دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

تقسيم البلاد وتداعياته على موارد دارالعلوم وعدد طلابها:

       عام 1366هـ/1947م- الذي شهدت البلاد فيه التقسيمَ- كان عامًا محرجًا بالنسبة لموارد «دارالعلوم»، وتناقص عددُ الطلاب بصورة غير عادية، وكانت المناطق الهندية الموحدة – التي خضعت بعد التقسيم لـ«باكستان»- تشكل الموارد المالية لدارالعلوم/ديوبند، فكانت «باكستان الغربية» تمدها بالمال في حين كانت «باكستان الشرقية» تمدها بالطلاب في الغالب، ومما زاد الطين بلة ما شهدته المدن الهندية الكبرى أمثال «دهلي»، و«كالكوتا» و«حيدرآباد» من الاضطرابات الطائفية، وهجر الغالبية الساحقة من التجارالمسلمين في هذه المناطق إلى «باكستان»، وكانت هذه الأيام أيام محنة وبلاء شديد، ثم تحسنت الأحوال حينًا بعد حين، وكان عدد الطلاب تناقص من ألف وست مئة إلى ألف فقط، ثم ارتفع عددهم هذا العام إلى ألف ومئتي طالب. كما شهدت الموارد المالية تحسنًا وارتفاعًا مع مرور الأيام، وساهم أهل الخير في «باكستان» في تقديم المساعدة السخية إلى «دارالعلوم» بعد ما عادت المياه إلى مجاريها، كما قامت «دارالعلوم» بفتح مكاتبها لتلقي المساعدات. واستمرت معظم المساعدات الباكستانية لدارالعلوم متمثلة في الحبوب لأعوام عدة، و كانت «دارالعلوم» تتلقى نحو (20000) كيلو غرامًا من القمح من مدينة «بهاولفور»/«باكستان» بأسعار زهيدة كل عام مما يغطي حاجة الطلاب والمدرسين لسنة واحدة. ولعبت هذه الحبوب دورًا بازرًا في الحفاظ على «دارالعلوم» في أيامها العصيبة، وخاصة في الأعوام الأربعة اللاحقة لتقسيم البلاد؛ فإن «دارالعلوم» كادت تواجه ويلات ومتاعب لولاهذه المساعدات. فجزى الله تعالى خير الجزاء وأجزل مثوبة الذين انتفعت «دارالعلوم» بعناياتهم ومساعيهم في مثل هذه الأوضاع الحرجة.

عام1371هـ ، وانطباعات «آتشاريا ونوبا بهاوي»:

زار «آتشاريا ونوبا بهاوي» مدينة ديوبند في 2/ربيع الأول عام 1371هـ (2/ديسمبرعام 1951م) في خصوص حركته للتبرع بالأرض، في حين كانت «دارالعلوم» تشهد اجتماعًا للمجلس الاستشاري، فزار رئيس دارالعلوم، والشيخ حفظ الرحمن المدعوَ «آتشاريا ونوبا بهاوي» في مقره، ولم يتكمن «آتشاريا ونوبا بهاوي» من زيارة دارالعلوم في النهار لضيق الفرصة، فزارها في الساعة السابعة ليلا، وأعرب عن فرحه برؤية دارالعلوم، حيث تيسرت له زيارة هذه المؤسسة التعليمية العزيزة الوجود، وهنَّأَ طلبة «دارالعلوم» ومسؤوليها بأنهم جعلوا نصب أعينهم الهدف الأسمى من خدمة الدين والدولة و قاموا بخدمات جليلة في عهد الاستعباد والرق.

       وقال في كلمة وجيزة برغبة من الطلاب: «إن هذه الجامعة تراثٌ قيم في بلادنا، وقدجمعت شباب «آسيا» كلها، وبإمكاننا أن نلون بهم خريطة وحدة «آسيا»، وأرجوأن هذه الجامعة ستقوم فيما بعد تحرير البلاد بخدمات أجل مما قامت به في عهد الاستعباد والرق. وذلك مما يمكِّننا من تبليغ رسالتنا في «آسيا الشرقية» عبر منبرها. وظلت «الهند» على مر الأيام تتصف بالحب والوحدة، لقد دخلتها أمم كثيرة واستقت من نهر الحب والوحدة فيها. وترغب الهند في تبليغ رسالتها هذه «آسيا» كلها؛ بل العالم كله؛ فإن رسالتها مما يحل مشاكله المعقدة، ونؤمن بأن هذه الجامعة ستكون أكبر عون لنا على تبليغ رسالتنا هذه»(1).

       زار «آتشاريا» دارَالعلوم ثم ألقى في المدينة كلمة تحدث فيها بصفة خاصة عن دارالعلوم، وقال: «لقد سررت بشدة حين زرت هذه المؤسسة، فهذه المؤسسة ترشد إلى حياة ساذجة، وحياة تزينه أقل الحاجيات، وحياة هادفة. لقد زودت الآلافَ؛ بل مئات الآلاف من البشر ببركات الدين، فهي مرجعية علمية عظيمة، وإن نفحات العلم، التي تنبعث منها لتمتد إلى مناطق شاسعة».

       «لقد سررت جدًا بأن أصحاب هذه المؤسسة التعليمية – رغم  معرفتهم بأهمية الحياة التقنية- يعيشون في هذا العهد التقني حياةً ساذجةً للغاية».

       وانتهى قائلًا: «هذه المؤسسة الوحيدة التي عارضت الاستعمارَ البريطاني منذ أول يومها، وقدمت التضحيات في سبيل هذه المعارضة على كافة الجبهات أكثر من أي واحد».

مرحلة عصيبة على الموارد المالية في «دارالعلوم»:

       لم يَدَع التدهورُ الاقتصادي- الذي تبع الحرب- مؤسسةً من المؤسسات إلا ألقى بظلاله عليها، و كان من الطبيعي أن تتأثر به «دارالعلوم /ديوبند»، أضف إلى ذلك أن المناطق التي كانت تشكل موارد مالية لها – انضمت إلى «باكستان» عقب تقسيم البلاد، فأهابوا بالمسلمين في العالم كله إلى تقديم المساعدة إلى هذه الأمانة العالمية مما أثمر ثمرات طيبة لحد لابأس به. وخاصة «باكستان» و«جنوب إفريقية» فقد ساهمتا في ذلك مساهمة فاعلة، وانضمت إليها «روديشيا» التي لم يسمع لها صوت في الأوساط المساعدة لدارالعلوم. و بذلك تمكنت سفينة «دارالعلوم/ ديوبند» من الخروج من الأمواج التي كانت تلاطمها في البحر إلى ساحل  النجاة، واستمرت مسيرتها.

سخاء المسلمين في المناطق المتاخمة لها:

       أضف إلى ذلك أن «دارالعلوم/ديوبند» قامت بتدشين حملةٍ جديدةٍ متمثلةٍ في طلب اجتماع يمثل المسلمين المُلَاك الأراضي والفلاحين في المناطق المجاورة بمناسبة حصاد فصل الربيع، وتوصل الاجتماع إلى ضرورة تقديم المساعدات اللازمة لدارالعلوم وعدم التقصير فيه، وذلك بتوفير (200000) كيلو من الحبوب لها من قِبَل الفلاحين ومُلاك الأراضي بصورة محتومـة. وفعلًا تم امتثاله. و تم توفير (120،000) كيلو من الحبوب، رغم عدم عهدهم بمثل هذه الحملة بجانب مصادفة الحصاد دخولَ رمضان المبارك.  وهذه الكمية من الحبوب كانت أقل من حاجتها، إلا أنها كانت خير عون لها في هذه المرحلة العصيبة من مواردها المالية بالإضافة إلى الغلاء الفاحش الذي كان يعانيه البلاد. فجزى الله تعالى فاعلي الخير هؤلاء وبارك في أموالهم. وهذه الحملة لتحصيل الحبوب مستمرة ليومنا هذا، و طالت هذه الحملة اليوم المناطق الخاضعة لمديرية «ميروت» بالإضافة إلى مديرية «بجنور» و «هريانه».

عالم مصري يزور «دارالعلوم»:

       تُعنى العصبةُ العربية – التي تُشكل الجناحَ السياسي للدول العربية – بالأعمال العلمية بجانب نشاطاتها السياسية. ويقوم القسم الثقافي للعصبة العربية ببعث ممثليها إلى دول العالم بهدف تزويد مكتبتها بالكتب النوادر والعزيزة المنال، انطلاقًا من رغبتها في جمع تراث علمي نادر بجلب المخطوطات النادرة إليها. وهو ما حدا بها إلى أن ترسل ممثلها الشيخ محمد رشاد بن عبد المطلب(2) إلى الهند، فزار الشيخ دارالعلوم وانتقى بضعة من مخطوطاتها وصوّرَها وحَمَلَها مَعه.

       والشيخ محمد رشاد شاب متكمن من العربية والإنجليزية؛ بل مطلع على المتطلبات العلمية و البحثية التي تمخضت عنها الثقافة الأوربية والدراسات العلمية العصرية للأوساط العلمية. والجولات العلمية في مختلف البلاد وسّعَت من نظرة الشيخ وأفقه المعرفي، وتتجلى انطباعاته عن «دارالعلوم» مما سجله في سجل الانطباعات، وهو ما يلي: «إن من دواعي الغبطة والاعتزاز أني ألفيت هذا المبنى على طراز قديم وأسس متينة، ويرجع ذلك إلى أمر واحد وهو إخلاص مؤسسيها وأعمالهم الصالحة»(3).

عام 1372هـ، وتوسعة قسم الطب، وإنشاء دارالشفاء:

       كما أسلفنا في الصفحات السابقة أن دراسة الطب كانت بدأت بعد نشأة «دارالعلوم» ببعض سنوات، وكان مدرس الطب فيها يقوم بتعليم الطلاب الطب بالإضافة إلى تعهد المرضى منهم وعلاجهم. وكان الطالب المريض يتقدم إلى الطبيب ليشخص مرضه ويصف له الدواء ثم يرجع المريض– ليتناول الوصفة التي يصفها له- إلى الصيدليات التي تحددها دارالعلوم، وكانت– دارالعلوم- بدورها تقوم بدفع فواتيرالأدوية. وكانوا يدرسون اقتراحًا قائلًا بضرورة إنشاء دار للشفاء توفر للطلاب المصابين بالأمراض الفتاكة المستلزمات الصحية. وعليه تم إنشاء دار للشفاء وخص لها مبنى أقيم لنفس الهدف، و تم تزويدها بكمية كبيرة من الأدوية المفردة والمركبة والأدوية المرخصة (Patent) وأربعة سرر وفرشها ومستلزمات التمريض.

       وما إن تم تدشين هذا القسم حتى عرض عليه صيدليةُ «همدرد دواخانه/دهلي» أدوية تقدر قيمتها بألف روبية كل سنة لصالح الطلاب ثم ارتفع سقفها إلى ما قيمته ثلاثة آلاف روبية كل سنة. كما تقوم الصيدليات الأخرى في البلاد بالمساهمة في تقديم الأدوية لصالح الطلاب ما وسعها ذلك، وخاصة قامت «شركة أمين وأولاده» لصناعة الأدوية العصرية الشهيرة في مدينة «كولكاتا»، وصيدلية «هند سي سي وركس» في مئوناث بهنجن- من أعمال أعظم كره- بتزويد دارالشفاء هذه بالأدوية التي تصنعها و الأدوية المرخصة بشكل متتابع.

       وتحتضن دارالشفاء سبعة أطباء بالإضافة إلى ستة من الممرضين والموظفين وغيرهم.

إمداد الدارة الجديدة بالمياه:

       يمتد فناءُ الدارة الجديدة على عدة من الأكر (Acre) من الأراضي، ويسكن حجراتها بضع مئة طالب بشكل دائم، وتتزود الدارة الجديدة بعدة مضخات يدوية إلا أن هذا العدد الهائل من الطلاب بالإضافة إلى الحدائق التي تتوسطها لاتغطي هذه المضخات اليدوية حاجاتها، وتفاديًا من شح المياه تم نصب عدة مضخات كهربائية توفر مياهًا كافية لسقي الحدائق والطلاب معًا.

عام 74-1373هـ،خطاب التهنئة من ملك الحجاز:

       نشرت صحف العالم الإسلامي ما رآه جلالة الملك سعود – حفظه الله- في المنام من توجيه النبي –صلى الله عليه وسلم- إياه إلى العناية بتوسعة المسجد النبوي الشريف، وبالتالي وضعت الحكومة مشروعًا عملاقًا له، وقامت دار العلوم/ديوبند برفع خطاب التهنئة والتبريك بهذه المناسبة إلى جلالة الملك سعود، ونص الخطاب على أن ما نشرته الصحف من المنام الذي يفيد توجيه النبي –صلى الله عليه وسلم- جلالة الملك سعود، مما زاد حبنا له أكثر فأكثر، ونتمنى على الله تعالى أن يوفق جلالة الملك لخدمة الحرمين بصورة أوسع. فتكرم جلالة الملك- بالرد السامي عليها عن طريق سفير المملكة لدى الهند، فقام سعادة السفير في «دهلي» بإرسال برقية مفادها: «كلفني جلالة الملك- حفظه الله- أن أبعث إليكم برضا جلالة الملك عنكم وعن القائمين على هذه الجامعة لما أعربتم في برقيتكم من المشاعر. وأن جلالة الملك يدعو الله تعالى أن يوفقه لكل ما يؤدي بالمسلمين إلى الرقي والتطور»(4).

       وصادفت زيارة جلالة الملك سعود الهند العامَ نفسه، فتكـرم على دارالعلوم/ديوبند بالسخاء الملكي المتمثل في المساعدة التي تقدر بخمس وعشرين ألفًا.

*  *  *

الهوامش:

(1)     صحيفة «الجمعية» بتاريخ 8/ديسمبر عام 1951م.

(2)     محمد رشاد بن عبد المطلب: عالم بالمخطوطات وأماكن وجودها، مصري المولد والمنشأ، عمل في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية، من بدء إنشائه عام 1946م وساعد في تحرير مجلتها، وأرسل في عدة رحلات إلى الهند وتركيا وسواهما للبحث عن نفائس التراث وتصويرها فجمع القسم الأكبر من مصورات المخطوطات التي تضمها مكتبة المعهد وتعاون مع «فؤاد السيد» على وضع فهارس لبعض الخزائن العامة، حقق كتبًا منها «ذيول العبر» للذهبي، ط، وكان شعلة نشاط انطفأ فجأة بإصابة قلبية بالقاهرة.

         راجع: نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر، ص:435.

(3)     لم أعثر على النص العربي لهذه القطعة، وحاولت نقل الترجمة الأردية إلى العربية (المترجم).

(4)        مجلة دارالعلوم، جمادى الأولى عام 1374هـ،ص 3.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40


(*)    أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.

Related Posts