إشراقة

الموهبةُ – وهي ملكة إبداع وإجادة وتفوّق في علم أو فن – نعمةٌ جليلةٌ لا يَهَبُها الله إلّا لمن يشاء أن يجعله شامًّا بين الناس، ويُتِيح له أن يُنْجِز ما يُسَجَّل ويُذْكَر على مرّ الدهور، فيَحْظَىٰ بشكر الخلق وثناء الناس وأجر الله؛ من ثم كان الاهتمامُ بها و رعايتُها ضرورة قصوى لا يجوز التغاضي عنها؛ لأنها تنمو بالرعاية وتذبل بالإهمال.

       وقد أكَّدَ الخبراء والمختصّون أن الأسرة هي التي تعود عليها أوّلًا المسؤوليّةُ تجاه تنمية المواهب والاهتمام برعايتها المتمثلة في تهيئة المناخ الملائم والبيئة الصالحة وتشجيع الموهوب من الأطفال لتزدهر موهبته ولاتبقى نائمة. والأم لها الدور الأوّل في اكتشاف موهبة الطفل الموهوب المالك لملكة الإبداع والإنتاج والاختراع.

       علمًا بأن هناك جهتين مُطَالَبَتَين برعاية الموهوبين لاثالث لهما، وهما: البيت والمدرسة. ودورُ البيت أهمُّ بكل تأكيد من دور المدرسة؛ ولكنهما مسؤولان عن التعاون والتكاتف في الاهتمام بالموهبة؛ لأنه لوحَدَثَ أن المدرسة وقفت عائقةً دون جهود البيت – أي الأسرة – المتركزة على تعهّد الموهبة لدى الطفل، فاتبعت – المدرسة – أساليب تربويّة عقيمة غيرَ مُجْدِية بل ضارّة، فهدمت ما بَنَتْه الأسرة، فأَلْغَتْ مفعول جهود الأسرة وفَشَّلَتْها عن آخرها، لما كان لعناية الأسرة بموهبة موهوبها أيُّ مكسب، لأن حماقة المدرسة تكون قد أَتَتْ بحاصل عكسيّ.

       وحتى تأتي الرعايةُ للموهبة مُجْدِيةً للغاية والنصاب المطلوب، ينبغي أن يتمّ اكتشافُها مُبَكِّرًا. ويمكن اكتشافُها والاطّلاعُ عليها من خلال ملاحظة تصرفات الطفل وأساليبه السلوكيّة الممتازة اللافتة أو أحاديثه المثيرة عن بعض الأفكار الناضجة التي لاتكون إلا نصيبَ الكبار لا الصغار، وقد يُوَجِّه مثل هذا الطفل إلى أبويه أسئلة تؤكد أن لديه ذكاء غير عادي؛ لأنها تنمّ عن قدرة على تفكير أعلى مستوى من عمره. وقد يعصي أمرهما بالامتناع عن تصرّف ما رادًّا عليهما ردًّا يتركهما مدهوشَيْن لوقت لابأس به. وقد يسائلهما عن الأسرار وراء الكون والحياة والأشياء التي يلاحظها هنا وهناك بطريق يشف عن أنه سيكون له شأن في المستقبل، ويُتَاح له أن يصنع ما لا يستطيعه أترابه. وكذلك قد يجادل أبويه أو أعضاء أسرته في القضايا اليوميّة بحذق ومهارة لا عهد بهما لأطفال آخرين في الأسرة، ويَحْظَىٰ بقدرة على الإقناع برأيه وفكره.

       ويتمتع مثلُ هذا الطفل بنوع من الجرآءة والإقدام لا يتمتع به الأطفال عامة، ويكون في عينيه بريق غريب يعكس ذكاءَه الممتاز ومصيره الزاهر ودوره الفريد في حياة الوعي والنضج. وقد يميل إلى تصرفات مُزْعِجة تتسم بالمشاغبة؛ لأن ذكاءه الناتج عن الموهبة يجعله لايصبر على وتيرة واحدة، وإنما يظل دائم التحرك قائم النشاط، فإذا منعتَه من شيء اشتغل بشيء آخر، وإذا صرفتَه عن جهة ركض إلى جهة أخرى، فهو لا يعرف القرار مادا يقظان، وتصرفاتُه معظمها يكون متسمًا بنوع من الغرابة والإثارة تدعو للتعجب حينًا وللانزعاج حينًا آخر.

       وهذه الأنماطُ السلوكيّةُ قد يكون السرُّ وراءها موهبةً كامنةً لدى الطفل تنتظر من يثيرها ويُتِيح لها الفرصة للتفتّح والانطلاق وأداء الدور الإبداعي المكتوب من الله الخلاّق العليم؛ ولكن الأبوين قد لايدركانها ولا يفطنان لها؛ لأنهما يكونان لا يملكان وعيًا بطبيعة الموهبة الكامنة وتباشيرها الظاهرة في الطفل، فيكتفيان بإبداء الحيرة والتعجب حولها، وذكرها بين من يزور الأسرةَ من الأقارب والمعارف ومن يلقاها من الناس، وبما أن الموهوب يتّسم بنوع من التحرر والانطلاق من التقيد بالانضباط والنظام وأساليب الجدية، ربما ينزعج منه الأبوان وأعضاء الأسرة من حين لآخر لعدم معرفتهم بما تقتضيه موهبة الموهوب من الخروج على الرتابة ومنهجية التقليد والخضوع، مما يجعل الأبوين ربما يتعلاملان معه بما يُعَاكِس طبيعتَه ويقف سدًّا دون انطلاقه إلى آفاق فكره وطموحه، فتَذْبُل موهبته، وتموت مع الأيّام عن آخرها، ويتلاشى بالتالي ما كان مُؤَمَّلًا منه من المآثر والإنجازات، فيما لو وجدت موهبتُه الطريقَ مفتوحًا للتنامي والتفتح وإعطاء المفعول.

       إن جهل الأسرة بالموهبة الكامنة في الطفل، وعدم معرفتها بأساليب التعامل اللائق معه، وتقصيرها في الاهتمام به وتوفير المناخ الملائم لتنمية الموهبة لديه، ظلّ يُشَكِّل تحدِّيًا كبيرًا للأسرة؛ لذلك كانت عملية اكتشاف موهبة الموهوب ذات أهمية قصوى يجب أن تخضع للأساليب العلميّة، وأن لا تُتْرَك لمهبّ الريح، وللاجتهادات الفوضويّة والبرامج العشوائيّة، التي ظل يستخدمها الناس في الماضي؛ لأننا نعيش اليوم عصرَ التطور الحضاري السريع السير، وتقدم العلم الطبي المتسارع الخطو؛ فلا يجوز الاعتماد الكلي على الملاحظة السطحيّة والخبرة الشخصيّة واتباع الأساليب غير المضبوطة علميًّا. فهناك أطباء متخصصون في طبّ اكتشاف المواهب ورعاية الموهوبين من الأطفال، إلى جانب التقدم الهائل لعلم الطبّ النفسي الذي يكتشف نوعية التفكير والذكاء غير العادي لدى الأطفال، ولاسيّما لأن العصر عصر ثورة المعلومات وانفجار المعرفة، الشيء الذي يجوز استخدامه في الاكتشاف المبكر للموهبة لدى الأطفال، ومن ثم الاهتمام بتعهّدها بتوفير البيئة وإتاحة الفرصة للتفاعل المثمر والانطلاق الناجح.

       كان هناك طفل موهوب لدى بعض أقاربنا، وكانت الأسرة تلاحظ فيه مثل التصرفات المشار إليها، فربما كانت تبدي عجبها وحيرتها منها، كما كانت قد تبدي انزعاجها من نشاطه الدائم، وتعرضه المستمر لجميع الأثاث والرِّيَاش في البيت، وإكثاره من طرح أسئلة عن كل شيء يقع عليه بصره: ماهو؟، وما فائدته؟، وكيف صُنِع؟ ومن الصانع؟ وهل يمكن أن يلقاه فيسأله عن طريقة صنعه؟.

       فأشار عليها بعض الخبراء بالعناية به، والاهتمام بايجاد المناخ الملائم لتفتح موهبته، حتى تتكامل وتنضج وتعطي ثمارها الحلوة، فاستمعت لنصحهم، وعُنِيَت بتربيته، واهتمت بتعليمه، وأنفقت على ذلك ما تيسّر لها من المال والجهد والوقت، فصار مهندسًا مِيكَانيكيًّا يشار إليه بالبنان؛ لأن عبقريته ساعدته على أن يفوق كثيرًا من المهندسين في الإنجاز والاختراع.

       وفي جانب آخر وجدنا عددًا من الأطفال الموهوبين قد ضاعوا؛ لأنهم من سوء الحظ لم يجدوا من يرعاهم، ويُوَفِّر لهم ما يعين على ازدهار مالديهم من المواهب، إمّا لأن أسرهم لم تفطن لما وُلِدُوا عليه من المواهب، وإمّا لأن أُسَرَهم كانت تعاني الفقر وقلة الوسائل المادية التي تُزِيل العوائقَ عن طريق تنامي المواهب، فانكمشت المواهب لديهم وذبلت ثم صارت كأنها لم تكن فيهم. إن توفر الوسائل هو العمود الفقري (Spinal column) الذي يعين أساسًا على توفر ما يؤدّي إلى صحوة المواهب الكامنة في الموهوبين من الأطفال. إن أولاد الفقراء مهما كانوا أذكياء تنفتح عيونهم على ما يجب أن يتوفّروا عليه حتى يسدّ رمقهم ورمق أسرهم؛ لأنهم يجدون أنفسهم مضطرين للكدّ من أجل كِسْرَة خبز وخِرْقَة ثوب وحَبَّة دواء، فلا يجدون في الوقت مجالًا للاهتمام بما يُنَمِّي ما لديهم من المواهب التي لو وَجَدَت لها الرعاية لتفتحت وأتت بحاصل كبير يخدم البلاد والعباد.

       على كل فالاهتمام بالموهبة لدى الطفل، يجب أن يأتي منذ وقت مبكر، حتى تتنامى وتنطلق، وحتى لا تذبل وتتلاشى مع الأيام.

(تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الأحد: 21/جمادى الأولى 1438هـ الموافق 19/فبراير 2017م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب  1438 هـ = أبريل 2017م ، العدد : 7 ، السنة : 41

Related Posts