إشراقة
التخطيط: مصدر من التفعيل معناه العصري: وضع خطة لنواحي العمل المراد تنفيذُه في أجل محدود، أو العمليّة المُنَظَّمَة والجهود المدروسة التي يتم بها اختيار أحسن الحلول والوسائل للوصول للأهداف المطلوبة.
ونجد البعد التخطيطي مُتَجَلِّيًا في مواقف الهجرة النبويّة المباركة. عندما اشتدّ عنادُ قريش في مكة وبلغ الأمرُ مداه في الصدّ عن الدعوة إلى الله وحده، وعلم النبي –صلى الله عليه وسلم- أن المشركين لن يَتَنَاهَوْا عن بغيهم وعدوانهم ومنهجهم في الحيلولة دون انتشار الدعوة وتبليغ رسالة الله الخلقَ، تَأكَّدَ بإلهام من ربّه تعالى أنه سيهاجر في يوم من الأيّام. فلم يقعد مكتوفَ اليدين، يُسْلِم الأمرَ للأيّام والليالي، وإِنما ظَلَّ يُفَكِّر عن جِدِّيَّة تفكيرًا عميقًا في الموطن الذي ينبغي أن يهاجر إليه، وأَدَّىٰ تفكيرُه إلى التطلع إلى «يَثْرِبَ» – التي عُرِفَت بعد هجرته إليها بـ«المدينة المنورة» وغيرها من الأسماء الإسلاميّة – وقَرَّرَ في نفسه أن يكون هذا الموطن المبارك مُنْطَلَقًا لدعوته ومقرًّا للدولة الإسلامية النبوية النموذجية.
وبالتالي بدأ يُعِدُّ ويُخَطِّط للهجرة إلى هذا الموطن الذي آنَسَ منه الخيرَ، وضَرَبَ المثلَ العمليَّ في التخطيط والإعداد المدروس من خلال ترتيبه وإعداده للهجرة. ومن تَأَمَّلَ تنفيذه –صلى الله عليه وسلم- خطّ سير الهجرة، تَأَكَّدَ أنه –صلى الله عليه وسلم- لم يَخْطُ خَطْوَةً إلّا عن تخطيط دقيق.
فأوّلًا أَجْـرَى الاتصالَ بأهل الموطن الذي تَطَلَّعَ أن يهاجر إليه، ففي موسم الحج اجتمع بوفد يثربي من الخزرج، وفَاتَحَهم قائلًا: ألا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه –صلى الله عليه وسلم-، فدعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فآمنوا بدعوته وعاهدوا أنهم يدعون قومهم لهذا الدين، فصاروا يُشَكِّلُون الطليعة الأولى في «يثرب» للدعوة إلى الإسلام.
وثانيًا: اتّجه –صلى الله عليه وسلم- إلى جمع المعلومات اللازمة عن الموطن الذي رغب في الهجرة إليه، ومن الإجراءات التي اتخذها لذلك، كان إرساله –صلى الله عليه وسلم- إلى «يثرب» رجلًا ذكِيًّا مُحَنَّكًا حصيفًا، وهو مصعب بن عمير، ليقوم بمُهِمَّتَين هامتين: دعوة أَهالي «يثرب» إلى دين الله، وجمع المعلومات اللازمة عن «يثرب» وأهلها. وقد قام – رضي الله عنه – بالمهمتين خير قيام.
وثالثًا: حصل على ضمان التأييد الكامل له بعد هجرته إلى «يثرب» من قبل الذين بايعوه البيعة الأولى عند العقبة، وفي البيعة الثانية عندها اتفق النبي –صلى الله عليه وسلم- معهم على الأمور المصيريّة الآتية:
أ- النصرة له –صلى الله عليه وسلم- بعدالهجرة.
ب- أن يمنعوه مما يمنعون نساءَهم وأولادهم.
ج- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د – السمع والطاعة في كل حال.
هـ – أن لا يتركهم النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد ظهور أمره ولا يعود إلى مكة.
ورابعًا: اتخاذ أنفع ما يكون من الوسائل لتنفيذ خطّ سير الهجرة، وكان منها السِّرِّيَّة التامّة حتى لم يقدر أي من قريش على اكتشاف أمر الهجرة، حتى بعد ما كَثَّفُوا الجهود في هذه السبيل؛ ومنها توزيع المسؤوليات اللازمة على الصحابة – رضي الله عنهم – ومنها المكث في الغار ثلاث ليال؛ ومنها اختيار طريق غير مطروق وغير مألوف لأهل مكة. وذلك لتأكيد وضمان سلامة الهجرة؛ ومنها استئجار دليل بارع خبير بالطرق في البوادي والصحارى الوعرة، أمين على وظيفته رغم كونه على دينه الوثني.
إنّ وقائع الهجرة تدلّ دلالة صارخة على أنه كان مُؤَيَّدًا ومنصورًا من الله، فلم تتمكن أيدي قريش أن تصل إليه رغم جميع الجهود الممكنة التي بذلوها في هذه السبيل؛ لأن الله تعالى أَحْبَطَها عن آخرها. ورغم ذلك صَنَع النبي –صلى الله عليه وسلم- ما كان بوسعه من التخطيط والتدبير، الذي يتجلى في جميع مواقف الهجرة، والذي أعانه على أن يجتاز مراحلها كلها بنجاح كامل وانتصار باهر. لاشك أن حوادث الهجرة لم يقتصر أمرُها على بُعد النظر أو عبقرية البشر أو الوسائل الأرضية الأخرى التي استعان بها النبي –صلى الله عليه وسلم- بل إنما صَاحَبَتْها وأَيَّدَتْها قوةُ السماء، ورَاقَبَتْهَا عنايةُ الله، وحَفَّتْها ملائكةُ الرحمن؛ ولكنه –صلى الله عليه وسلم- لم يألُ جهدًا في سبيل إنجاح قصده وإعداد الخطة بإحكام وإتقان، وفراسة نبوية، وتوفيق إلهي.
تنظيمُ الهجرة أَكَّدَ أنّه –صلى الله عليه وسلم- لم يترك شيئًا للصدفة، وإنّما بذل أقصى الجهد، ووضع في الاعتبار التفاصيل الدقيقة والاحتمالات البعيدة، وصَاحَبَ ذلك رعايةُ الله وتأييدُه؛ فالدرسُ المتجدد من الهجرة هو التخطيط الذكيّ، والتنظيم الدقيق، والإيمان العميق الذي يزن الجبالَ، والإرادة القوية التي لا تعرف التراجعَ، والعزم الأكيد الذي يَتَأَبَّىٰ على الهزيمة في وسط الطريق، والانتصار للمبادئ لآخر الحدود؛ لأن النفوس إذا كبرت لايمكن استعبادها من الداخل. وبعد ذلك يأتي نصر الله وتأييده الذي خَلَّصَ في حادث الهجرة الحق الأعزلَ من بين مخالب الباطل القوي الـمُسَلَّح، وأعلى الرسالة الإلهية الراشدة على السفاهة الكافرة المشركة، وأفاز القلةالقليلة المستضعفة على الكثرة الساحقة الطاغية.
كانت الهجرة بتخطيطها البشري الدقيق المصحوب بالتأييد الإلهي المطلق، من أعظم الأحداث في تاريخ الدعوة الإسلامية؛ حيث شَكَّلَت فارقًا كبيرًا بين الحق الأبلج والباطل الأسود الأظلم، تخلص بها المهاجرون من وضع الاستضعاف إلى وضع التحرير والتحدي والمواجهة لقوى الشرك.
العمل التخطيطي الذي نَفَّذَه النبي –صلى الله عليه وسلم- في شأن الهجرة يتضمن درسًا واضحًا للمسلمين أن يأخذوا به في حياتهم في كل شأن من شؤون دينهم ودنياهم؛ حتى لا يُمْنَوْا أبدًا بالإخفاق والهزيمة وضياع الجهود، وحتى يُحَقِّقوا المراد عن إتقان وإحكام وعلى أحسن ما يُرَام. إن حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- الدعوية والشخصيّة كلها زاخرة بالدروس والعبر للمسلمين ليوم يرث الله الأرض ومن عليها. وقد صدق الله تعالى إذ قال:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب:21)
أبو أسامة نور
nooralamamini@gmail.com
(تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم الثلاثاء: 19/ذوالقعدة 1437هـ الموافق 23/أغسطس 2016م)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، المحرم – صفر 1438 هـ = أكتوبر – نو فمبر 2016م ، العدد : 1-2 ، السنة : 41