الفكر الإسلامي
بقلم: الدكتور رشيد كهوس (*)
وردت لفظة «الجاهلية» في القرآن الكريم أربع مرات في أربع آيات تحيط بمفهومها وتجلّيه، جامعة وشاملة لمعانيها.
– الأولى: في قوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ﴾ (آل عمران:154).
– الثانية: في قوله عز من قائل: ﴿أَفَحُكْمَ الْجٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة:50).
– الثالثة: في قوله جلّت عظمته: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ (الأحزاب:33).
– الأخيرة: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجٰهِلِيَّةِ﴾ (الفتح:26).
إذاً فللجاهلية أربع خصائص وردت في الآيات السابقة:
-الخصِّيصَة الأولى: «ظن الجاهلية»: فراغ في العقيدة، وفقدان الثقة بالله – جلّ وعلا-، وجنوح عن الحق، وغيرها من الأدواء.
فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن أبا طلحة – رضي الله عنه- قال: «غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم بدر، قال أبو طلحة: فكنت فيمن غشيه النعاس يومئذ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه، والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم، وأخذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية أهل شك وريبة في أمر الله» (رواه ابن حبان في صحيحه).
– الخصّيصة الثانية: «حكم الجاهلية»: الاستبداد والطغيان والظلم والسَّفاء والطيش والتهور، والحكم بغير ما أنزل الله، وبيع الذمم، وشراء الضمائر، وسيادة دين الانقياد.
– الخصّيصة الثالثة: «تبرج الجاهلية»: فالخصائص السابقـة جاءت في صيغة الاستنكار. أما الخصيصة الثالثــة «تبرج الجاهلية» فجاءت بنهي مباشـر وخطاب مباشـر، وهنـا إشارة واضحة، إلى مكانة النساء ومهمتهن في إصلاح المجتمع، فصلاح النساء هو القاعدة الأولى في بناء المجتمع الصالح، وهو المنطلق الضروري لاعتقال الجاهلية وسد منابعها وخنقها والقضاء عليها في مهدها.
أما تبرج الجاهلية فقد حذر منه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا؛ قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ(1) الْبُخْتِ(2) الْـمَائِلَةِ(3)، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» (رواه الإمام مسلم).
– الخصيصة الأخيرة: «حمية الجاهلية» (أم الفتن)، النُّعَرَة القبلية، والعصبية، والعنف، والقومية، والتمالؤُ على الباطل، وهي فتنة عظيمة. ولهذا حذرنا منها من لا ينطق عن الهوى: فعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» (رواه الإمام مسلم).
وخلاصة المرام في تحقيق المقام: هذه زورة خاطفة ونظرة موجزة حول معاني الجاهلية في القرآن الكريم والسنة النبوية. أوردتها هنا لنقطع صلتنا بها، ونربط صلتنا بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، وكتابه المبين؛ تلاوةً وحفظًا واستماعًا وتدبرًا وتطبيقًا، ونقتدي بسنة نبيه الكريم سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، ونتعلق بشخصه الكريم –صلى الله عليه وسلم- في كل صغيرة وكبيرة وصدق الله القائل في محكم التنزيل: ﴿قُلْ يٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمٰتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (سورة الأعراف: 158).
* * *
الهوامش:
(1) أَسْنِمَة: مفردها سَنامُ؛ وسنام البعير والناقة أَعلى ظهرها.
(2) سورة البخت: واحدتها البختية، وهي الناقة طويلة العنق ذات السنامين.
(3) شَبَّه النبي ( رؤُوسهنَّ بأَسْنِمة البُخْت لكثرة ما وَصَلْنَ به شُعورَهنَّ حتى صار عليها من ذلك ما يُحَرِّكها خُيلاءً وإعجابا بالنفس واستجابة للمطامح والأهواء.
* * *
(*) أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الآخر 1438 هـ = يناير 2017م ، العدد : 4 ، السنة : 41