دراسات إسلامية

بقلم:  د. السيد محمد الديب (*)

       ولد محمد –صلى الله عليه وسلم- في مكة المكرمة، وعاش بها معظم سنوات عمره إلى أن تركها مهاجرًا إلى يثرب، وكانت حياته بها قبل البعثة النبوية مختلفة عما درج عليه الكثيرون من شباب القبائل العربية، التي كانت مكة وطنًا لهم، وشاءت إرادة الله تعالى أن يحفظ محمدًا –صلى الله عليه وسلم- طفلًا وشابًا، حتى كان الإعلان عن بعثته عندما نزل عليه الوحي في غار حراء، القريب من مكة، بعد مرحلة طويلة من التأمل والتفكير، وبعيدًا عن الناس، وحيدًا في الغار، الذي كان يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، دون أن يستحوذ عليه الإعجاب بالدنيا بالشكل الذي يصرفه عن ممارسة الاقتراب من الله تعالى، بما تيسر له من بقايا ديانة سيدنا إبراهيم – عليه السلام – وكانت حياته –صلى الله عليه وسلم- في مراحلها الأولى قبل الزواج غير منعزلة عن الواقع، أو منصرفة إلى أحوال الآخرة وإنما كانت حياة ذات طبائع خاصة، لا تصرفه عن هموم البيئة، ولا تقطعه عن التواصل الحميم مع الأحداث الكبيرة التي كانت موضع تفكير، واتفاق واختلاف، في هذا المجتمع الذي كان خاضعًا لسلطان القبيلة، ولسائر الاعتبارات الأخرى كعبادة الأصنام المتعددة، ووجود طائفة مستعبدة من الإماء والأرقاء، ببشرة سوداء، لا تسر آنذاك أحدًا من الناظرين، ومن بين المشاركات بالفعل أو بالقول، والتي لا تغيب عن ذاكرة محمد –صلى الله عليه وسلم- منذ أن بدأت مسيرة الأحداث إلى أن بعثه الله نبيًّا لسائر الخلق ما يأتي:

1- سلوكه –صلى ا لله عليه وسلم- في حرب الفجار:

       كانت حرب الفجار إحدى المعارك القبلية، التي دارت رحاها بين قبيلتي كنانة وقيس عيلان، وشاركت قريش فيها، وانحازت إلى قبيلة كنانة، وتمخضت هذه الحرب عن انتصار لكنانة على قيس، وكان عُمر النبي آنذاك خمس عشرة أو عشرين سنة.

       وذكر كاتبو السيرة أن حروب الفجارات في العرب أربع منها: فجار البراض، وبه يوم يسمى يوم الشرب وهو أعظمها، وقد حضره الرسول، وشارك فيه بمعاونة أعمامه على قبيلة قيس، كما أن أيام القتال في هذه الحرب كانت كثيرة، والنتائج غالبًا – غير حاسمة، ولذلك تذكر الأحداث بإطالة ويكثر الادعاء والفخر فيها.

       ولم تترك المشاركة للرسول في هذه الحرب أثرًا في نفسه، أو تأثيرًا في غيره، فبقى مصانًا محفوظًا، وخاليًا من أيّة تبعات تلحق بسيرته في الجاهلية، والتي بقيت معطرة إلى أن هبط عليه جبريل – عليه السلام- بالوحي الكريم.

2– الإشادة بحلف الفضول:

       كان حلف الفضول بعد حرب الفجار بعدة أشهر، وذلك قبل المبعث النبوي بعشرين سنة، وقد تحالفت فيه بعض القبائل، بحيث يكنون يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم، وشهد الرسول بني هاشم وزهرة وتيما، وهم يجتمعون في دار عبد الله بن جُدعان بمكة، حيث تعاهدوا وتحالفوا على حماية الضعفاء المظلومين، وذُكرت أسباب كثيرة لانعقاده، وإن كان الهدف منه واحدًا ومتقاربًا، وقيل: إن تسميته بذلك، لأن الداعين إليه كانوا ثلاثة من أشراف العرب، واسم كل واحد منهم (فضل) وقد رفع هذا الحلف من منزلة قريش بين القبائل العربية، وتحدث الرسول –صلى الله عليه وسلم- عنه فقال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت»(1).

       وليس للرسول في هذا الحلف مداخلات أو تعقيبات، إذ لم يكن عمره آنذاك يخول له أن يدلى برأي فيه، ولكنه رضي به، وذكره في حديثه وأشاد به لما فيه من دعوة إلى السلام الاجتماعي وحقن الدماء، ونبذ الحروب، والتقريب بين الفرقاء.

3- القدرة على فض النزاع عند إعادة بناء الكعبة ورفع الحجر الأسود:

       تذكر الروايات التاريخية أن الكعبة المشرفة قد تعرضت لحريق، عندما جاءت إليها امرأة تعطرها فانطلقت منها شرارة إلى الكسوة وإلى الأخشاب، ثم جرف السيل البناء، فتصدعت الجدران، ورأى المكيون ضرورة هدمها، وإعادة بنائها، ولكنهم اختلفوا في ذلك، إلى أن جاء سيل آخر، فجعل إعادة البناء أمرًا محتومًا، وشرعوا في هدمها، ووصلوا إلى حجارة خضر، فأبقوا عليها أساسًا للكعبة، وكان ذلك قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وقد أسهم الرسول –صلى الله عليه وسلم- في نقل الأحجار، لاستكمال البناء، حتى بلغ الارتفاع موضع الحجر، وكانوا يجمعون الأحجار، من الجبال القريبة من مكة، واختلفوا فيمن ينال شرف رفع الحجر الأسود، ليوضع في مكانه،  حتى يكتمل البناء فوقه، ثم اتفقوا كما قال ابن هشام في السيرة النبوية على لسان أبي أمية بن المغيرة، وكان يومها أسن رجل في قريش قال: «اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أَول داخل عليهم رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم-، فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبـر، قال صلى الله عليه وسلم: «هلم إليّ ثوبًا، فأتى به، فأخذ الركن (الحجر) فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بُني عليه»(2).

       وقد جعلت هذه المعالجة للموقف بكامله من الرسول صاحب رأي نافذ، وأهلا للمشورة، ومستحقّا لأن يوضع في الاعتبار عند بروز أزمة أخرى في مسيرة الأحداث بمكة المكرمة، كما دعم هذا الموقف أيضًا اتصافه –صلى الله عليه وسلم- بالأمانة، وتلقيبه بالأمين واختياره لأن توضع الأمانات عنده، ولذلك عندما كانت الهجرة في مرحلة تالية جعل عليًا ينام في بيته، ويحرس الأمانات، ويردها إلى أهلها بعد خروجه من مكة المكرمة.

4– خلق الأمانة:

       لقد عرف الرسول –صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية بالأمانة خاصة بعد عمله في التجارة واشتراكه مع عمه أبي طالب في الرحلة إلى الشام، وتحمله المسؤولية في مال السيدة خديجة بنت خويلد، وجاء ذلك عرضًا منها لمحمد –صلى الله عليه وسلم-، للخروج بمالها إلى الشام متاجرًا، بحيث تعطيه أفضل مما تعطى غيره من التجار، وقبل هذا العمل، وأخلص فيه، وشهد عليه مرافقه في الرحلة (ميسرة) غلام خديجة، الذي أقر بما لمحمد من الأمانة والصدق والإخلاص، وكان ذلك فاتحة خير إذ أتاحت له سبل التقدم للزواج بها، وتحقق له الخير معها، ورزقه الله تعالى الولد منها دون غيرها من النساء، اللاتي تزوج بهن في مرحلة تالية، وقد كانت الأمانة التي اشتهر بها وتميز فيها سندًا قويًّا له في حياته مع جده وأعمامه ومع غيرهم من القبائل العربية في مكة، فصارت حياته في ظل هذه الأخلاق نموذجًا عربيًا مشرفًا لغيره من الرجال، الذين رأوا فيه ما يصلح للتأثر به والسير على منهاجه.

5– الإخلاص في العمل:

       بدأ ارتباط محمد –صلى الله عليه وسلم- بمزاولة العمل، منذ طفولته ونشأته في ديار بني سعد، حيث كانت إقامة مرضعته حليمة السعدية، فقد وُجّه إلى رعي الأغنام مع أخيه من الرضاعة (عبد الله) و واصل العمل بالرعي، عندما استكمل نشأته في مكة إلى أن تحول إلى التجارة بعد ذلك، ولما بعث بعد الأربعين من عمره كان ذهنه مدركًا لتاريخه مع هذا النشاط، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة»(3).

       وقد اكتسب من هذه المهنة صفات حميدة أفادته في مستقبل حياته، مثل بحثه عن الأماكن المعشبة والآمنة التي يسوس فيها الأغنام، واليقظة في حراستها، وتأمين انتشارها مما يمكن أن يعترضها من ضرر وأذى واتساع الصدر، وخلق الصبر، وطول البال، وحسن الحيلة والأمانة، وهي الصفات التي انعكست مع غيرها على حياته في المستقبل.

       وعمل في مرحلة تالية من عمره بالتجارة، وهي مهنة لا تكتسب بين عشية وضحاها، وبدأها تحت رعاية عمه أبي طالب، من خلال الرحلة إلى الشام، وكانت تجربة عملية مفيدة، خبر فيها كثيرًا من نفوس البشر ورغائبهم في الكسب وزيادة الثروة المالية، واستفاد من ذلك الكثير، الذي تأهل به للارتقاء إلى العمل في أموال السيدة خديجة بنت خويلد، وحقق لها الكثير من المكاسب بصدقه وإخلاصه وأمانته، مما جعلها تدعم رغبته في التقدم للزواج منها.

6– عمق التأمل والتفكير:

       كان زواج الرسول من خديجة بنت خويلد زواجًا ميمونًا مباركًا، تلاقت فيه صفاته ورغباته مع اهتماماتها وشواغلها فأغناها بفكره وصدقه وإخلاصه وأمانته عن الاحتياج إلى مشورة أحد من الرجال، كما كانت تفعل قبل الزواج منه، وكانت بالنسبة له فاتحة خير وارتياح حيث تمكن من إشباع اتجاهه إلى التأمل في بدائع صنع الله، وصار التفرغ لذلك متاحًا بصورة أفضل عما كان عليه قبل الزواج، فكان يمكث في البيت أيامًا كثيرة يعيش فيها مع التأمل العميق، الذي يتحول إلى نشاط ذهني وتفكيري يقنع به أحيانًا، وقد لا يصل إلى الحقيقة، خاصة في مسألة عبادة قومه للأصنام، التي ينهزمون أمامها، أو يقدمون لها من القرابين ما يعجز عن فهمه، وقد أكرمه الله تعالى فلم يسجد لصنم منها، وبقي ذهنه شاردًا لم يرتو ظمؤه بشأن الوصول إلى كثير من الحقائق، وكان من عادات العرب أن تنقطع طائفة من مفكريهم إلى العبادة في أيام معدودة يفضلونها في خلوة بعيدًا عن الناس، «يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم، يلتمسون عندها الخير والحكمة، وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة: التحنف والتحنث»(4).

       وتحول الرسول من الخلوة في بيته إلى مكان خارج مكة، وهو غار حراء، حيث كان يذهب إليه كل عام يقضى به شهر رمضان يخلو فيه إلى نفسه، ويتعبد به على طريقته، ربما عن اعتقاد جاء إليه من بقايا ديانة سيدنا إبراهيم أو غير ذلك، وكانت هذه الخلوة تحقق له الراحة والرؤيا العميقة، خاصة أن احتياجاته من الطعام والشراب كانت متاحة بشكل يتيح له القدرة على التواصل مع هذه النزعة القويمة، وبقي على ذلك حتى نزل عليه الوحي من السماء.

       وهكذا كانت حياة الرسول نموذجا إنسانيا رائعا للحياة العربية في مكة قبل البعثة النبوية، فشهد التناحر بالسلاح في حرب الفجار، والقناعة والرضا بالصلح بين الفرقاء، والإسهام في فض النزاع عند إعادة بناء الكعبة ورفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتجاهه إلى العمل راعيًا وتاجرًا، واستغراقه في التأمل والتفكير، وتميزه -ﷺ- بالأخلاق الحميدة التي فاق بها أقرانه، وارتقى بكل ذلك حيث انصرف إلى الخلوة والتأمل حتى نزل عليه القرآن الكريم.

*  *  *

الهوامش:

السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص84، وحمر النعم: هي الغالي من الإبل والبقر والغنم.

السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص119.

رواه البخاري، وقوله: على قراريط أي على عطاء قليل.

حياة محمد – للدكتور/ محمد حسين هيكل، ص145 (دارالمعارف بمصر).

*  *  *


(*)        أستاذ بجامعة الأزهر.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب  1438 هـ = أبريل 2017م ، العدد : 7 ، السنة : 41

Related Posts