دراسات إسلامية

بقلم:   الأستاذ أسامة  نور/ القاسمي (*)

       لقد كان الإسلام عظيمًا جليلًا – ولا زال وسيظلّ – عندما أَمَرَ أبناءه بالتواضع وإنكار الذات؛ لأن ذلك صفة حَيَوِيَّة وفعّالة في إتمام الشخصيّة الإنسانيّة وإكمال جوانبها الآدميّة؛ ولذلك رَكَّزَ الإسلام على أن يُدْرِك المسلمون معنى التواضع والإنكسار، ويلتزموا المنهجَ الإسلاميَّ في نحت الشخصيّة المستقيمة، المصوغة في بوتقة التوازن والاعتدال، التي تقي الإنسانَ الصفاتِ السلبيّةَ التي تَمُسُّ النفسَ البشريّةَ وتُؤَثِّرُ فيها وفي نموّها، وعلاقتها واتّجاهاتها؛ فتَتَبـَنَّىٰ سلوكًا مُعْوَجًّا، واتجاهًا معكوسًا.

       إن الإسلام أراد فيما أراد أن يعرف الإنسانُ وضعَه الصحيحَ، ومكانه الحقيقيّ الواقعيّ، ويُقَدِّرَ نفسَه تقديرًا دقيقًا، ويُدْرِكَها بحجمها الذي هي عليه على أرض الواقع، ويحتسبها في نطاقها الصادق المطابق للواقع، فيجتنبَ التهويلَ والتَّزَيُّدَ والانتقاصَ والتهوينَ في وقت واحد؛ لأن الصفة الأولى تُضْفِي على نفسه هالةً وهميّةً لا تَسْتَحِقُّها، والصفةَ الثانيةَ تبخسها حقَّها من الامتياز والتفوّق، فالصفة الأولى: أي التهويل والتزيّد إذا تَغَلْغَلَتْ في النفس الإنسانيّة أَدَّتْ إلى إصابتها بالافتخار والاختيال والعجب والغَطْرَسَة والكبر. أما الصفة الثانية: أي الانتقاص والتهوين إذا تَسَرَّبَتْ إليها، أصابتها بالشعور بالاستخفاف والاحتقار، وبالتالي بالقلق والتردد، اللذين يُؤَدِّيَان إلى الخوف والانزواء والعزلة والانطواء على الذات.

       والصفةُ التي هي بين هذه وتلك هي التواضع والانكسار الذي يدعو إليه الإسلام، ويحضّ عليه، ويطالب أبناءَه أن يلتزموه، ويُقَيِّدُوا أنفسهم به، ويَسْلُكُوا إليه كُلَّ سبيل، ويُوَظِّفُوا له كُلَّ أسلوب، متمسكين بالحق، سالكين جادَّتَه، ويصيروا مضربَ المثل لكل فرد من المجتمع البشري في كل من أقوالهم وأفعالهم، وتصرفاتهم اليومية، وممارساتهم كلها مع عامة الناس، ومع أعضاء أسرتهم، ومع زملائهم في العمل.

       ومن يُدْرِكْ معنى التواضع بنحو صحيح صادق دقيق، ويَجْنِ ثماره في أعماله وتصرّفاته في الحياة علم يقينًا أنه أسمى الخلال وأنبلها؛ حيث إنّه يجعله يلين لكل أحد من أعضاء المجتمع البشري، ويرفق به، ويَخْفِض جناحَه له، ويستقبله هاشًّا باشًّا، ويلاقيه بوجه طليق، وكيان مُبْتَسِم، ويمنحه وُدَّه، ويعطيه عطفَه، ويَغْمُرُه بلطفه، ويحيطه بأنسه، ويشاركه بألفته، ويدنو إليه بعُمُق قلبه، فيَشْعُرُ كأنه حزءٌ من نفسه؛ فهما قلبان في قالب واحد.

       إن التواضع رأسُ الفضائل، وأساسُ مكارم الأخلاق، والعُمْدَة في تربية النفس البشرية، وتحليتها بالفضائل، وتخليتها من الرذائل؛ فقد قال العلماء: التواضعُ قبول الحق ممن كان. وقال ابن منظور (محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي 630-711هـ = 1232-1311م) في كتابه: «لسان العرب»: التواضع في اللغة: هو التذلل، وتَوَاضَعَ الرجلُ: ذَلَّ وتَرَكَ الاعتراضَ على الحكم. وقال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاض (بن مسعود التميمي اليربوعي أبو علي شيخ الحرم المكي 105-187هـ = 723-803م) وقد سئل عن مدلول التواضع وحقيقته: «أن تخضع للحقّ، وتنقاد له، ولو سمعتَه من صبيّ قَبِلْتَه، ولو سمعتَه من أجهل الناس قبلتَه». وقال عبد الله الرازي (بن محمد أبوبكر نجم الدين الأسدي الرازي المتوفى 654هـ = 1256م): التواضعُ ترك التمييز في الخدمة.

       وهذه الأوصاف التي ذكرها العلماء الصالحون في التعريف بـ«التواضع» تُؤَكِّد أنه مجموع الخصائل والفضائل، فمن يتصفْ به يكن حاملًا للنزعات الفطريّة التي من شأنها أن تُجَنِّبَه التردّي في مهاوي الهلكة والدمار، ومن ثمّ قال الله عزّ وجلّ:

       ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (القصص:83).

       الـمُتَوَاضِعُ حقًّا هو الذي يقدر على الحدّ من غلواء النفس، فلا تَطْغَىٰ به، ولا تميل به إلى العلوّ والاستكبار الذي يمنعه من دخول الجنة، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا قذفتُه في النار»(1).

       وعنه – رضي الله عنه – أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يدخل الجنةَ من كان في قلبه ذرّة من كبر». قال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا. قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»(2).

       وعن عِيَاضِ بن حِمَارِ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إنّ الله أوحى إليّ أن تَوَاضَعُوا حتى لا يَفْخَرَ أحد على أحد، ولا يَبْغِيَ أحد على أحد»(3).

       وقد كان النبيّ –صلى الله عليه وسلم- مثالًا للتواضع والانكسار، وكان يتعامل به مع جميع أمور الحياة في بيته ومع أصحابه وجميع الناس، وجميع معاملاته وعباداته.

       فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: إن كانتِ الْأَمَةُ من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي –صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت(4).

       وعنه – رضي الله عنه – أنه مَرَّ على صِبْيَانٍ فسَلَّمَ عليهم وقال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يفعله(5).

       وقد حَرَّض النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- على التواضع بفعله وقوله معًا، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد اللهُ عبدًا بعفو إلّا عزًّا، وما تَوَاضَعَ أحد لله إلّا رَفَعَه الله(6).

       وعنه – رضي الله عنه – عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «لو دُعِيتُ إلى كُرَاع أو ذِرَاع لأجبتُ، ولو أُهْدِيَ إليّ ذراعٌ أو كراعٌ لقَبِلْتُ»(7).

       وعن أنس – رضي الله عنه – قال: كانت ناقةُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- العَضْبَاءُ لا تُسْبَقُ، أو لاتكاد تُسْبَقُ، فجاء أعرابيٌّ على قَعُودٍ له، فَسَبَقَهَا، فشَقَّ ذلك على المسلمين حتى عَرَفَه، فقال: «حَقٌّ على الله أن لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلّا وَضَعَه»(8).

       حقًّا لقد كان التواضع وصفًا يلازمه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في كل شأن من شؤونه، فكان يتواضع مع المساكين والضَّعَفَة، فعن أبي غالب قال: قلتُ لأبي أُمَامَةَ: حَدِّثْنَا حديثًا سمعتَه  عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: كان حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القرآنَ، يُكْثِر الذكرَ، ويقصر الخطبةَ، ويُطِيل الصلاةَ، ولا يَأْنَفُ ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف، حتى يفرغ من حاجته»(9).

       وقد أَخَذَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- أصحابه – رضي الله عنهم جميعًا – بأن يُوَقِّرُوا كبيرَهم، ويرحموا صغيرهم، ويعرفوا لعالمهم حقَّهم، فعن عُبَادَةَ بن الصامت – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس منّا من لم يُجِلَّ كبيرَنا، ويَرْحمْ صغيرَنا، ويَعْرِفْ لعالمنا حَقَّه»(10).

       إن المتواضع لايفوته أبدًا أن يَبَرَّ بشيوخه، ويرفق بضعفائه، وأن يُوَفِّي العلماءَ حقَّهم من الاحترام وقضاء الحاجة؛ لأنه يعلم أن التكبّر لا يَرْفَع صغيرًا، وأن التواضع لا يَخْفِض كبيرًا. وأكّدت التجربةُ أن الرفق والرحمة ولين الجانب وما إلى ذلك من المعاني الشريفة كلّما عَمَّتِ المجتمع، غَمَرَتْ أفرادَه الألفةُ والاتحاد والانسجام والاتساق والوئام، وصَيَّرته باقةَ سعادةٍ شاملةٍ، وجَعَلَتْه يتسابق إلى الخير ويتطهّر من الشرّ، حيث يصبح الجميع إخوانًا متعاونين وأنصارًا متحابين. وقد كان مجتمع الصحابة مثالًا لهذا المجتمع المنشود، حتى أشاد به القرآنُ الكريمُ فقال:

       ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء ﴾ (الفتح:29).

       وقد غَلَبَ عليهم هذا الوصفُ العظيم الجليل، فلم يُؤْثَرْ عن أحد منهم أنه لم يكن مشتملًا به؛ من ثم وَصَفَهم اللهُ جميعًا دونما استثناء بأنهم رحماء بينهم، والرحمةُ تُلَازِم التواضعَ، والتواضعُ يُلَازِم الرَّحْمَةَ، ولا يتعارض مع التواضع والرحمة أن يكونوا أشدّاء على الكفار، الذين يبغون على أوامر الله ونواهيه، والذين يَجْحَدُون آياته، ويُكَذِّبُون رُسُلَه ويَصُدُّون عن سبيله.

       وما أَحْوَجَنَا نحن المسلمين اليوم إلى أن نكون متواضعين، فنكون متراحمين متحابين متعاونين متحدين، لا يضرّنا كيد الأعداء، ومكر المنافقين، ومؤامرة المغضوب عليهم والضالين، من اليهود والنصارى الذين تماسكوا اليوم ليحاربوا مجتمعين الإسلام والمسلمين، قاتلهم الله، وجعل كيدَهم في نحورهم، وشَتَّتَ شملَهم، ومَزَّق جمعَهم، ودَمَّرَ ديارَهم، وخَرَّبَ بلادَهم، وأنزل بهم بأسه الذي لا يردّه عن القوم المجرمين.

*  *  *

الهوامش:

(1)        أحمد: 7382؛ وأبوداود: 4090؛ وابن ماجه: 4174.

(2)        مسلم: 91. (3)  مسلم: 2865.

(4)        البخاري: 6072.      (5)  البخاري: 6247.

(6)        مسلم: 2588.        (7)  البخاري: 5178.

(8)        البخاري: 2872.      (9) المعجم الكبير للطبراني: 8103.

(10)      أحمد: 22755.


(*)     المتخرج من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند، الهند، والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى  1438 هـ = فبراير2017م ، العدد : 5 ، السنة : 41

Related Posts