دراسات إسلامية
من أقلام الشباب
الرحلة في طلب العلم
بقلم: محمد أمجد الديوبندي
الطالب بقسم الإفتاء بالجامعة
طلب العلم فضل يقصر دونه الفضائل، وشرف لا يعلوه شرف، وعبادة من أجلّ العبادات، مزيّة لو أنفقت عمرك في سبيلها لم تكن خاسرًا، ولو بذلت لها نفسك تكن شهيدًا، ولو حييت معها كنت رابحًا فيما بذلت وأنفقت، فالسلف عرفوا فضله وأدركوا شرفه، فبذلوا له كلّ شيءٍ، حتى العزّ والإباء، وذاقوا حرّ الصيف وبرد الشتاء، واحتملوا في سبيله كلّ شيء: السهر والسفر – مع أنه قطعة من سقر-، والجوع والعطش، والحرّ والقرّ، واستحلَوْا في سبيله المرائر، واستحبّوا أبغض المكاره إلى النفوس إن كان وسيلةً لبغيتهم وسببًا لمطلبهم.
والرحلة في طلب العلم يكسب أجرًا جمًّا وربحًا قيّمًا، فكانوا يرحلون شهورًا وأعوامًا، ويتركون أهلاً وأولادًا، ويضربون في الأرض ويجوبون بلادًا، لطلب حديث أو لقاء شيخ أو معرفة مسألة، وقد روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فضله، فعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – أنه قال: إنه قدم عليه رجل من المدينة وهو بـ«دمشق»، فقال: ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدّثه عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، قال أما جئت لحاجة؟ قال: لا، قال: ما قدمت لتجارة؟ قال: لا، قال ماجئت إلا في طلب هذا الحديث، قال: فإني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنّة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاءً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء…..»(١).
ولهذه الرحلات شأن قديم بدءًا من عهد كليم الله موسىٰ – عليــه الصلاة والسلام-، فعن أبيّ بن كعب – رضي الله عنه- يقول: «بينما موسىٰ في ملإ من بني إسرائيل جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال موسىٰ: لا، فأوحىٰ الله – عـزّوجــلّ – إلى موسىٰ – عليه الصلاة والسلام – «بلىٰ! عبدنا خضر، فسأل موسىٰ السبيل إلىه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع؛ فإنك ستلقاه … الحديث»(٢).
وهذه قصة عجيبة ساقها ربّنا – تبارك وتعالىٰ – بشرح وتفصيل تتجلّى فيها شرف الرحلة في طلب العلم وفضل العلم الذي يضحّى في سبيله بكلّ نفيس وغال.
من هنا كانت الرحلة في طلب العلم سمة العلماء، والإنسان مهما بلغ من سيادة أو مكانة لا يمنع ذلك من طلب العلم واحتمال المشاقّ في سبيل الحصول عليه.
فالصحابة – رضوان الله عليهم – مع أنهم كانوا أكمل الناس علمًا وعملاً، وأفضل البشر بعد الأنبياء لم يكتفوا بهذه الفضائل؛ بل حرصوا على العلم، وتحمّلوا مشاقّ السفر مع أنّهم في غنىً منه، فعن جابر بن عبدالله – رضي الله عنـه – قال بلغنـي حـديث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم أسمعه، فابتعت بعيرًا فشدّدت عليه رحلي، وسرت شهرًا حتى قدمت الشام، فأتيت عبدالله بن أنيس، فقلت للبوّاب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: نعـم، فـرجـع فأخبره، فقام يطأطئ ثوبه حتى لقيني فأعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك سمعته من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في القصاص لم أسمعه، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول …. الحديث(٣).
ثمّ من كان بعدهم من الذين شُهد لهم بالخير، لم يقنعوا بهذه الخيريّة؛ بل شمّروا سوقهم للحصول على هذه المزيّة؛ لأنهم علموا أن العلم-بعد الإيمان والهداية – أكبر أسباب الفضل لبني آدم؛ لأن أباهم لم يفضَّل على الملا ئكة إلا به، فأخذوه من حيث وجدوه، فعن سعيد بن المسيب أنه قال: «إن كنت لأسير في طلب حديث واحد مسيرة الأ يّام والليالي»(٤).
وعن الحسن أنه رحل من البصرة إلى الكوفة لمقابلة كعب بن عجرة – رضي الله عنه – ليسأله عن مسألة(٥)، وكذلك رحل غيرهم.
وعن أحمد بن حنبل أنه سافر إلى مصر والعراق والشام وخراسان والحجاز وصنعاء اليمن، وجمع مسنده حديثًا حديثًا، وبحث في الأسانيد والعلل والطرق، وجمع مسنده أربعين سنةً لم يهدأ له بال ولم يرتَحْ له خاطرحتى أتمّه، وها هو مسند الإمام أحمد بن حنبل يملأ الدنيا، وهو في أدراجنا وفي مكتباتنا، وعلى الأرفف يزينها.
ورحل شعبة بن الحجاج للبحث في أصل حديث واحد من الكوفة إلى مكة، ومن مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى البصرة لأجل حديث واحد؛ ليعرف أصل هذا الحديث من أين خرج؟ ومن الذي حدث به حتى يصل إلى أعلى شيخ يمكن الوصول إلىه ليتأكد من صحّة الحديث(٦).
ورحل عليّ بن المديني في طلب العلم إلى مدن العراق المختلفة التي كانت معروفة بتوفّر العلماء في ذلك الوقت، وسافر إلى الكوفة وسمع فيها، وكتب عن أبي نعيم الفضل بن دكين، ووكيع بن الجرّاح، ورحل إلى بغداد أيضًا، وكتب فيها عن عدد من أهل العلم بمن فيهم أبوعبيد القاسم بن سلام وإسماعيل بن إبراهيم بن عليّة.
أولئك الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه يوم طلبوا العلم لوجه الله – عزّ وجلّ -، لا لأجل أموال زائلة، ولا لأجل منصب دنيوي، أولأجل ثناء من الناس عليهم، فهذه الأمور لا تساوي ساعة واحدة من تلك الرحلة الطويلة التي قضوها في البحث عن العلم وفي تحصيله من أهله.
أمّا نحن فلا نقرأ مع أن الماء البارد أمامنا، وأشهى الأطعمة من حولنا، وأجهزة التبريد بدّدت حرارة الشمس الملتهبة، والكتب قد طبعت في أحسن الطبعات، والأحاديث حقّقت، وصنعت الفهارس العلميّة التي وفّرت على الباحث زمنًا طويلاً كان يستغرقه في البحث عن مسألة أو حديث.
فهلّا نحرص على طلب العلم وحضور مجالس العلماء، وهلّا نجتهد في التفقه في الدين، والاسترشاد بأقوال أهل العلم من فقهاء الأمة الذين هم أهل الحلّ والعقد عند المسلمين، فليس لنا عذر في عدم الإقبال على العلم الشرعي، ولنسألنّ عن هذه الأوقات التي أضعناها فيما ليس يعنينا.
* * *
الهوامش:
(١) رواه الترمذي، باب فضل الفقه على العبادة، رقم الحديث ٢٦٨٢.
(٢) رواه البخاري، باب الخروج في طلب العلم، رقم الحديث:٧٨.
(٣) رواه البخاري، باب الخروج في طلب العلم.
البغدادي، كتاب الرحلة في طلب الحديث١١١-١٠٩.
(٤) البغدادي، كتاب الرحلة في طلب الحديث ص ١٢٨.
(٥) البغدادي، كتاب الرحلة في طلب الحديث ص ١٤٣.
(٦) البغدادي، كتاب الرحلة في طلب الحديث ص ١٥٣-١٤٨.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، شعبان 1438 هـ = مايو 2017م ، العدد : 8 ، السنة : 41