الملك فهد إلي رحمة الله
الشيخ : د. عبد الرحمن السديس
إمام و خطيب المسجد الحرام
الحمد لله المتفرد بالدوام والبقاء المنزه عن العدم والفناء أحمده تعالى على قضائه وقدره وصفاء الأمر وكدره، وأشكره على حال السرّاء والضرّاء والشدّة والرخاء، وأسأله الصبر على مر القضاء، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده، ولا أنداد ولا شركاء، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله إمام الحنفاء وسيد الأصفياء صلى الله عليه وعلى آله الأتقياء الأنقياء وصحبه بدور الاهتداء وأنجم الاقتداء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء، وسلّم يا رب تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة الأكارم: ما كان حديثًا يفترى ولا امرأ يزدري أن هذه الدار دار امتحان وابتلاء ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ وأن حقيقتها ظل زائل وعرض حائل، يا قوم إنّما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار:
ومن يـــذق الـــدنيـا فإني طعمتها وسيق إلينا عــــــذبها وعــــــذابها
فلـم أرهـــا إلاّ غـــــرورًا وبــاطلاً كما لاح في أرض الفلاة سرابها
معاشر القرّاء: الحقيقة الحاضرة الغائبة أن الموت في هذه الدنيا نهاية كل حي وختام كل شيء ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلاَلِ وَالإكْرَام﴾.
وما الدهر إلا كر يوم وليلة وما الموت إلا نازل وقريب
كأس الموت المُترعة يتجرّعها كل البشر ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإن مِّتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوَكُم بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ تحسّى مَرارته الأنبياء والأولياء والعظماء والعلماء والزعماء والنبلاء بل كل صغير وكبير وغني وفقير ومأمور وأمير:
حكم المنيــة في البريــة جاري ما هــــذه الــــدنيا بــدار قرار
فالعيش نـــوم والمنيــة يقظــة والمــــرء بينهما خيـال ساري
خلقنــا للحيـــــاة وللممــات ومــن هـــذين كل الحادثات
ومـــــن يـــولــــد يعش ويمت كأن لم يمر خيالـه بالكائنات
قضاء نافذ وحكم شامل وأمر حتم لازم لا مهرب منه ولا مفر ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ﴾ ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلأٌ فَإذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُوْنَ﴾.
أيها الإخوة الفضلاء: ولئن كانت مصيبة الموت بعامة كبيرة والفاجعة بالفقد عظيمة، فإن الرزية تكون أعظم وقعًا وأكبر أثرًا حينما تكون بفقد ولي أمر المسلمين وإمام عظيم من أئمة الإسلام وقائد فذ من أبرز قادة الأمة الإسلامية.
لعمــرك ما الــرزيـة فقــد مــال ولا شـــاة تمــــــوت ولا بعيـــــر
ولكن الــــرزيــــــة فقـــد شهـم يموت بمـــوتــــه بشــــــــر كثيـــر
وما كان قيــس هُلكـــــه هُلك واحد ولكنه بنيان قــوم تهدمـا
يؤكد ذلك أيهاالمسلمون في الوقت الذي :
طوى الجــزيــــرة حتى جاءني خبر
فزعت فيـــــه بآمـــالي إلى الكذب
شرقت بالريق حتى كاد يشرق بي
في حديث هزّنا خبره وأفزعنا نبأه خبر عز علينا مسمعه وأثّر في قلوبنا موقعه، خبر تألمت له المسامع وسكبت من أجله المدامع وارتجت من هوله الأضالع، نبا كادت له القلوب تتفجّع، والنفوس تتوجع، فقد كان من الحزن أن تعجز الألسن عن ذكره وتتضاءل الكلمات عن وصفه نبأ أشخص النظرات وأذرف العبرات وأورث الحسرات وأطال الزفرات من أكباد حراء، ومقل شكري، وأنات تترى:
يا لوعة لا يزال لاعجها يقدح نــــــار الأســـى علــى الأكبــاد
مــن لقلب شفّـــــــه الحـــــــزن ولنفس مــــا لهـــــا سكــــــــن
إنه الخطب العظيم والمصاب الجلل والفاجعة العظمى والداهية الدهياء، في فقد الأمة إمامها وولي أمرها، فعليه فلتبك البواكي رحمه الله رحمة الأبرار وألحقه بعباده المصطفين الأخيار، وأسبغ عليه الرحمة والغفران وأمطر على قبره شآبيب العفو والرضوان، وجعل مستقره الفردوس الأعلى في الجنان، وجمعنا وإياه وسائر المسلمين والصديقين والشهداء والصالحين، ورفع درجته في المهديين وبوأه الدرجات العلا في العليين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، وجزاه خير الجزاء على ما قدّم للإسلام والمسلمين، وأثقل بها له الموازين، اللهم آمين، اللهم آمين.
إخواني الأعزاء: ومع فداحة المصيبة وعظم الفجيعة فلا يملك المسلم حيالها إلا الرضا والتسليم، والتدرع بالصبر والاحتساب.
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن الموت غير مخلِّد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها
فاذكر مصابك بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم .
فلم يعرف التاريخ فجيعة أعظم من فقد المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته في).
فلله ما أعطى ولله ما جــــــزى وليس لأيام الـــرزيـــة كالصبر
هوّن عليك ولا تولع بإشفاق فإنمــــا مآلنا للــــوارث الباقي
كما ينبغي يرعاكم الله حسن العزاء، وعدم التسخط والجزع:
أيتها النفس أجملي جـــــزعـــــًا إن الذي تحــــذرين قــــد وقعـــا
عـــــزاء ليس يلفظـــــه جـــــازع ورثــــاء ليس ينطقــــــه طامــــع
إني أعـــزي لا لأني على ثقــــة من الحيــــاة ولكن سنـــة الـدين
ليس المعـــزِّي ببـــاق بعد ميتـــه ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
إخواني القراء الأكارم: ولئن غاب فقيد الأمة في شخصه وذاته فإنه لم يغب في أفعاله وصفاته:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهـم وعاش قوم وهم في الناس أموات
لعمـــرك ما وارى التـــراب فعالـــه ولكنـــــه وارى ثيـــابـًـــا وأعظمـــا
فلله دره ما أجمل صنائعه وما أجلّ مكارمه، فلقد كان نسيجًا وحده وطرازًا بمفرده.
ردّت صنائعــــه عليه حياتــــــه فكأنــــــه مـن نشــرها منشــــور
فإن يك أفنته الليالي فأوشكت فإن لـــه ذكـــــرًا سيفني اللياليا
شاهد ذلك بجلاء تلك الأعمال الفريدة، الحرمان الشريفان حرسهما الله اللذان شهدا في عهده – رحمه الله – أكبر توسعة عرفها التأريخ، وملايين النسخ من المصحف الشريف طُبـِعَتْ ووُزِّعَتْ في جميع أقطار المعمورة.
سائلوا المساجد والمدارس والجامعات والمراكز الإسلامية والصروح الحضارية ومعاقل التعليم وقلاع التربية فستنطق شاهدة على أعماله الجليلة ومآثره العظيمة.
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالـــــذكر للإنســـان عمـــــر ثان
تبكيه – رحمه الله – قضايا المسلمين الكبرى وفي مقدمتها قضية فلسطين والأقصى والأقليات الإسلامية في شتى أنحاء العالم، فسجّل يا تأريخ وسطّري يا أقلام واشهد يا عالم واكتبي يا مداد بأحرف من نور، وفاء بحق الفقيد وذكر محاسنه أداء لبعض حقه علينا رحمه الله رحمة واسعة.
فالمشــرقـــان عليــه ينتحبــــان قاصيهما في محــــزن والــداني
يا خادم الحــرمين أجر مجاهد في الله من خلد ومن رضوان
أيها الإخوة القراء الفضلاء: وفي خضم المآسي والآلام تبرز فلول الآمال وفي طيات المحن تبدو المنح ومن مخاض الأتراح تتولّد الأفراح، يقال ذلك تحدُّثًا بنعم الله وتذكيرًا بآلائه فمع لوعة الفراق تمّ الوفاق والاتفاق ومع أسى الوداع تم الاعتصام والاجتماع في مظهر فريد ونسيج متميز، ومنظومة متألقة من اجتماع الكلمة ووحدة الصف والتفاف الأمة حول قيادتها بأعين دامعة وقلوب مبايعة، ومبادرة للبيعة الشرعية على الكتاب والسنة، بسلاسة وانسيابية ويسر وتلقائية، قلّ أن يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً: وهذا بحمد الله ومنّه يعد من عاجل البشري وصالح العقبى في عصر اتسم بالتموجات والاضطرابات ممّا شفى صدور المؤمنين، وخيّب ظنون المرجفين الذين يساومون على استقرار هذه البلاد المباركة، ويراهنون على أمنها وثباتها ورسوخها، مما يؤكد مكانتها ويبرز ريادتها إسلاميًا ودوليًا، وأنها لا تزداد مع أحلك الظروف ومع أشد الأزمات إلا حميمية وتماسكاً وتلاحمًا، فلله الحمد والمنّة، وبهذه المناسبة فإننا نجدد البيعة الشرعية لولاة أمرنا وفقهم الله على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ بيعة مخلصة وولاء صادقًا على السمع والطاعة بالمعروف في السر والعسر والمنشط والمكره، امتثالاً لأمر الله عز وجل استنانًا بسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
يقول الله عز وجل: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُوْنَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ قال أهل العلم: وهذه الآية وإن كانت نزلت في بيعة الرسول ﷺ فإن البيعة لمن بعده من ولاة أمر المسلمين داخلة في عمومها، وهذه الآية الكريمة نص في وجوب البيعة وتحريم نقضها ونكثها: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكثُ عَلَى نَفْسِه وَمَنْ أَوفَى بِمَا عَاهَد عَلَيْه الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيْمًا﴾ ويقول ﷺ فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وفي حديث عبادة رضي الله عنه: (بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله) الحديث خرّجه مسلم في صحيحه، فالبيعة قررتها الشريعة وأوجبتها نصوص الكتاب والسنة وحكى الإجماع عليها غير واحد من أهل العلم، فهي أصل من أصول الديانة، ومعلم من معالم الملّة، ومنهج السنة يوجب التزامها والوفاء بها، لأنها أصل عقدي وواجب شرعي، يقول الإمام النووي رحمه الله: (وتنعقد الإمامة بالبيعة).
ويقول العلامة الكرماني: (المبايعة على الإسلام عبارة عن المعاقدة والمعاهدة عليه)، ولذلك فإننا نوصي المسلمين جميعًا بلزوم البيعة لولي الأمر على كتاب الله والسنة ومنهج سلف الأمة، ألا وإن مما أبهج نفوس المسلمين تلك الكلمات النورانية المؤثّرة لولاة أمرنا وفقهم الله وتأكيدهم على لزوم العقيدة وتحكيم الشريعة، وإحقاق الحقّ وإرساء العدل، واتخاذ القرآن دستورًا والإسلام منهجًا مما يسد الطريق أمام المصطادين بالمياه العكرة في جر هذه البلاد المباركة عن ثوابتها الشرعية، وزحزحتها عن أصولها ومبادئها الإسلامية.
إذا مات منا سيد قـام سيــد قؤول لما قال الكــرام فعول
ولا غرو فهم قد ورثوا المكارم كابرًا عن كابر، أعانهم الله ووفقهم لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين، وجعلهم خير خلف لخير سلف، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
الله إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت أن تحسن عزاء الجميع، وأن تخلف عليهم الخلف المبارك، وأن تجبر المصاب وتغفر للفقيد، والحمد لله على قضائه وقدره، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمّى، وإن العين لتدمع والقلب ليحزن على فراق فقيد الأمة، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا.
وإننا نرفع باسم المسلمين جميعًا أحر التعازي وأصدق المواساة إلى مقام ولاة أمرنا وفقهم الله والأسرة الكريمة وأبناء هذه البلاد خاصة وأهل الإسلام بعامة سائلين الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يلهم الجميع الاحتساب والصبر، وأن يعظم لهم المثوبة والأجر، ولا يرى الجميع مكروهًا في عزيز لديهم، كما نسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرحم فقيد الأمة الإسلامية، ويجزيه خيرًا كفاء ما أبدى، ولقاء ما أسدى وجزاء ما قدم وأعطى، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بـِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِيْنَ الَّذِيْنَ إذَا أصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلّهِ وَإنّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُوْنَ﴾
﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.