إشراقة
لقد دعا الإسلام إلى إخلاص العمل لله دعوةً قويَّةً، وأَكَّدَ تأكيدًا لا مزيدَ عليه على إحضار النيّة واحتساب الأجر ومراقبة الأعمال؛ حتى لا يشوبها رياءٌ، ومحاسبة النفس كلَّ لحظة؛ حتى لا تَهْوَىٰ – النفسُ – من ورائها – الأعمال – غرضًا من أغراض الدنيا، وتظلّ – الأعمال – مُنَزَّهَةً من شوائبها، خالصةً لله العلي الكبير.
فقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة:5) وقال تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الحج:37) وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:162).
وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الأعمالُ بالنّيات، وإِنّما لكل امرئ مانَوَىٰ؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدنيا يُصَيْبُها أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فهجرتُه إلى ما هَاجَرَ إليه» (البخاري:1؛ ومسلم:1907).
وقال –صلى الله عليه وسلم-: «إنّ اللهَ لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صُوَرِكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (مسلم:2564).
وقال –صلى الله عليه وسلم- عندما سُئِلَ عن الرجل يقاتل شجاعةً ويقاتل حميةً ويقاتل رياءً، أَيُّ ذلك في سبيل الله؟: «من قَاتَلَ لتكون كلمة اللهِ هي العُلْيَا فهو في سبيل الله» (البخاري:123؛ ومسلم:1904).
إنّ الله أغنى الشركاء، فلا يقبل أن يُشْرِك أحدٌ أحدًا في الأعمال التي يقوم بها لله وتَعَبُّدًا له تعالى؛ فمهما كانت الأعمالُ كثيرةً جليلةً لا يقبل منها اللهُ إلّا ما كان خالصًا لوجهه الكريم ويَرْفُضُ ماسِوَاه. قد يأتي اللهَ يومَ القيَامة من يكون لديه جِبَالٌ مرتفعة شامخة من الأعمال؛ ولكنّه يعود مفلسًا، لاينفعه ذرّةٌ منها؛ لأنه لم يُخْلِصها لله وإنّما أَشَابَها الرياءَ أو الغرضَ.
حتى إنّ العلمَ الذي كَسْبُهُ فضيلةٌ كبيرةٌ، وأشادتْ بطلبه آياتٌ عديدةٌ وأحاديثٌ كثيرةٌ، إذا كَسَبَه أحد – ولا سيّما إذا كان من العلوم الدينية التي يُبْتَغَىٰ بها وجهُ الله تعالى – لينال بها الحُظُوظَ الدنيويةَ، فلن يقبله الله، وإنما يرفضه رفضًا شنيعًا، حيث يجعله – كاسب العلم الديني لطلب الدنيا – لا يجد عَرَفَ الجنة؛ فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: «من تَعَلَّمَ علمًا مما يُبْتَغَىٰ به وجهُ الله عزّ وجلّ لا يتعلّمه إلّاليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يجد عَرَفَ الجنة يوم القيامة» (أبوداود: 3664).
على حين إنّ طالب العلم وَرَدَت أحاديثُ عديدة تُثْنِي عليه ثناءُ عاطرًا، وتُعَدِّد فضائلَه، وتُقَرِّظُه تقريظًا بالغًا تَتَحَلَّب له أفواهُ من لم يَسْعَد بالتعلّم وبَقِيَ أُمِّيًّا، ويَغْبِطُه غَبْطًا لا نهايةَ له؛ فقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «من خَرَجَ في طلب العلم، فهو في سبيل الله حتى يرجع» (الترمذي: 2647، وقال: حديث حسن). وقال –صلى الله عليه وسلم-: «فَضْلُ العالمِ على العابد كفَضْلِي على أدناكم» وأضاف –صلى الله عليه وسلم- قائلاً: «إنّ الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النَّمْلَةَ في جحرها، وحتى الحوتَ، ليُصَلُّون على مُعَلِّمِي الناسِ الخيرَ» (الترمذي: 2685، وقال: حديث حسن). وقال –صلى الله عليه وسلم-: «ومن سَلَكَ طريقًا يلتمس فيه علمًا، سَهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة» (مسلم:2699) وقال –صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات ابنُ آدمَ، انقطع عملُه إلّا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالحٍ يدعو له» (الترمذي: 1376). وقال –صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا ملعونةٌ وملعونٌ مافيها، إلّا ذكرَ اللهِ تعالى، وما والاه، وعالمًا أو مُتَعَلِّمًا» (الترمذي: 2322، وقال: حديث حسن) وقال –صلى الله عليه وسلم-: «من سَلَكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا، سَهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنة، وإنّ الملائكةَ لَتَضَعُ أجنحتَها لطالب العلم رضًا بما صَنَعَ، وإن العالم لَيَسْتَغْفِر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتانُ في الماء، وفَضْلُ العالمِ على العابدِ كفَضْلِ القَمَر على سائر الكواكب، وإن العلماء وَرَثَةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثُوا العلمَ؛ فمن أخذه أخذ بحظّ وافر» (أبوداود: 3641؛ والترمذي: 2682).
وقد قال الله عزّ وجل – ومن أصدق من الله قيلاً –: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر:9) فقد صَرَّحَ تعالى أن العلماء يفوقون الجُهَّالَ على الإطلاق، وليس بوسعهم – الجهال – أن يَسْتَوُوا معهم، ويقفوا في صفّهم، وينزلوا منزلتَهم في أي حال، وقد نصّ – تعالى – على أن العلماءَ يفوقون الجهالَ بدرجات كثيرة، فقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة:11) كما نَصَّ اللهُ تعالى على أن العلماء هم الذين يَخْشَوْنَهُ تعالى؛ لأنهم هم الذين يَتَأَهَّلُون ليُدْرِكُوا صِفَاتِه وعظمتَه وكبرياءَه وجبروتَه و وحدانيته وتَفَرُّدَهُ بالعبادة والعبودية، وكونَه الواحدَ القهّار، والعزيز الغَفَّار، ومُكَوِّرَ الليلِ على النهار، وأَنَّ الجِنَّ والإِنسَ لم يُخْلَقُوا إلّا ليَعْبُدُوه وحده لا شريك له، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر:28).
إن العلم الذي يَحْظَىٰ عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل العظيم ولا سيّما العلم الديني الذي تُعْرَفُ به أوامرُ الله ونَوَاهِيه ومَرَاضِيه ومَسَاخِطُه وتُعْرَفُ به تعليماتُ نبيه –صلى الله عليه وسلم- وقد عَبَّرَ عنه الحديثُ النبويُّ بـ«العلم الذي يُبْتَغَىٰ به وجهُ الله عزّ وجلّ» يتعلّمه اليوم كثيرٌ من الناس، ليُصِيبُوا به الأَعْرَاضَ الدنيوية، والأغراضَ المادِّيَّة، ويَحْظَوْا به بالجاه والمكانة، ويكسبوا به المالَ الكثيرَ، وكل وسيلة من الوسائل الحديثة المتطورة التي تُنَعِّم الحياةَ الدنيا، من الأرصدة الوفيرة في المصارف، والقصور الشامخة – في الأرياف ذات المناظر الخَلاَّبة، وفي المدن الراقية الكبيرة التي تتوفّر فيها جميع الملذات والمطايب التي تَرْغَبُ فيها النفسُ وتَتَمَتَّعُ بها العينُ – والسيّارات الفارهة، والكثرة الكاثرة من الأثاث والرياش، الذي يَسُرُّ الناظرين ويُغْرِي المحرومين.
إنّ هناك سِبَاقًا محمومًا اليومَ بين العلماء بالعلوم الدينية التي يُبْتَغٰى بها وجهُ الله تعالى، في سبيل الترامي على الأسباب المادية، وتحقيق الثروة الفائضة، والإكثار من أسباب التَّنَعُّم الزائدة، لحدّ أنَّه يبدو أنّهم لهذا وحده تَعَلَّموا علومَ الدين والشريعة، ولهذا وحده أَمْضَوْا الفرصةَ الثمينةَ من أعمارهم – وهي في الأغلب فرصة ما بين عمر الرشد وعمر 25 من مرحلة الشباب – في المدارس والجامعات التي تَتَكَفَّل تعليمَ العلوم الدينية والشريعة الإسلاميّة، حتى يُخَيَّل إلى عامة الناس أن نشاطاتهم في الحياة كلّها تنحصر في هذا الهدف وحده، فلا هدفَ لهم سِوَاه؛ لأنّهم له وحده يَرْكُضُون على شارع الحياة، وإليه يَسْعَوْن، وله يُخَطِّطُون، وفيه يُفَكِّرُون، وفي سبيله يَتْعَبُون، ومن أجله يَسْلكُون كلَّ طريق، ويَتَّصِلُون بكلِّ من يرونه يُسَاعِدُهم عليه، وينفعهم فيه، ويُوصِلُهُم إليه. إن مواقفهم في الحياة، كلّها تُؤَكِّد أنه لا فرق بينهم وبين أبناء الدنيا من التُّجَّار ورجال المال والأعمال، والـمُثَقَّفِين بالثقافة العصرية الذين إنما يتعلمونها لإشباع المعدة وكسب المادة، ومن إليهم من ممارسي الوظائف والـمِهَن والحِرَف والصناعات التي إنمايشتغلون بها لتحسين دنياهم ورفع مستواهم المعيشي والاقتصادي. إن الناظر إلى هؤلاء العلماء لا يكاد يُفَرِّق بينهم وبين عامّة الناس من الذين لم يعرفوا شيئًا من الدين والشريعة، فيسيء بهم الظنَّ، والتالي بكلِّ عالم ديني، ويقول في نفسه: إنّ المعرفةَ بالدين وأحكامه هي الأخرى لا تُصْلِح الإنسانَ، ولا تُزَهِّده في الدنيا، ولا تُرَغِّبه في الآخرة، ولا تجعله يُؤْثِر ما يتعلق بالدين على ما يتعلّق بالدنيا، فيكتفي من الثاني بالقدر الذي يعيش به الحياةَ، ويَصْلُحُ به للعبادة، ويتعلق به بالله، ويَتَحَبَّب إليه، ويَطَّرِحُ على عَتَبَتِه، ويقوم بتعلم دينه وتعليمه الناسَ، فيكون شامًّا بين أفراد المجتمع، ويمتاز عنهم جميعًا في السيرة والسلوك، والشِّعَار والدِّثَار، فيُمَثِّل الدّينَ الذي تَعَلَّمَه، والشريعة التي تَخَصَّصَ فيها، والوَسَط الديني الدعوي المدرسي الذي انْتَمَىٰ إليه وعُرِفَ به، وحَظِيَ به بالاعتبار والوقار.
إنّ تَرامِيَ العالم الديني على الدنيا، وحرصَه البالغَ عليها، وركضَه الدؤوبَ السريعَ على الطريق الواصل إليها، وتَظَاهُرَه بإيثارها على الدين وعلى ما يتعلّق به من الوظائف والمسؤوليّات، فتنةٌ هائلةٌ؛ بل دَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ لعامّة الناس؛ حيث إنهم يعودون يظنّون عندما يجدون علماءَ الدين مُتَرَامين على الدنيا وزخارفها، أنه لا مَلْجَأَ لهم في هذه الدنيا يلجؤون إليه إذا أَلَـمَّ بهم مُلِمَّةٌ فيما يتعلق بالدين، لأنهم يجدون العلماء بالدين يحرصون على الدنيا ونعيمها الزائل مثلهم – عامة الناس – وربما أكثر منهم؛ فهم – العلماء هؤلاء – لا يُمَثِّلُون الدين بمعناه الحقيقي، ولايقدرون على التأثير في جماهير المسلمين الذين يعتقدون أن العلماء بالدين ينبغي أن يكونوا أرفع مستوى في التزام الدين والزهادة في الدنيا وزخارفها من دَهْمَاء المسلمين.
سمعتُ عالـمًا دينيًّا كبيرًا كان مثالاً يُحْتَذَىٰ في الصلاح والتقوى والزهد والورع إلى كونه داعيةً ذا حُنْكَة وحِكْمَة يقول في كثير من خطاباته الدعوية والفكرية ومجالسه العامة: إنّه يجب أن يوجد في الأمة دائمًا عددٌ لاباس به من العلماء الصالحين الزاهدين الذين إذا رآهم عامّةُ المسلمين، قالوا: حَقًّا إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يُوَرِّثْ دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثَ العلمَ والدين. وكان يقول مضيفًا: إن تَهَرُّعَ العلماء والدعاة إلى الأسباب المادية والمال والثروة والتمتع بالملذات الدنيوية فتنةٌ لعامّة المسلمين لا تَعْدِلُها فتنةٌ ولا يمكن الخلاص منها، إنها قد تُؤَدِّي إلى الارتداد عن الدين، وعلى الأقلّ إلى الاستخفاف بالدين وما يتصل به من الشعائر والمشاعر، والأحكام والشرائع، ومن يُمَثِّلُونَه من العلماء والدعاة والصالحين، وما يُتَصَوَّر من مراكزه من المدارس والجامعات والمنظمات والجمعيّات الإسلامية والجماعات الدينية والدعوية.
تَرَامِي عامَّةِ المسلمين على الدنيا لا يُمَثِّل أَيَّ فتنة لأي من الناس، لأنهم يَظُنُّهُم الناسُ من أبناء الدنيا الذين لاهَمَّ لهم إلّا كَسْبُ وسائل التمتع بالحياة بكل مايستطيعونه. أمّا العلماء بالدين فإنّ النّاس يرون فيهم أسوةً للحياة النبوية، الزاهدة في الدنيا، الراغبة في الآخرة، المكتفية من الدنيا بما يُقِيمُ أَوَدَ الظهر ويُبْقِي على الحياة، فإذا ما يرونهم يَرْتَمُون عليها – الدنيا والوسائل المادِّيَّة –ارتماءَ الفراش على النور ويَنْقَضُّون عليها انقضاضَ الجَرَادِ على الزرع؛ فهم لا يُسِيْئُون الظنَّ بهم وحدهم، وإنما يُسِيئُونَه بالدين الذي يُمَثِّلُونَه – إذ لم يَقدر على صياغتهم في القالب المطلوب من الصلاح والزهد والاتصال الصادق بالله العلي الكبير المتعال – والرسالة الدينية التي يَتَبَنَّوْنَها، والدعوة التي يدعون بها، والأوساط الدينية التي يَنْتَمُون إليها، والأحكام والشرائع الدينية التي يُرَكِّزُون على التزامها، والأسوة الدينية المثالية التي يَحْرِصُون على أن يأخذ بها الناس.
ينبغي أن يشعر العلماء بالدين بالمسؤولية الْـمُلْقَاة عليهم حَقَّ الشعور، ويجب أن يكونوا على مستواهم الممتاز السامي، فلا ينزلوا عنه في حال من الأحوال قِيْدَ شعرة، حتى تظلّ كلمتُهم مسموعةً، وأوامرُهُم مُتَّبَعَةً، ودعوتُهم مُسْتَجَابَةً، ووقارُهم مُرَاعًى، ومكانتُهم مُقَدَّرَةً، وحياتُهم مثاليّةً مُحْتَذَاةً يُهْرَعُ جماهيرُ المسلمين إلى محاكاتها.
(تحريرًا في الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء: 10/المحرم 1438هـ الموافق 12/أكتوبر 2016م)
أبو أسامة نور
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1438 هـ = ديسمبر 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 41