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلٰٓئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104] ، وقال – عز من قائل-: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَآءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوٗدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:78-79] .
وأوضح النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- أن القيام به شرطٌ للنجاة، وأن الإعراض عنه سببٌ للهلاك، وتعرُّضٌ للعقوبة، وحرمانٌ من إجابة الدعوة، فقال –صلى الله عليه وسلم-: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»(2)، وقال –صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»(3).
وأمام ذلك الترغيب العظيم والتهديد الشديد بادر المصلحون على امتداد تاريخ الأمة الطويل على اختلاف مواقعهم إلى الاحتساب في كافة مستويات المجتمع وطبقاته، ولكثرة الشواهد وسعتها فسأكتفي بذكر بعض ذلك من خلال سيرة النبي –صلى الله عليه وسلم- وحياته العطرة، من خلال ما يلي:
* احتساب النبي –صلى الله عليه وسلم- في محيطه الأسري:
لم تُلْهِ المهام الجسام التي كانت موكلة بنبينا الكريم – من تعليم الناس الكتاب والحكمة، وتدبير شؤون الأمة، ومواجهة الأخطار المحدقة بها، والانكسار بين يدي ربه آناء الليل وأطراف النهار – لم تلهه –صلى الله عليه وسلم- عن تربية أسرته الكبيرة، وتوجيهها إلى الابتعاد عما يُغضِب ربها، ويحول بينها وبين الظفر برحمته – عز وجل- وإحسانه، ومن ذلك: ما روت عائشة – رضي الله عنها – قالت: «دخل عليَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- وفي البيت قِرَام فيه صور، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، وقال –صلى الله عليه وسلم-: إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يصوِّرون هذه الصور»(4)، وما روته – رضي الله عنها – قالت: قلت للنبي –صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا – تعني قصيرة – فقال: «لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته، قالت: وحكيتُ له إنسانًا، فقال: ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا»(5)، وما رواه خادمه أنس – رضي الله عنه- قال: «بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي –صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي؛ ففيمَ تفخر عليك؟! ثم قال: اتقي الله يا حفصة!»(6).
* احتساب النبي –صلى الله عليه وسلم- على أصحابه المحيطين به:
عُنِي –صلى الله عليه وسلم- بتزكية أصحابه الكرام – رضوان الله عليهم أجمعين – وبخاصة القريبين منه، المكثرين من خلطته، وعمل على تنقيتهم من المعاصي والذنوب، وتحليتهم بالفضائل من أعمال القلوب والجوارح، مبادرًا إلى نهيهم عن كل خطأ يراه عليهم أو زلة يستجرهم إليها الشيطان برفق ولين ينبتان المحبة دون تنفير، وحكمةٍ تبني دون أن تهدم، ومن ذلك ما رواه أبو ذر- رضي الله عنه- قال: «إني ساببت رجلًا فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي –صلى الله عليه وسلم-: يا أبا ذر! أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»(7)، وحديث عائشة – رضي الله تعالى عنها- حين أَهَمَّ قريشًا شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟! فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «أتشفع في حدٍ من حدود الله؟! ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأَيْم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(8)، وحديث أبي مسعود البدري – رضي الله عنه- قال: «كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: اعلمْ أبا مسعود! فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود، أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام». قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا»(9).
* احتساب النبي –صلى الله عليه وسلم- على ذوي الفضل من العلماء والعُبَّاد:
لأهل العلم وأرباب الطاعة والمستكثرين من العبادة شأن رفيع، ومنزلة سامقة في هذه الأمة، ولكن ذلك لم يَحُلْ بين النبي-صلى الله عليه وسلم- وبين الإنكار عليهم، ومواجهة أحدهم حينما يقع في خطأ أو يصدر منه زلل دون أن يُنزِلهم ذلك عن رتبهم أو يحط من أقدارهم، ومن شواهد ذلك: حديث جابر – رضي الله عنه-: «أن معاذ بن جبل – رضي الله عنه- كان يصلي مع النبي-صلى الله عليه وسلم-، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فَتَجَوَّز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجلَ، فأتى النبيَّ-صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله، إنَّا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذًا صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة فتجوَّزت، فزعم أني منافق، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: يا معاذ، أفتَّان أنت؟ (ثلاثًا)، اقرأ: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ [الشمس:1]، و ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ [الأعلى:1] ، ونحوها»(10)، وحديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما- قال: «زوَّجني أبي امرأة، فجاء يزورها، فقال: كيف ترين بعلك؟ فقالت: نِعْم الرجل من رجل! لا ينام الليل ولا يفطر النهار. فوقع بي، وقال: زوَّجْتك امرأةً من المسلمين فعضلْتَها، قال: فجعلت لا ألتفت إلى قوله؛ مما أرى عندي من القوة والاجتهاد، فبلغ ذلك النبي-صلى الله عليه وسلم-، فقال: «لكني أنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فقم ونم، وصم وأفطر! قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام». فقلت: أنا أقوى من ذلك، قال: «صم صوم داود – عليه السلام – صم يومًا وأفطر يومًا». قلت: أنا أقوى من ذلك. قال: اقرأ القرآن في كل شهر، ثم انتهى إلى خمس عشرة وأنا أقول: أنا أقوى من ذلك»(11) .
* احتساب النبي –صلى الله عليه وسلم- على الأمراء وأصحاب الولايات:
عقد النبي –صلى الله عليه وسلم- ألوية الإمارة لجماعة من أصحابه الكرام –صلى الله عليه وسلم- ممن توسَّم فيهم القدرة على القيادة، وسياسة الآخرين، والقيام بالمهام الموكلة إليهم بإتقان وأمانة، ولكن توليته –صلى الله عليه وسلم- لتلك الفئة المتميزة، وثقته الكريمة بها لم تَحُلْ بينه وبين أن ينكر على أحدهم ما قد يقع منه من خطلٍ ومخالفةٍ لنهج الصواب، ومن ذلك حديث علي – رضي الله عنه-: «أن النبي-صلى الله عليه وسلم- بعث جيشًا وأَمَّر عليهم رجلًا، فأوقد نارًا، وقال: ادخلوها! فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكروا للنبي-صلى الله عليه وسلم-، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة»، وقال للآخرين: «لاطاعة في معصيةٍ، إنما الطاعة في المعروف»(12)، وحديث أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه – قال: «استعمل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رجلًا على صدقات بني سليمٍ يُدعَى ابن الْلَّتْبِيَّة؛ فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالُكم، وهذه هدية، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «فهلاَّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا! ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاَّني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أُهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! واللهِ لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر، ثم رفع يده حتى رُئي بياض إبطه يقول: «اللهم هل بلَّغت، بَصَر عيني وسَمْعَ أذني»(13).
* احتساب النبي –صلى الله عليه وسلم- على عامة المجتمع:
لم تَحُلْ مشاغل النبي-صلى الله عليه وسلم- العظيمة وأعماله الجسيمة بينه وبين الاحتساب على فئات المجتمع قليلة المخالطة له –صلى الله عليه وسلم-، حين يحصل داعٍ لذلك، ومن الشواهد: حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- «أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مرَّ على صُبْرَةِ طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعُه بللًا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس؟! من غشَّ فليس مني»(14)، وحديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه- «أن رجلًا أكل عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بشماله، فقال: كُلْ بيمينك. قال: «لا أستطيع، قال: لا استطعتَ». ما منعه إلا الكِبْر، قال: فما رفعها إلى فيه»(15). وحديث ابن عباس – رضي الله عنهما- «أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟ فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا واللهِ! لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-»(16)، وحديث عبد الله بن جعفر- رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «دخل حائطا لرجل من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- حنَّ، وذرفت عيناه، فأتاه النبي –صلى الله عليه وسلم- فمسح ذِفْرَاه فسكت، فقال: مَنْ ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتُدْئِبُه»(17).
وبالجملة: فقد كانت الحسبة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكوِّنًا أساسا من مكونات شخصية النبي –صلى الله عليه وسلم- لم تفارقه في كل أدواره ومواقفه، وفي كافة صِلاته وعلاقاته، وفي جميع مواقع وجوده، وهو موضع عظيم للتأسي والاقتداء فهمه الصحابة الكرام، ومارسوه في عامة أحوالهم وأدوارهم حتى في الحالات الخاصة؛ كحداثة الإسلام كما في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي، الذي من حين أسلم خرج مسرعا إلى قومه داعيا لهم ومحتسبا عليهم، حتى أقلع عن الشرك والمنكرات معه من قبيلته دوس العدد الغفير(18)، وكحالات المرض الشديد كما في قصة عمر – رضي الله عنه – حين دخل عليه في مرض موته شابٌ يعوده، فلم يلهه فراش الموت والتفكير في كيفية تدبير شأن الدولة من بعده أن يأمر الفتى برفع الإزار وترك الإسبال(19).
والمتأمل في واقعنا المعاصر يلحظ ظاهرة إحجام كثير من خيار رجال الأمة ونسائها الفضليات عن القيام بهذه الشعيرة العظيمة، مما تسبب في كثرة شيوع الخبث، وذيوع المعاصي والمخالفات، و المجاهرة بالفساد، وتجذُّر كثير من المظاهر السيئة، والتعلق بالكفرة والفساق وتقليدهم، وانتشار الجهل والظلم والتناحر، وعلو أهل الأهواء والمنكرات وتسلطهم وكثرة عبثهم بالخير والفضيلة ومخالفتهم لأحكام الشريعة؛ مما يهدد سفينة المجتمع بالغرق، وقوة الأمة وتماسكها بالضعف والهوان والفرقة، وفقدان العزة والإغراق في التبعية.
ويعود ذلك التقصير والإحجام إلى أسبابٍ عدةٍ، من أبرزها: الغفلة عن جلالة هذا الأمر وضرورته و علو منزلته، وتحقير النفس والنظرة الدونية للأثر، والتسويف والتواني، والتواكل وتبرئة النفس وإلقاء المسؤولية على الآخرين، والاستخفاف العملي بخطورة المعاصي والمنكرات وعدم تقديرها حق قدرها، وإيثار السلامة والجنوح إلى الدعة وعدم الرغبة في الولوج في تبعاتٍ قد تنجم عن الاحتساب وتحتاج إلى تحمُّلٍ وصبر، والتخوُّف من ملامةٍ قد تحصل من جراء تسرعٍ أو اجتهادٍ خاطئ، والابتعاد عن الناس وضعف معايشتهم مما أدَّى إلى الجهل بحدوث المنكرات وعدم العلم بوقوعها، وغير ذلك كثير.
لكن السبب الأكبر في حدوث ذلك التواني والخمول يعود بدرجة أساس إلى فتورٍ إيمانيٍ ظاهرٍ، وإلى محدوديةٍ جليةٍ في فهم الدين وتصوره كما جاء به النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم-، وإلى تقصيرٍ بيِّنٍ لدى المحاضن التربوية بدءًا بالمنزل ومرورا بالمدرسة والمسجد والبيئات التربوية المتنوعة في تفقيه الجيل وتربيته على ممارسة هذه الشعيرة العظيمة في إطارٍ فاعلٍ منضبطٍ بحسب علم كل فردٍ وحدود قدرته، وهي أمورٌ بالغة الخطورة، وسيؤدي التمادي فيها إلى تسيُّد الباطل وشيوع المنكر وانحسار كثير من معالم الحق ومظاهر المعروف في مدى زمني قريب قد لا يخطر على بال كثير من أهل العلم والدعوة فضلًا عن جماهير مجتمعاتنا الخيِّرة.
فيا قوم، هيَّا إلى الاحتساب والقيام بواجب التواصي بالحق ومدافعة المنكر، وتشجيع كل جهدٍ خيِّرٍ يصب في هذا الاتجاه قولا ًوعملًا، حسًا ومعنى، تعظيمًا لله تعالى، وامتثالًا لأمره سبحانه، وتأسيًا بنبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم-، طلبا للثواب، وخشيةً من العقاب، وإصلاحا للمجتمع، وحفاظا على مسيرته من الزيغ والانحراف؛ فالمسؤولية عظيمة، والجهود المبذولة فيه قليلة، ولا تفي بالغرض المطلوب.
اللهم يسر لأمتنا من أمرها رشدا! إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله؛ عليه توكلت، وإليه أنيب.
* * *
الهوامش:
(1) إحياء علوم الدين، للغزالي: 2/306.
(2) البخاري (2493).
(3) الترمذي (2169) ، وحسنه الألباني.
(4) البخاري (6109).
(5) سنن أبي داود (4875) ، وصححه الألباني.
(6) الترمذي (3894)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.
(7) البخاري(30)، والخَوَل: الخدم، سموا بذلك؛ لأنهم يتخوَّلون الأمور أي: يصلحونها.
(8) البخاري (3475).
(9) مسلم (1659).
(10) البخاري (6106).
(11) البخاري (5052)، النسائي(1390)، واللفظ له.
(12) البخاري (7257).
(13) البخاري (6979).
(14) مسلم (102).
(15) مسلم (2021).
(16) مسلم (2090).
(17) سنن أبي داود (2549)، وصححه الألباني.
(18) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير: 3/99 – 100.
(19) انظر: البخاري (3700).
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1439 هـ = نوفمبر- ديسمبر2017م ، العدد : 3 ، السنة : 42