اللغةُ العربيةُ تَحْتَلُّ المرتبةَ الثانيةَ بالنسبة إلى الدخل المادّيّ الكبير

إشراقة

       كان حبُّ النبي الحبيب محمد المصطفى –صلى الله عليه وسلم- هو المبعث الوحيد على اندفاعنا إلى تعلم اللغة العربيّة، كما كان هذا الحبُّ الصافي المبارك هو العامل الوحيد الذي حَفَزَ السَّلَف الكرام إلى إمضاء أعمارهم في خدمتها الشاملة، التي حَسِبُوها حقًّا خدمةً صميمةً للدين؛ لكونها لغةَ الكتاب الإلهي الأخير الذي نزل على النبي الخاتم محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- بدستور الدين الذي بُعِثَ به إلى الناس كافةً ليوم القيامة، ولكونها لغة النبي –صلى الله عليه وسلم- التي بها نَطَقَ منذ أن فَتَقَ اللهُ تعالى لسانَه بالنطق، وبها شَرَحَ الدينَ الذي جاء به من عند ربّه لصحابته الذين آمنوا به واتَّبَعُوه عليه ونقلوه إلى من بعدهم سالمًا غيرَ مخدوش كاملًا غيرَ منقوص، وبها تكلّم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي والبدريون والمبايعون له –صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة وجميع صحابته – رضي الله عنهم – الذين لم يُؤْثَرْ عن أحد منهم أنّه نَطَقَ بغيرها ولو كان من أبناء غيرها؛ لأنه غَارَ على لغة حبيبه –صلى الله عليه وسلم- بعد ما تَعَلَّقَ به –صلى الله عليه وسلم- وسَعِدَ بصحبته مؤمنًا، راضيًا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبه –صلى الله عليه وسلم- نبيًّا.

       وهذا السندُ الشريفُ المُشَرِّف هو لذي كان يستند إليه ويُحيل عليه أساتذتنا لدى تحريضنا على تعلم اللغة العربية والاجتهاد المطلوب في كسبها، وما كانوا يُحيلون على غيره في حال، فكانوا يقولون: تعلّموا اللغة العربية، لأنها لغة حبيبنا وسيدنا ونبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- ولأنها لغة الكتاب الإلهي الأخير: القرآن العظيم الذي يتضمّن مبادئَ الدين وأحكامَه. وكلما كانوا يجدون خلال تدريس أي كتاب باللغة العربية في أي مادة، كلمةً لافتة أو صياغةً جميلةً أو فقرةً رائعةً تأخذ بحُجَزِ القلب، كانوا يقولون لنا: ما أَحْسَنَها فقد نَطَقَ بها سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- في حديث، وكانوا يتلون الحديثَ علينا؛ ونطق بها سيدنا أبوبكر – رضي الله عنه – في قوله كذا بمناسبة كذا؛ ونطق بها عمر – رضي الله عنه – في خطبته بمناسبة كذا؛ ونطق بها عثمان أو علي – رضي الله عنهما – بمناسبة كذا. وكانوا يَسْرُدُون علينا أقوالَهم تلك التي تكون قد وَرَدَتْ فيها الكلمةُ أو الفقرةُ التي كانوا يَحُثُّوننا على التقاطها واستظهارها واستخدامها في نصّنا الخطابي أو الكتابي.

       ولم يكن تحريضُهم لنا على الاهتمام بالعربية يقتصر على الكتب التي كانوا يُدَرِّسُوننا إيّاها لتعليم العربية ومبادئها، وإنما كانوا ينتهزون كُلَّ مناسبة لترغيبنا فيها وحَضِّنا على العناية اللائقة بها، حتى لدى تدريسهم لناكتبًا في الفقه والحديث، والأصول والتفسير، والتجويد والسيرة، والتاريخ والإفتاء، والقضاء والدعوة؛ فقد كانوا حريصين جدًّا على أن نَتَبَنَّىٰ اللغةَ العربيةَ في حياتنا الدراسية والعلمية ونكون حاملي لوائها والداعين إليها المسلمين جميعًا ولاسيّما طلابَ علوم الدين الذين إنما يتعلمونها من خلال الكتب التي كلُّها أُلِّفَت باللغة العربية، والمدارسُ والجامعات التي تتكفل تعليمَ علوم الدين إنما تُقَرِّر لتدريس علوم الدين الكتبَ العربيةَ وحدها، علمًا منها بأن الدين إنما نزل باللغة العربية على النبي العربي الذي نزل عليه كتابُ ربّ العالمين باللغة العربية، وعَرَضَ الدينَ كلَّه على الناس باللغة العربية، وانتقل إلينا باللغة العربية، وشرائعُه كلُّها مُدَوَّنَة باللغة العربية؛ فالدينُ فهمُه فهمًا صحيحًا سليمًا دقيقًا إنما يَتَوَقَّف على تعلّم وإساغة اللغة العربية واستيعاب رموزها ودقائقها وأسرارها.

       ومن ثم كان الأئمة المجتهدون كلهم بارعين في العربية براعةً كاملةً، فكانوا مستعيبين لأحكام الدين وشرائعه، قادرين على استنباط الأحكام من نصوص الكتاب والسنة. وكان جميع العلماء الأعلام الذين دَوَّنُوا الأحكام والشرائع، وأَلَّفُوا فيها الكتب، وتركوا لنا هذا التراث الهائل الضخم في الفقه وأصوله، الذي عليه نتكئ لتعلّم وتعليم أحكام الدين، فضلًا عن التراث المماثل والكمّ المتراكم في الحديث وشرحه، والتفسير وأصوله، والتجويد والقراءات، والنحو والصرف، والسيرة والتاريخ، والتراجم والمعاجم، والهندسة والحساب، والسياحة ومبادئ العلم الحديث، والطب والجراحة، والصيدلة والتنجيم، حتى المنطق والفلسفة، والجغرافية والجيولوجيا، وما إلى ذلك من العلوم الكثيرة التي كان المسلمون رُوَّادًا فيها؛ فهم الذين وَضَعُوا أُسُسَها ورَسَّخُوا قواعدها وشَيَّدوا منارتَهاالتي بضوئها اسْتَضَاءَ الغربُ بعد قرون طويلة ظِلْنَا فيها نحن القادةَ في جميع مجالات الدين والدنيا، وكنا نحن السادةَ وكان العالم كله تَبَعًا لنا يسير خلفَنا، وإن نحن أَوْمَأْنَا إليه وَقَّفَ دونما تردّد.. كان هؤلاء العلماء كلهم يحملون عن اللغة العربية هذا التصوّرَ الذي ذكرناه فيما أعلاه وهذه النظريةَ التي تحدثنا عنها في السابق، وكلهم كانوا يَتَعَبَّدُون اللهَ بخدمة اللغة العربية التي أَلَّفُوا بها كُتُبًا يُعَوِّل عليها العالمُ في تلك العلوم المشار إليها وغيرها.

       وَرَدْنَا الجامعةَ الإسلاميةَ الأم في شبه القارة الهندية: دارالعلوم/ديوبند ونحن نحمل عنها هذا التصور المبارك، وننظر إليها هذه النظرة الـمُقَدَّسَة؛ فلم نكن نعرف أنها تُتَعَلَّمُ من أجل كسب المال ووسائل المعيشة، حتى سمعنا بالجامعة لأوّل مرة في حياتنا أن هناك دولة عربية باسم «المملكة العربية السعودية» – فلم نعرف هذا الاسم من قبل وإنما كنا نعرف «الحجاز» و«بلاد الحرمين الشريفين» – ودولا أخرى عربية تلاصقها أو تجاورها يَقْصِدها الناسُ لكسب لقمة العيش؛ وأن اللغة العربيةُ تُكْسَب اليوم للتوظف والعمل في هذه البلاد التي أَثْرَتْ بفضل النفط الذي يحتاج إليه العالمُ كلُّه؛ وأن هناك جامعات رسمية عصرية تقوم بتعليم اللغة العربية طُلَّابَها لكي يَسْهُلَ عليهم التوجّهُ إلى تلك البلاد العربيّة للعمل بها مُوَظَّفِين أو عُمَّالًا.

       فعلمنا أن اللغة العربية تُسْتَخْدَمُ استخدامًا مَادِيًّا بعد ما كانت تُخْدَم على أساس الدين وحبّ الله تعالى ورسوله –صلى الله عليه وسلم- وحده. ومع مرور الأيام علمنا أنّها وسيلةُ تَكَسُّب قويّة مُغْرِيَة جدًّا؛ وأن من يُتْقِنها يُفْتَرض أنه سيكون مضمونَ المصير بالنسبة إلى الدخل المادي، ومغبوطاً بين أقرانه الذين لم يكسبوها، فلم يتمكنوا من نيل ما ناله هو من الثروة الوفيرة.

       ومضت الأيام وبدأ الناسُ يتنافسون في تعلّمها تَتَلَمَّظُ شِفَاهُهم للحَظِّ السعيد الذي يُحَالِف من تَعَلَّمُوا العربيةَ عن إتقان، فبدأوا ينالون فيها الدكتوراه في جامعات رسميّة في الهند وخارجها يضعون نُصْبَ عينيهم مُرَتَّبًا كبيرًا، أو عملًا يُدِرُّ لهم المال الموفور، ويكفل لهم المكان المادي المرموق.

       وأمثالُ هؤلاء يستبشرون جدًّا عند ما يتسامعون بنَبَإ يقول: إن هناك وظائف شاغرة رفيعةَ المستوى تَنْتَظِرُ مَنْ يُتْقِنُون العربيةَ، ويحملون خِبْرَةً في الترجمة منها وإليها، أو لديهم مَقْدِرَة للكتابة والنطق بها، أو يحملون شهادة دكتوراه أو دبلوم فيها من جامعة رسمية موثوق بها لدى الجهات التي لديها هذه الوظائف الـمُعْلَنُ عنها.

       وإليهم نُوَجِّه هذا النبأ الذي يُفِيد: أن اللغة العربية هي اللغة الثانية على مستوى العالم لنيل الرواتب الكبيرة والرقيّ المادي المرموق؛ فقد قامت شركةٌ بريطانيةٌ بإجراء تحليل أكثر من مليون وظيفة في سوق الأشغال اسْتَهْدَفَ التوصلَ إلى اللغات المطلوبة لشتى الوظائف بعد اللغة الإنجليزية، أي أنه ماهي اللغة التي العلمُ بها يَضْمَن الرقيَّ العاجل بالنسبة إلى المنصب والراتب، وقام التقرير عن هذا التحليل بإجراء التصنيف بين تسع لغات عالميّة تَعَلُّمُ إحدى منها إلى جانب اللغة الإنجليزية يَضْمَنُ زيادةً مُلْفِتَةً في الرواتب.

       والعجيبُ الطريفُ في التقرير الذي أَعَدَّتْه شركة «آدزونا» Adzuna البريطانية أن اللغة العربية احْتَلَّتِ المرتبةَ الثانيةَ بين اللغات التسع المطلوبة للرقي المادي السريع والزيادة العاجلة في الرواتب إلى جانب العلم باللغة الإنجليزيّة؛ فالذين يُتْقِنُون العربيةَ إلى الإنجليزية تنتظرهم وظائفُ ذاتُ رواتب كبيرة، وهؤلاء ينالون من الرواتب أضعافَ ما يناله زُملاؤُهم الذين ينطقون بالإنجليزية وحدها.

       ومهما كان هذا التقرير عن شأن اللغات يتصل بسوق الأشغال البريطانية، فإنه تقرير هو الأوّل من نوعه الذي يُؤَكِّد أهميةَ اللغات المطلوبة في أسواق الأشغال المركزية ولدى الشركات ورجال الأعمال على مستوى العالم. ويفيد التقريرُ أنّ المرتبة الأولى بين اللغات التسع المطلوبة مُضَافَةً إلى اللغة الإنجليزية تحتلها اللغة الألمانية؛ حيث إن المُتْقِنَ لكلتا اللغتين الإنجليزية والألمانية ينال في الأغلب 34534 جنيهًا ما يُعَادِل 45 ألف دولار أميريكي، وتليها اللغةُ العربيةُ التي تَحْتَلُّ المرتبةَ الثانيةَ بين اللغات التسع الإضافية بعد اللغة الإنجليزية، ممّا يَدُلّ أنها – اللغة العربية – أكثر مطلوبية حتى من اللغتين الفرنسية والإسبانية الأوروبيتين، ولذلك إن المتقن للغتين الإنجليزية والعربية مُعَدَّلُ راتبه في الأغلب هو 34122 جنيهًا، ما يُعَادِل أكثر من 44 ألف دولار أميريكي. ويقول التقرير: إن هناك في بريطانيا يوجد من الوظائف ما يبلغ 1113 وظيفة يجب أن يتوفر في المتقدم بالطلب للاختيار لها الشرط الأساسي وهو إتقانه للنطق بالعربية إلى اللغة الإنجليزية. ويفيد التقرير أن الفرنسية تَحْتَلُّ المرتبةَ الثالثةَ، على حين يُرَىٰ أنها هي اللغة الثانية في الأهمية بعد الإنجليزية على مستوى العالم؛ لكن التقرير يُؤَكِّد أن المُتْقِنَ للنطق بالعربية والألمانية بسلاسة يفوق الناطق بالفرنسية بسلاسة في كل من الزيادة في الراتب والرقي في المنصب.

       والمرتبة الرابعة تَحْتَلُّها الهولنديّةُ، والمرتبةُ الخامسةُ تَحْتَلُّها الإسبانيّةُ، والمرتبةُ السادسةُ تَحْتَلُّها اليابانية، والمرتبةُ السابعةُ تَحْتَلُّها الروسيّةُ، والمرتبةُ الثامنةُ تَحْتَلُّها الإيطاليةُ والمرتبةُ التاسعةُ الأخيرة تحتلها الصِّينيَّة. (صحيفة «راشتريه سهارا» الأردية اليومية، دهلي الجديدة، العدد: 6148، السنة: 17، السبت: 1/أكتوبر2016م الموافق 28/ ذوالحجة 1437هـ ، ص:12، العمود: 2، 3، 4).

       إن المحب للغة العربية صادرًا عن حبّه لنبيه وحبيبه محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- الذي يُتْقِنها نطقًا وكتابةً، تَعَبُّدًا واحتسابًا للأجر لدى ربه الكريم الشكور، لا يحتاج إلى مُغْرِيَات ماديّة؛ لكنه إذا انساق إليه الدخلُ الماديُّ الكبيرُ أوالصغيرُ عفوًا عن طريقها، فلا بأسَ بذلك؛ لأن الله العليم الحكيم جَمَعَ له بين الحسنة الدنيوية العاجلة والحسنة الدينية الآجلة، فما ناله عن طريقهامن أجر مادّي مضافًا إلى أجره الأخروي الذي ذخره الله له ليوم الحساب والجزاء، فهو مكافأة عَجَّلَها الله له لإخلاصه وإحسان نيته لدى تعلمه للغة العربية؛ حيث تَوَفَّرَ على كسبها بدافع الحبّ لله الذي اختارها وعاء لكتابه الأخير الخالد، ونبيه العربي الذي نزل عليه فعَلَّمَه الـمُخَاطَبِين الـمُبَاشِرِين به: صحابته – رضي الله عنهم – بالعربية الْفُصْحَى الْبُلْغَىٰ التي لم ينطق بمثلها أحد قبله ولا بعده، وتركها لنا نحن المسلمين تراثًا مقدسًا لنستحق ثوابَ الله الموفور بخدمتها بأي أسلوب من الأساليب. وقد لَقَّنَ الله تعالى في كتابه ذلك أن نَدْعُوَه بأن «رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً و فِي الأَٰخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (البقرة:201).

(تحريرًا في الساعة التاسعة والربع ليلًا من الليلة المتخللة بين الخميس والجمعة: 25-26/المحرم 1438هـ الموافق 27-28/أكتوبر 2016م)

                        أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الآخر  1438 هـ = يناير 2017م ، العدد : 4 ، السنة : 41

Related Posts