دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ/ حامد الإدريسي
زائر خفيف الظل كثير الهدايا سريع الارتحال، يأتيك وقد أنقضت ظهرك الذنوب، وأثقلت كاهلك المعاصي، وسودت صفحاتك الآثام، فينصرف عنك وقد وُضع عنك وزر عام، ومحيت عنك ذنوب سنة كاملة، وغفر لك ما اقترفت يداك حولا كريتًا، فتدخل على السنة الجديدة جديدًا، وتقبل على ربك سعيدًا.
عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: «ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر، يعني رمضان» متفق عليه.
وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عليه… الحديث»[1].
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: «يكفر السنة الماضية» وفي رواية: «… وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»[2].
فمن الذي يرفض هذا العرض الكريم، ومن الذي لا يريد هذا الأجر مقابل صيام يوم واحد، عجبًا لك والله يا ابن آدم، يجرك ربك إلى الجنة جرًّا، ويأخذ بحجزتك عن النار أخذًا، يدعوك في كل موسم، ويفتح لك باب التوبة والمغفرة في كل حين ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد/21] ، أذنبت ثلاث مئة يوم، يكفرها لك بصوم يوم واحد، أي كرم هذا! وأي رحمة هذه! إن ربكم رحيم ، من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشرًا إلى سبع مئة ضعف ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عمل بها كتبت»[3].
لا نتحدث هنا عن فريضة يأثم الإنسان بتركها، أو واجب يعاقب على التقصير فيه، لكن العاقل متيقظ، والحريص منتبه، وطالب الجنة مشمّر.
إن من لطف الله تعالى بعباده، أنه لم يجعل العام علينا سرمدًا متصلًا، طبقة واحدة، وأيامًا متكررة، بل داخل بين المواسم، وفاضل بين الأيام، لينشط الخامل، وينتبه الغافل، ويتذكر المعرض، فما إن ينتهي الحج أو يكاد، حتى يلوح للمسلم شهر الله الحرام، أول الأشهر الحرم التي قال الله عنها: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتٰبِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمٰوٰتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْـمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ﴾ [التوبة/26].
ومحرم أول هذه الأشهر الأربعة التي نهانا الله أن نظلم فيها أنفسنا بأنواع الظلم والشرك والذنوب، وقد نهينا عن الظلم في كل الشهور، لكن التأكيد على النهي في هذه الأشهر دليل على عظمتها ومكانتها عند الله.
فإلى كل مقصر، وإلى كل مذنب، وإلى كل نادم، أبشر فقد جاءك الفرج، واحمد الله فقد آذنت ذنوبك بالرحيل، فإن أنت بلغت هذا اليوم، ثم وفقك الله لصيامه، فاعلم أنه ما بلغك إلا ليعطيك، وما وفقك إلا ليثيبك، وما أعانك إلا ليكرمك، فاحمد الله المبتدئ عليك بالنعمة، وتأكد أن توفيقه لك دليل القبول إن شاء الله: ﴿لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْـمُهٰجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة/117-118] فبتوبته عليك يهديك للتوبة فتتوب، ثم يقبلها منك فيتوب عليك، نسأل الله من فضله.
وإن أنت بلغت هذا اليوم، لكن ضعفت نفسك عن الصوم، ووجدت من قلبك إعراضًا عن العبادة، وتهاونًا في الطاعة، فصام غيرك وأفطرت، وأطاع غيرك وما أطعت، وأسرع غيرك وتأخرت، وشمر غيرك وتكاسلت، فاعلم أنه شؤم المعصية، ورين الذنب على القلب، فابك على نفسك، وارجع إلى ربك وأحي عزيمتك، واسأله أن يوفقك كما وفقهم، ويعطيك كما أعطاهم، ويغير حالك كما غير أحوالهم: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ [الرعد/11].
إن يوم عاشوراء يوم انتصار الحق على الباطل، والخير على الشر، والإيمان على الكفر، ففيه غرق قائل: «أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى» وفيه انتصر ﴿الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وفيه تبدلت الأحوال ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنّٰتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فٰكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنٰهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان/25-28].
فاستلهم الآن هذا النصر العظيم، واستشرف هذا الحدث الجلل بقلب متذكر، وفؤاد مكسور، واسأل الله الذي نصر موسى على فرعون بجنوده، أن ينصرك على إبليس بخيله ورجله، وارج الذي فلق لموسى البحر أن ينجيك من بحار الشهوات والشبهات، ويجعل لك طريقا يبسا إلى الحق، فلا تخاف درك الذنوب ولا تخشى عوالق الشبهات بمنه وفضله.
* * *
الهوامش:
[1] مسلم برقم 1128.
[2] مسلم برقم (1162) (196) (197).
[3] مسلم برقم 356.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41