الملك فهد إلي رحمة الله
بقلم: فهد بن إبراهيم بن عبد العزيز آل إبراهيم
المستشار في الديوان الملكي
لله ما أخذ ولله ما أعطى، تدور الأفلاك وتغيب الأرواح، ولا يبقى إلا وجهه الحي الذي لا يموت سبحانه؛ نعم ذهب فهد بن العزيز، وأصبح الخبر حقيقة ماثلة، ووَرِّي جسده تحت الثرى في أبسط مظهر لجنازة على سنة سيد البشر – ﷺ – .
تفزع النفس إلى التكذيب إذ سمعت خبرًا لا تريد تصديقه، وكذا العقل يتباطأ في الاستجابة لبعض المواقف إراديًا أو لا إراديًا؛ فيرفض فكرة التصديق السريع في وقوع حدث بمثل هذا الحجم، فيتأرجح بين مصدق ومكذب، ولعل في ذلك تخفيفًا لوقع الحدث، ولكننا أولاً وآخرًا مسلمون ومؤمنون بقضاء الله وقدره، ونتذكر مصيبتنا في رسولنا الأعظم ونسير على ما وجهنا إليه عليه أفضل الصلاة والسلام.
قوة الصدمة حالت دون استشعار الفراق.. وجدت في كتابة هذا الموضوع صعوبة لم أجدها في أي موضوع سابق، وليست الصعوبة في مادته، فالحديث عن فهد بن عبد العزيز لن نفيه حقه بمجلدات عوضًا عن مقالة في زاوية محددة؛ بل الصعوبة في تعدد جوانب حياته وتنوعها واتساعها.. فهل نتحدث عن الجانب المترجم على واقع الأرض ولا يمكن إنكاره؟ أم نتحدث عن سيرته في نهضة البلاد منذ كان وزيرًا للمعارف، ثم وزيرًا للداخلية ثم وليًا للعهد، ثم ملكاً توج تاريخه المعطاء بشرف خدمة الحرمين الشريفين وتوسعتهما أكبر توسعة شهدها التاريخ، وطباعة المصحف الشريف وإنشاء مطبعة خاصة لذلك، وكلاهما مشروعان عملاقان لا يقتصر أثرهما على المملكة، وإنما يمتد ليصل إلى المسلمين في كل أنحاء العالم، يتبعهما بناء المساجد والمراكز الإسلامية في العديد من عواصم العالم. سلسلة طويلة لحياة باني دولة حديثة تشكلت من حلقات واسعة بمشاريعها التنموية والإدارية والسياسية والثقافية، ومنارة إشعاع الإسلام والمسلمين.. فلم يغفل الملك فهد – رحمه الله – طوال مدة إدارته لدفة الحكم في البلاد جانبًا من هذه الجوانب بل كانت اهتماماته تشمل جميع أوجه الحياة العصرية مستندًا إلى أسس الشريعة الإسلامية الثابتة، فكان هذا التوازن أساس السياسة الدولية والداخلية، فإذا كان الفهد قد وضع الأسس النهضوية للتنمية في المملكة الحديثة وارتقى بالمواطن السعودي إلى أفضل أحواله المعيشية ليس على مستوى ارتفاع دخل الفرد فحسب بل على مستواه الثقافي والتعليمي والصحي والأمني والاجتماعي والحضاري؛ فقد وضع الفهد أساس التعليم الحديث منذ كان أول وزير للمعارف، وجعل التعليم في أوليات اهتماماته عندما تولى الحكم فزاد عدد الجامعات، وتوسع في إنشاء المدارس في كل أرجاء المملكة، وكانت البعثات الدراسية لأبناء الوطن إلى جميع الدنيا في مختلف التخصصات لنهل العلم والمعرفة والعودة لخدمة هذا الوطن متسلحين بأحدث ما وصلت إليه الجامعات ومراكز البحث العلمي من معرفة ومعلومات وتقنيات، واهتم بالأمن عندما كان وزيرًا للداخلية حيث وضع أسس تنظيم التطوير الإداري الأمني والأجهزة الأمنية الوقائية والتنفيذية، وأنشأ المؤسسات التأهيلية لرجال الأمن على مستوى الضباط والأفراد في شتى المجالات وفي مختلف المواقع التي تحقق الأمن للمواطن والمقيم في المدينة والقرية والهجرة.
وإذا كانت أعمال الفهد تشهد له في حياة الناس ومعاشهم فهناك مواقف إنسانية قد تخفى على كثير من الناس، ولا يعرفها إلا القليل من الناس، ومن هذه المواقف:
- حدث ذات يوم من أيام شهر رمضان المبارك في الشفا بمدينة الطائف أن اتصلت بالقصر مواطنة زوجها سائق صهريج (وايت) وطلبت الملك فهد شخصيًا؛ وسألته الشفاعة في إطلاق سراح زوجها المسجون في حق خاص كي يشاركها وأبناءها فرحة العيد. فبادر – رحمه الله – بالاتصال بالأمير سلمان موجهًا بإطلاق سراح زوجها بعد تسديد ما عليه من حقوق .. هذا الموقف الإنساني من ملك البلاد تجاه امرأة ضعيفة لاحول ولا قوة لها إلا أن التوفيق ساقها إلى التوجه إلى أكبر مسؤول.
- موقف آخر يبين مدى تواضعه – رحمه الله – : اتصل على تليفونه المباشر في غرفة نومه مواطن صاحب حاجة معتقدًا أن الرقم الذي اتصل عليه هو سنترال الديوان الملكي، ورد عليه الملك – رحمه الله – بلطف كبير، واستمع إلى حاجته وطلب الرجل منه التوسط لدى رئيس الديوان لقضاء حاجته – دون أن يعرف المتصل أنه كان يتحدث إلى الملك نفسه – فوعده الملك بالتوسط، وطلب منه معاودة الاتصال بعد دقائق ليخبره بالنتيجة، وفي لحظات اتصل – رحمه الله – برئيس الديوان موجهًا إياه بإنجاز طلب الرجل. وبعد معاودة الاتصال، أخبر الملك صاحب الحاجة أن رئيس الديوان وافق على طلبه، وما عليه إلا مراجعة الديوان لإنهاء معاملته، فما كان من المتصل إلا أن لهج بالدعاء لرئيس الديوان وللشخص الذي توسط عنده (كيف لو علم ذلك الرجل أن من قام بإنهاء معاملته هو الملك شخصيًا)
- موقف آخر: كان من عادة الملك – رحمه الله – في البر بعد تناوله الغداء مع الحاضرين، أن يدخل إلى صالونه الخاص لأخذ قسط من الراحة، ومن الطبيعي أن لايدخل عليه أحد من غير إذن أو طلب، فصادف أن كان هناك أحد الأشخاص حديثي الانضمام إلى مخيم الملك، فدخل الصالون دون إذن، وقال للملك: لقد تأخر الوقت ولم تنزل من الصالون!! فسبق حلم الملك غضبه؛ وقال للرجل: اذهب وقل لمن راهنك إنك كسبت الرهان (لأن هذه الجرأة لابد أن يكون وراءها إغراء كبير) ففهم الرجل أن الملك أراد أن يلتمس له عذرًا ومخرجًا، فقال: نعم، وشكر الملك وخرج (إنه حلم الفهد المعروف).
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.