إشراقة

السعادة: لغةً حالةُ ارتياح تامّ وشعور داخلي عميق بالرضا والقناعة، والسرور والانبساط. وقيل: هي طِيب النفس وصلاح الحال. وقد عَرَّف العلماء والكُتَّاب السعادةَ بأنها شعور ناتج عن عمل يحبه الإنسان؛ وأنها طاقة من الرضا تقبل الواقعَ؛ وأنها الرضا بكل شيء نابعًا عن إيمان من القلب؛ وأنها إحساس بالمتعة والانبساط؛ وأنها الاعتماد على الله في تحقيق الخير؛ وأنها مُجَرَّد فرحة بسيطة تدخل القلبَ وتُظْهِر الابتسامةَ الجميلة على وجه الإنسان؛ وأنها الشعور المستمر بالغبطة والطمأنينة، والأريحية والبهجة. وهذا الشعورُ يأتي نيتجةً للإحساس الدائم بثلاثة أمور: خيريّة الذات، وخيريّة الحياة، وخيريّة المصير.

       وقالوا: إنما يشعر شعورًا مستمرًّا بالسعادة من يستفيد من الماضي، ويتحمّس للحاضر، ويتشوّق للمستقبل، ويواجه الأحداثَ على أنها تحمُّلُ رسالـة، وينظر إلى المشاكل على أنها فُرَصٌ للتغيير، ويُحْسِن التعاملَ مع النفس والآخرين، ويكون إيجابيًّا ومُطَوِّرًا لذاته ولعلمه معًا، ويمارس الامتثال والعمل والهمة، ويبذل الجهدَ في سبيل تحصيل ما يُحِبّ؛ فكلُّ شيء يحبه الإنسان في الدنيا يحتاج تحقيقُه إلى جهد كبير وعمل دؤوب.

       وقالوا: قد تَكْمُن السعادة في حصول الإنسان على ما حُرِمَه؛ فهي عند الفقراء، الحصول على الثروة؛ وعند المرضى الحصول على الشفاء؛ وعند السُّجَنَاء تحقيق الحرية؛ وعند المظلومين الإنصاف والعدل؛ وعند الـمُشَرَّدِين العودة للوطن؛ وعند العائشين في العراء الحصول على بيت يؤويه وعريش يُظِلُّه.

*  *  *

       قد يظنّ الناس أن السعادة تعني أن تتغيّب المشاكل عن ساحة حياتنا؛ ولكن الخبراء يُؤَكِّدون أنها تكمن في القدرة على التعامل مع المشكلات لا في انعدامها؛ لأنه لو كانت السعادة بلا قلق ومشكلة لكان المجانين هم أسعد الناس. وكذلك قد يظنّون أن السعادة في الأخذ ثم يكتشفون أنها في العطاء.

كثيرًا ما ترجع السعادةُ إلى التفاؤل، بينما يرجع الشقاء إلى التشاؤم، لأن المتفائل – كما تؤكد التجارب – هو الشخص الوحيد الذي يعيش في كل زمان ومكان وحال ومُنَاخ سعيدًا، حقًّا إن القلب المتفائل تنبعث منه دائمًا أحاسيس الانتصار. إن التفاؤل كالنور، وكلُّ شيء في الحياة يَتَبَدَّدُ ويزول إلّا النور الذي يظل يُبَدِّد الظلام: ظلامَ اليأس والإحباط، وظلام الشعور بالحرمان وظلام مواقف الشقاء كلها.

       وربّما يتهيَّب المرأُ الشدةَ والعسرَ على حين أن ذلك أكبر باب يلج فيه إلى السعادة واليسر، وجمالِ الحياة، والوجهِ الإيجابيّ لكل ما يَحْدُث فيها من شدة ولين، وبؤس ورخاء، وانكسار وانتصار.

       السعادةُ هي المطلب الأوّل الأسمى لدى كل إنسان، فيسعى دائمًا إلى تحقيقها في حياته ليعيشها هنيئةً مريئةً؛ ولكن مُعْظَم الناس يظنّون أن السعادة إنما هي في المال، والثروة والرخاء، والأثاث والرِّيَاش؛ وبعضهم يعتقد أنها في الجاه والمكانة، والسمعة الواسعة، والعزّ الاجتماعي، والاحترام الشعبي؛ ومنهم من يرى أنها في كثرة الأولاد؛ ومنهم من يحسب أنها في قصور منيفة، أو بيوت فاخرة، أو سيّارات فارهة، ومنهم من يعتقد أنها في اعتلاء مناصب عليا: في رئاسة دولة، أو تقلّد منصبِ رئيسِ وزراء، أو تبوّإ مقعد وزارة، أو مدير مديرية، أو حاكم ولاية، إلى آخر المناصب التي تتحلب لها الأفواه.

*  *  *

       والنظرةُ إلى السعادة تختلف باختلاف الإيمان والعقيدة والديانة، فالكافر بأشكاله ومن يسير سيرتَه يعتقد أن الحياة الدنيا هي كل شيء، فالسعادة عنده في المال والرخاء والوسائل المادية وحدها، التي تُجَمِّل الحياةَ، وتُزَخْرِفها، وتجعلها هَيِّنة لَيِّنة، مزدانة بالنعم؛ فهو يسعى أن يجمعها كلَّها بكدِّ يمينه وعرق جبينه، وبكل ما أوتِيَ من المُؤَهِّلاَت؛ لأنه لا يؤمن بالبعث والنشر، والحشر والحساب، والمؤاخذة الإلهيَّة يوم القيامة، وبأن المحسن مصيره إلى الجنة، والمسيء مصيره إلى النار، وأن الحياة الدنيا أيام معدودة، وأنفاسه فيها محسوبة، وأن الحياة الآخرة هي دار القرار التي لا تزول؛ فالسعادة عنده تختصر في هناء الحياة الدنيا والزينات التي تُحَوِّلها له طاقةً من أزهار.

       وقد صَوَّرَ القرآن الكريم تصويرًا شاملاً دقيقا الموقف الإلهي من الكافر ومن ينحو نحوَه، فقال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)﴾  (هود:15-16).

       وقال: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ (الإسراء:18).

       وقال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)﴾ (الشورى:20).

       أمّا المؤمن فبما أنه يضع آخرته نُصْبَ عينيه، ويرى الحياة الدنيا فانية، يظلّ مغمورًا بسعادة وطمأنينة، وراحة بال وهناء حال، حتى في حالة كونه في ضيق من العيش، وقلة من الوسائل، وحرمان من الزينات. وإلى ذلك لاينسى نصيبه من الدنيا، فيسعى لكسب لقمة العيش وما يستعين به من الوسائل المادية على قضاء الحياة حسبما أمره الله به ونهى عنه عن طريق نبيه محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم-.

       وقد يشعر شعورًا لانهايةَ له بالسعادة والارتياح وهو يعاني العُسْرَ وشدةَ الحياة؛ لأن مرجعَ السعادة أصلاً إلى القلب وانشراحه وانبساطه. والقلبُ إنمايَطْمَئِنّ بذكر الله، والإنابة إليه، والاِطِّراح على عتبته.

       والسعادة أصلاً أن يرتاح قلبك وتطيب نفسك، لا أن يتألم قلبك وتتأذى نفسك، ويتوفر لجسمك كلُّ ما حَلمتَ به أو لم يَخطُر على بالك. قال الشاعر وما أَصْدَقَ ما قاله:

لَبَيْتٌ تَخْفِـقُ الْأَرْوَاحُ فِيـــهِ

أَحَبُّ إِليَّ مِــنْ قَصْـرٍ مُنِيفِ

ولُبْسُ عَبَــاءَةٍ وتَقَــرَّ عَيْنِي

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ

وأَكْلُ كَسِيرَةٍ مِنْ كِسَرِ بَيْتِي

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَكْلِ الرَّغِيفِ

خُشُونَةُ عِيْشَتِي في الْبَدْوِ أَشْهَىٰ

إِلَىٰ نَفْسِي مِنَ الْعَيْشِ الطَّرِيفِ

       والأبياتُ المذكورةُ – التي فيها غيرُها من الأبيات – منسوبةٌ إلى امرأة من البادية في نجد كانت ذات جمال باهر أَخَّاذ اسمها «ميسون بنت بَحْدَل الكلبيّة» كان قد تَزَوَّجَ بها سيدنا معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – وبنى لها قصرًا مُشْرِفًا على غوطة دمشق، زَوَّده بأنواع من التسهيلات التي تيسّرت له، ثم أسكنها إيّاه مع وصائف لها، فلَبِسَتْ يومًا أفخرَ ثيابها، وتزيّنت وتطيّبت بما أُعِدَّ لها من الحلى والجوهر، ثم جلست في رَوْشَنِها – شرفة قصرها – وحولها الوصائف، فنظرتْ إلى الغوطة وأشجارها، وسمعت تجاوب الطير في أوكارها، وشَمَّتْ نسيمَ الأزهار و روائح الرياحين والنُّوَّار – الزهر – فتذكرتْ باديتَها، وحَنَّتْ إلى أَتْرَابها وأناسها ومسقط رأسها، فبكت وتَنَهَّدَت – تنفست الصُّعَدَاءَ – فقالت لها بعض وصائفها: ما يُبْكِيك وأنتِ في مُلْك يُضَاهِي – يُشَابه – مُلْكَ «بلقيس» فتَنَفَّسَتِ الصُّعَدَاءَ، ثم أنشدت الأبيات التي ذُكِرَت.

       وكأنها لم تجد السعادة في القصر المنيف – الذي بنى لها سيدنا معاوية – رضي الله عنه – بدمشق مشرفًا على الغوطة، ولا في الزينات الفاخرة، والحياة الناعمة الفارهة، التي لم يكن لها بها عهدٌ في باديتها بنجد؛ لأن قلبها لم يَرْتَحْ إليها، ولم يَقْنَعْ بها، ولم يَلَذَّها اللذّةَ التي كان يجدها في حياة البساطة والشظف والكدّ، في باديتها المُجَرَّدَة من كل نوع من لمسات الحضارة والبَذَخ، والمدنيّة التي لاحظتها وأُتِيحُ لها أن تتمتع بها في حريّة مُطْلَقَة مأمونة من أيّ مُزَاحَمَة؛ فشَقِيَتْ بها من حيث كان الظنُّ بأنها ستَسْعَدُ بها؛ ولذلك سَيَّرها معاويةُ – رضي الله عنه – إلى أهلها بنجد بعدما طَلَّقَها ثلاثًا، وكانت حاملاً بابنه «يزيد» فوَلَدَتْه في البادية، وأرضعتْه سنتين ثم أرسلتْه إلى أبيه غيرَ نادمة.

       وقد وعد الله تعالى المؤمن الصالح الأعمال والمؤمنة الصالحة بإسعادهما بالحياة الطيبة الرضيّة في الدنيا والجزاء الأحسن في الآخرة، فقال تعالى:

       ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)﴾ (النحل:97).

       وضَمِنَ تعالى للمؤمن المهتم بجانب الآخرة أن سعيَه يكون مشكورًا مُوَفّىً حقَّه من القبول والرضا وإنجائه من النار وإدخاله الجنّة، فقال:

       ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ (الإسراء:19).

       و وعد بأن من تهمّه الآخرة فسيبارك الله سعيَه ويضاعف له الأجرَ والذخر، ومن يجعل همّه الدنيا وحدها فإنه تعالى لا يؤتي منها القدرَ الذي يرغب فيه ويسعى له، وإنما يؤتيه منها قدرَ ما يشاؤه هو تعالى: ويَحْرِمُه نصيبَ الْآخرة كاملاً:

       ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ (الشورى:20).

       إنّ السعادة لا تعني إراحةَ الجسم وإشباعَ المعدة وأفخرَ الملابس على الجسم، وإنما تعني أن يرتاح القلب، وتَطْمَئِنّ النفس، ويطيب البال. وقد يحصل ذلك – ارتياح القلب – في الكوخ مع شَظَفِ العيش، ولا يحصل في القصر الشامخ مع الرخاء والرفاهية. وبما أن المؤمن الصادق يظلّ قلبُه مُعَلَّقًا بالله تعالى ولا يكون همّه إلّا الآخرة فيطيب بالحال التي يرضاها له الله عزّ وجلّ، فإن وُسِّع له في الرزق وأتيحت له الوسائل المادية فلا يَبْطَر ولا يَطْرَب، وإن ضُيِّقَ عليه في العيش و وَلَّت عنه الوسائل فلا يَدْهَشْ ولا يَجْزَعْ ولا يَشْكُ؛ لأنه إنما ينظر دائمًا إلى المآل ولا ينظر إلى الحال.

       وكم من أناس رأيناهم يَشْقَوْنَ بالثروة الطائلة والأسباب الموفورة والدور المنيفة لمرض أَلَمَّ بهم وأعياهم عن التمتع بالحياة، أو أولاد عاقّين شَكَّلُوا لهم شقاءً في جميع وسائل السعادة، أو بليّة أَزْعَجَتْهم كلَّ الإزعاج ولم يجدوا خلاصًا منها ببذل كل ما عندهم من المال الجمّ والأسباب الفائضة.

       وكم من فقراء وجدناهم ينامون قريري العيون، طَيِّبِي النفوس يَسْعَدُون بكسرة من الخبز، وشَرْبَة من الماء، وخِرْقَة من الثياب، ونَوْمَة عميقة على بساط متواضع أو سرير بالٍ، لأنهم يتمتعون بالصحة، وينعمون بطاعة الأولاد، وانقياد الأزواج، ولا يمسّهم سوءٌ في الحياة، ولا تنالهم مخافة على ما يَدَّخِرُون من ارتياح النفس، وطمأنينة القلب، و راحة الضمير.

(تحريرًا في الساعة 10:30 من صباح يوم الخميس: 2/جمادى الآخرة 1438هـ = 2/مارس 2017م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، شعبان  1438 هـ = مايو 2017م ، العدد : 8 ، السنة : 41

Related Posts