دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ فريد أمعضشو (*)

       لقد كان جابر المتولي قميحة – رحمه الله – بحقّ- أحدَ فرسان الأدب الإسلامي الحديث، الذين آمنوا بفكرته؛ فنافحوا عنه، وسعوا إلى التمكين له بالإبداع والنقد وغيرهما من ضروب الكتابة والتأليف. فهو أديب مصري مرموق، من مواليد 1934م، جمع في تكوينه العلمي والأكاديمي بين الدراسات الأدبية والقانونية والإسلامية؛ إذ حصل على دكتوراه في الأدب من «جامعة القاهرة» عام 1979م، وعلى «ليسانس» في القانون من كلية الحقوق التابعة للجامعة نفسِها، عام 1965م، وعلى دبلوم عالٍ في الشريعة الإسلامية عام 1967م. وقد بدأ مساره المِهْنيّ مدرِّسًا للغة العربية، عقب تخرُّجه من «دار المعلمين» بالقاهرة عام 1957م، ثم مفتِّشًا للغة العربية، قبل أن يلتحقَ عام 1980م بكلية الألسُن، التابعة لجامعة «عين شمس» بالقاهرة، ليشتغل أستاذًا للأدب العربي الحديث. وعمِل خلال تلك الفترة أيضًا أستاذًا زائرًا بجامعة «يال» الأمريكية – لموسِم واحد- بداية الثمانينيات، وأستاذًا مُعارًا بالجامعة الإسلامية العالمية في العاصمة الباكستانية ما بين 1984م و1989م، وأستاذًا مُشارِكًا بجامعة الملك فهد بالظهران بالمملكة العربية السعودية فيما بعْدُ. وانتسب الراحل إلى عدة جمعيات واتحادات أدبية؛ منها اتحاد الكتاب المصريين، ورابطة الأدب الإسلامي العالمية التي نال عُضويتها اعتبارًا من 22/فبراير 1992م، وكان من النشيطين في فرْعها بمصر.

       وخلّف جابر قميحة (ت 2012م) عددًا مهمًّا من الكتابات والأبحاث الجادّة المُميَّزة، التي يمكننا تصنيفُها إلى ثلاث مجموعات كبرى: الإبداع، والنقد الأدبي، والثقافة الإسلامية. بحيث تمثل الأولى مجموعُ إبداعاته في الشعر والمسرح معًا؛ كدواوينه «لجهاد الأفغان أغنّي»، وهو باكورة أعماله الشعرية (1992م)، و «الزحف المدنّس»، و«حديث عصري إلى أبي أيوب الأنصاري»… وكمسرحيتيْه «محكمة الهزل العليا تحاكم الأيدي المتوضّئة»، و«الرؤيا الأخيرة ليوسف الصّديق». وتجدُر الإشارة إلى أنه قد أعيد نشْر أعماله – في الشعر والمسرح- التي ظهرت إلى حدود 2010م ضِمْنَ مؤلَّف، من ثلاثة مجلدات (الأعمال الكاملة)، صدر بالقاهرة، بتقديم المستشار الشيخ عبد الله العقيل. ومن عناوين المجموعة الثانية نذكر: منهج العقاد في التراجم الأدبية – التقليدية والدرامية في مقامات الحَريري – أدب الرسائل في صدْر الإسلام – التراث الإنساني في شعر أمل دنقل – صوت الإسلام في شعر حافظ إبراهيم – رواية «وليمة لأعشاب البحر» في ميزان الإسلام والعقل والأدب. ومما تركه في مجال الثقافة والفكْر الإسلامييْن كتبُه «المعارَضة في الإسلام بين النظرية والتطبيق»، و«في صحبة المصطفى –صلى الله عليه وسلم-»، و«المدخل إلى القيم الإسلامية».

       إن هذا الكتاب الأخير (169 صفحة من القِطْع المتوسط) هو الذي سيكون موضوعَ هذه المقالة، التي نرمي – من خلالها – إلى تقديم قراءة مركّزة في محاور الكتاب وقضاياه الأساسية؛ سعْيًا إلى تسليط الضياء على القيم والأخلاقيات العُليا في الإسلام، وتبيان سماتها الجوهرية، وإبراز أهم مصادرها وسُبل غرسها في النفوس، واستعراض جملة من الشبُهات والمطاعن المُثارة من حولها، والتي تصدّى إليها الكاتب، وناقشها بالدليل الخرّيت، وأثبت تهافتها وجُنوحها عن الحق والصدق. وعليه، فقد استوتْ بنية العامة على أربعة فصول قصَدَ المرحوم جابر قميحة أن تكون محتويات محاورها «مجرد معالم على طريق الوصول إلى القيم الإسلامية، والتعرف على السبيل المؤدّية إليها»(1). وليست إحاطةً شاملة دقيقة بموضوع الكتاب، بل إنه يَعترف بوجود عناصر أخرى ذات صلة وُثقى بهذا الموضوع لم يأتِ على ذِكْرها وتناولها تناولًا وافيًا، وقد وَعَدَ القارئ بأنْ يخصّ موضوع «القيم الإسلامية» بتأليف ثانٍ يُتمم فيه ما بدأه في الكتاب الأول، يكون عنوانه «القيم الإسلامية: صورتها وأبعادها ومجالاتها (دراسة مقارنة)»(2). ولكنّ انشغاله بالتزامات وبأعمال أخرى صرفه عن ذلك، ليظلّ باب البحث في موضوع الكتاب الثاني مُشْرَعًا أمام الدارسين المعاصرين، بعد رَحيله دون تحقيق ذاك الذي كان يطمح إليه. كما نبّهنا الكاتب إلى صعوبة البحث في موضوع القيم الإسلامية، بخلاف ما قد يتوهّمُه بعضُهم من أن ذلك أمرٌ في متناوَل أي باحث! ومردُّ ذلك إلى تشعُّب تلك القيم وتعددها واختزالها جوهرَ رسالة الإسلام برمّتها. وقد عبّر قميحة عن ذلك بقوله: «ليس هناك أصعبُ من البحث في «القيم الإسلامية»؛ لا لغُموضٍ في الموضوع أو انغلاق في مناحيه، ولكنْ لاتساعه وترامي أطرافه ورَحابة مراميه. فالبحثُ في «القيم الإسلامية» يعني البحث في الإسلام كلِّه: أليس الإسلام هو دين القيم الإنسانية والأخلاق النبيلة؟ ألم يقل الله – سبحانه وتعالى-: ﴿إنّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِيْ لِلتِيْ هِيْ أَقْوَم﴾[الإسراء/9] ألم يقل رسول الإسلام عليه السلام: «إنما بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق»؟ ألم يَصف القرآن الكريم نبيّ الإسلام بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيْم﴾[القلم/4] ألم يكن أول ما نزل من القرآن يعدّ في ذاته دعوة لقيمة إنسانية عُليا هي القراءة وتلقي العلم الهادف لبناء الإنسانية .. لا العلم المدمِّر القاتل؟…»(3).

1- أخلاقيات العصر الجاهلي في منظور الإسلام:

       عَنْوَن جابر قميحة أولَ فصول كتابه بعبارة «مع التاريخ ورصيد الفطرة»، وحاول أن يقدّم فيه دراسة تاريخية واجتماعية أنثروبولوجية موجَزَة لأخلاق عرب الجاهلية، سواء أكانت منتمية إلى خانة الرذائل أم إلى نقيضتها، مبيِّنًا منابعها وأصولها وعواملها، وموضِّحًا موقفَ الدين الإسلامي – حين جاء – منها.

       ترتبط الجاهلية – عادة- بقيم الشرك والضلال والانحلال والعدوان والجَوْر والثأر ونحوها من السلوكيات والأخلاقيات السَّلْبية، علاوة على قائمة طويلة من الرذائل الأخرى التي كانت مُسْتشْرية في القبائل العربية – في تلك الحقبة المُوغِلة في القدم، والضاربة في الجهل والبغي–؛ من مثل عبادة الأصنام والأوثان، وسيادة منطق الغاب، وقطْع الأرحام، وأكل الميتة الحرام، وإتيان الفواحش، ووأد البنات خشية العار! على أن بعض هذه القيم المنحطّة لم يعمَّ العشائر الجاهلية كلَّها، ولم يكن شأن الجاهليين جميعًا؛ مثل وأد البنات الذي حظَرَتْه جملة من القبائل؛ بل إن بعض عرب الجاهلية عُرفوا ببذل أموالهم منْعًا لوأد كثير من البنات. ومثل الزنا الذي لم يكن من أخلاق الحَرائر؛ بل اشتهرت به نساء قلائل كُنَّ معروفات بين الناس، وأغلبهُنّ من الإماء والجواري.

       وإذا كانت هذه الأخلاق هي «القاعدة» الغالبة لدى عرب الجاهلية، والتي ورثوها أبًا عن جدّ، في كنف مجتمع قبلي كان ينخرُه الفساد بشتى ألوانه، وكان يستعبد الإنسان ويحْرمه من حقوقه الطبيعية، ولم يكن يعلو فيه صوتٌ على صوت الدم والبغي والظلم… إلا أنه عرف «استثناءات» قِيميّة، تتجلّى في جملة من الأخلاقيات الفاضلة، والسلوكيات المحمودة. وهو ما يسوّغ لنا وسْم ذلك المجتمع –حقًّا- بمجتمع المتناقِضات. ومن تلك القيم الإنسانية النبيلة الكرمُ، والشجاعة، والنجدة، والمُروءة. وقد كانت هذه الفضائل وأمثالها أشبه بنقط مُضيئة في ديجور شديد الحُلْكة ممتدّ على فضاء واسع جدا! وإنْ شابها غيرُ قليل من الانحراف الجاهلي.

       وهنا يثور سؤال وَجيهٌ عن مصدر هذه الفضائل وسط ذلك الركام المتراكم من الرذائل، فيُجيبُنا قميحة قائلًا: «هذه البقية الباقية من الفضائل في مجتمع الجاهليين، وإنْ تلبّست بالروح الجاهلي، ربّما كانت أقباسًا تسرّبت إلى النفْس الجاهلية من ديانة إبراهيم وهي الحنيفية السمْحاء، أو ربّما من اليهودية والمسيحية اللتيْن كان لهما مكانُهما في جزيرة العرب»(4). وإلى جانب هذه الديانات الثلاث، التي أكّد قميحة – فيما بعْد – مدى إسهامها الفاعل في غرْس عديدٍ من القيم العليا في نفوس عرب الجاهلية، ذكرَ المؤلِّفُ نفسُه منبعًا آخرَ لتلك القيم، هو الفطْرة الإنسانية النقية، والنظر السليم في الكون والموجودات والآيات الدالّة على عظمة الخالق ووحدانيته، والعقل السليم من الشوائب الذي يرْشد صاحبَه إلى التمييز بين ما هو صالح وما هو طالح .. بين ما هو مُفيد وما هو ضارّ. وهذه الفطرةُ – كما جاء في حديث مشهور – هي الأصلُ الذي يولَد عليه أيّ مولود، قبل أن تمتدّ إليه مؤثرات خارجية أخرى لتجعل منه يهوديًا أو نصرانيًا أو مجُوسيًا أو أي شيء آخر! وقد سجّل لنا التاريخ حالات من الجاهليين الذين اهتدوا إلى اليقين، وأدركوا الحقيقة، بفضل إنصاتهم إلى صوت الفطرة فيهم، وإعمال عقولهم في تأمل الأشياء من حولهم. ومن ذلك ورقة بن نوفل الأسدي، وزيد بن عمْرو بن نفيل. بحيث رفض الأول عبادة الأصنام التي يصنعها الناس، وانعطف إلى التنصُّر، رغم كل ما جرّه عليه ذلك الاختيار من مضايقات. وفارق الثاني ما كان يعْبده قومه، وسفّه أحلام قريش وأوثانهم، وامتنع عن التزلّف إليها بالقرابين، وتوقف عن أكْل الميتة المحرمة والدم، ونهى عن وأد البنات. ولكنّ ازْوِرار مثل هؤلاء عن معتقدات أقوامهم بالفطرة، وابتعادهم عن جملة من رذائل الجاهلية، لم يكونا ليمنعا من اختلاط الخير بالشرّ لديهم؛ بل إن الروح الجاهلية كانت تتلبّسُهم؛ كما قال قميحة.

       وحين جاء الإسلام خاتمًا للديانات السماوية، ومُهيْمنًا عليها، كان لا مناص من أن يتخذ موقفًا من قائمة «القيم الجاهلية»، أو بالأحْرى مواقف منها تَبَعًا لاختلاف هذه القيم في حد ذاتها. إذ نجده قد بارَك بعض هذه القيم والأخلاق، وأقرّها وأثنى عليها؛ من مثل الكرم والشجاعة ونصْرة المظلوم (حِلْف الفضول مثلًا). وفي المقابل، رفض قيمًا أخرى ممّا اشتهر لدى عرب الجاهلية، وعارضها بشدّة، وحرّمها إطلاقًا، ونهى عنها؛ مثل الميسر والأنصاب والزنا والعدوان. وثمة قيمٌ أخرى لم ينفّرْ منها الإسلام نهائيًا، ولم يقبلها بحذافيرها؛ بل ارتقى وسمَا بها، مع الاحتفاظ بمأصلها النفسي، ومثالُ ذلك قرْض الشعر. فمن المعلوم أن العرب – في جاهليتهم- عُرفوا بالشعر، وبقوله سليقةً وموهبة، وباتخاذه سجِلاّ يحفظ أيامهم وأمجادهم، ويوثق بطولاتهم وأخلاقهم، ويصوّر حياتهم ومعيشهم وعلاقاتهم وغير ذلك من الموضوعات. فهو كان «ديوان العرب»؛ كما قيل. ولم يقف شعراء الجاهلية عند هذا الحدّ؛ بل قالوا أشعارًا – كذلك – في «أبواب الشرّ»؛ من الهجو المُقذع، والدعوة إلى معاقرة كؤوس الخمرة، والتغزل الفاحش، وخدْش الأخلاق، والتهجم على الأعراض، والمديح الكاذب. ولذا، كان لا بد من أن يرفضها الدين الجديد، ويلحّ على تجاوزها إلى أضدادها الفُضلى. وفي المقابل، حرَص على استمرارية الموضوعات الأخرى التي تثمّن الفضائل، وتتغنّى بالمروءة والشرف وعزة النفس وغيرها، وسعى إلى تنقية ما علق بموضوعات أخرى من شوائب تشينها لتكون في أتمّ الانسجام والتواؤم مع دعوة الإسلام وقيمه العليا. إنّ الدعوة المحمّدية – إذًا- لم تحارب الشعر من حيث هو كلام خاضع لضوابط تأليفية محددة (عمود الشعر)؛ بل رفضتْ ضربًا معينًا منه؛ يُشيع الفواحش، ويدعو إلى الموبقات، وينطوي على جملةِ منزلقاتٍ في المعتقد والسلوك والأخلاق. وقد أكد الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن من البيان لسحْرًا، ومن الشعر لحكمًا (أو لحكمة). وكان يوجّه الشعراء، ويأْدِبُهم إلى خدمة الدين الجديد، والإشادة برجالاته، والاعتزاز بقيمه، ورثاء قتلى الغزوات الذين استرخصوا دماءَهم لتكون كلمة الله هي العليا. ويُروي عنه – كذلك- أنه حدّد الشعر بكونه كلامًا؛ فما وافق الحقّ منه فهو حسَن، وما لم يوافقه فلا خيرَ فيه. والكلامُ عن موقف الرسول –صلى الله عليه وسلم- من الشعر يطول، لذا حسْبُنا – ها هنا – تسجيل خلاصة موقفه هذا فقط .. فهو قد استهجن شعرًا، واستحسن آخرَ، ولم يرفضه كلّه رفضًا قاطعًا. وموقفه هذا مُستمَدّ من موقف القرآن الكريم المعبَّر عنه في آخر سورة الشعراء.

2- القيم الإسلامية وخصائصُها الجوهرية:

       عقد جابر قميحة ثاني فصول كتابه لتبيان أهمّ السمات المميِّزة للقيم والأخلاقيات الإسلامية، ولإبراز مدى إسهامها في استمرار هذه القيم الإنسانية العُليا وسيْرورتها وتجذرها. وقبل أن يتطرق إلى ذلك –بإفاضة- أوْضَح مقصودَه بالقيم في الإسلام بأنها «مجموعة الأخلاق التي تصنع نسيجَ الشخصية الإسلامية، وتجعلها متكاملة قادرة على التفاعل الحيّ مع المجتمع، وعلى التوافق مع أعضائه وعلى العمل من أجل النفس والأسرة والعقيدة»(5). وقسّمها إلى نوعين كبيرين انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿وما آتٰكُمُ الرسول فخذوه، وما نَهٰكُمْ عنه فانتهوا﴾(6)؛ أولهما: «قيم التحلي» التي ينبغي تمثلها والعمل بها، مثل الصدق والأمانة وصلة الأرحام وحُسْن الجوار، وثانيهما: «قيم التخلي» التي يلزم اجتنابها والابتعاد عنها بصفة مطلقة، مثل الكذب والزور والسرقة والميسر.

       لقد قاد البحث المعمّق في القيم الإسلامية قميحة إلى رصْد جملة من الخصائص التي تمتاز بها، وأظْهَرُها ثلاثٌ: التدرُّج التكليفي، والوَسَطية العادلة، والهيمنة التشريعية. فما المُراد بكلٍّ منها على حِدَة؟

       إن التدرج من سُنن الحياة الجوهرية، ومن معالم المنهج الرباني في التربية والتشريع، سواء في العبادات أو المعاملات أو العقوبات. وبالتدرج تُهيَّأ النفوس جيّدًا لتقبُّل التكاليف، وتنفيذ الأعمال فعلًا أو ترْكًا عن طواعية وأريحية. وبه تُرسَّخ القيم والتشاريع، وتُتَقبَّل عن اقتناع ثابت. ولذلك، لم ينزل القرآن بجميع أحكامه وتعاليمه وتكاليفه دفعة واحدة؛ بل مُنجّمًا على ثلاثة وعشرين عامًا؛ مراعاةً للاعتبارات المذكورة. ويلاحَظ على تلك التكاليف –أيضًا- أنها بدأت قليلة، قبل أن تكْثر في المرحلة المَدَنية حين استقرّ الإيمان في النفوس، وتمكَّن منها. ولم يكن متوقَّعًا أن يتخلى العرب -بغير منهج التدرج- عن الأخلاق السلبية التي تربّوا عليها أرداحًا متطاولة من الزمن، وتوارثوها عن أسلافهم، وأن يتركوها بسهولة بمجرد دعوتهم إلى الإسلام. ولهذا، تعامَل معهم القرآن بمنتهى الحكمة، إلى أنْ أفلح في غرْس قيم بديلة إيجابية في نفوسهم، ودعاهم إلى نشْرها والتحلي بها في القول والعمل معًا.

       ولعل من أبرز أمثلة هذا التدرج كيفية تعامل القرآن الكريم مع قضية الخمر. فالعربُ -في جاهليتهم- كانوا قومًا يشربون الخمر على اختلاف أنواعه ويبالغون فيه غالبًا مبالغةً طالما أفضت إلى نتائج قاسية، وكانوا لا يتورّعون في الدعوة إلى احتساء كؤوسها ووصْفها بأشعارهم. بمعنى أنها كانت عادة مترسِّخة لديهم، لا يروْن أي حرج في الإقبال عليها، وإنْ لمسوا آثارها بوضوح في حياتهم وسلوكاتهم. واستحضارًا لهذه المعطيات كلها، لم يبادر القرآن بتحريم شربها تحريمًا قطعيًا؛ بل جعل ذلك آخر حلقة في مسلسل التحريم. إن موقف الإسلام المُحرِّم للخمر مرَّ بأربع مراحل تدريجية؛ إذ بدأ بإعداد النفوس والتوطئة للخطوة التحريمية الموالية، بالتلميح البعيد فقط(7)، ثم انتقل إلى التمهيد للتحريم بالتصريح المباشر حين وازَن بين مضارّ الخمر ومنافعها، فأكد أن فيها منافعَ للناس قليلةً مقارنةً مع إثمها الكبير الغالب. يقول تعالى: ﴿يَسْئَلُوْنَكَ عَنِ الْخَمرِ والمَيْسِر، قُلْ فِيْهِمَا إِثْمٌ كَبِيْرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمْا﴾(8). وعقب ذلك، جاء النص القرآني بالتحريم الموقوت للخمر؛ حيث نهى عن إتيان العبادات في حالة سُكر، وبذلك ضيَّق من أوقات شُربها تضييقًا كبيرًا جعل بعضَهم ينصرف –مباشرة- عن شربها. يقول تعالى: ﴿يٰاَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لَا تَقْرَبُوْا الصَّلوٰةَ وَأَنْتُمْ سُكارٰى حَتّٰى تَعلَمُوْا مَا تَقُوْلُوْنَ﴾(9). وحين تيقّن الإسلام من تهيُّؤ النفوس لتقبُّل قرار التحريم النهائي الباتِّ، ومن اقتناعهم بضررها البالغ وبلاجدوى شُربها، نزلت آية هذا التحريم بعد سبع سنوات من انطلاق مسيرة التحريم التدريجي، داعيةً المؤمنين إلى اجتناب الخمر وأخلاق وسلوكات أخرى من رجس الشيطان الرجيم الذي يسعى إلى إيقاع العداوة بين الناس بتلك الموبقات، والإلْهاء عن ذكْر الله وعبادته، فما كان لهؤلاء المخاطَبين إلا أن بادروا بالاستجابة للخطاب القرآني قائلين: «انتهينا .. انتهينا». يقول تعالى: ﴿يٰاَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالميْسِرُ وَالْأنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰنِ، فَاجْتَنِبُوْهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحَوْنَ. إِنَّمَا يُرِيْدُ الشَّيْطٰن أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضاءَ في الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ، ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلوٰةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُوْن﴾(10). وجاءت أحاديثُ نبويةٌ عدة تؤكّد هذا التحريمَ القاطع؛ منها نهيُه –صلى الله عليه وسلم- عن التداوي بالخمر لمّا سُئل عن استعمالها في الدواء، فقال: «إنها داء، وليست بالدواء». ومنها قولُه ناهيًا عن التداوي بالمحرمات جميعًا، بما فيها الخمر: «لا تتداووْا بالخمر». ومنها – كذلك – حديثُه المعروف الذي لعن فيه عشرة ممّن لهم صلة بالخمر، وهم عاصرُها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها و ثمنها ومشتريها والمُشْتراة له.

       وإلى جانب التدرج التكليفي، تتّسم القيم الإسلامية بالوسطية والاعتدال، بخلاف اليهودية المُغْرقة في المادّيات، والإقبال على مُتع الدنيا الفانية، والمسيحية بروحانيتها ورهبانيتها المُفْرطة التي تجعل الذين يدينون بها منقطعين عن الحياة الدنيا ومتاعها. ومن هنا، يظهر مدى تطرّفهما وغلوّهما معًا، وإنْ في نطاقين متناقضين! و«على الرغم من أننا مأمورون بالإيمان بالقيم المسيحية واليهودية التي لا تتعارضُ مع إسلامنا، ولم تُستنسخ به، إلا أن القيم اليهودية بمادّيتها والقيم المسيحية بروحانيتها لم تعُد قادرةً على تشكيل الإنسان، ذي الشخصية القوية المتوازنة، المتفاعل مع الحياة، بعد أن تخطّت البشرية مرحلة طفولتها الأمَمية»(11). وعليه، كان لا بدَّ من إعادة تعريف الإنسان، وتقديم مفهوم صحيح له، والنظر إليه بوصفه كُلًا لا يقوم بناؤه السليم المتوازنُ إلا بمُراعاة جانبيْه المادي والروحي معًا. وهو ما تولاّه الإسلام، بفضل خاتِمِيّته التي اقتضت أن يصوّب الفُهُومَ الخاطئة، وينأى عن الانحياز لجانب على حساب آخر، ويجود على الناس بأنجع الحلول لمختلِف المعضلات والأسقام. ولم يُفارق محمد –صلى الله عليه وسلم- الدنيا إلا بعد أن أرْسى أساسَ هذا الدين، وثبّته في القلوب، ومكّن له في الأرض، وغرَس قيمه في الأنفس، وإلا بعد أن أعلن على العالمين قوله تعالى: ﴿اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ، وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ، ورَضِيتُ لكمُ الإسلامَ دِينًا﴾(12).

       إن الوسطية أو الوسط الذي جاء به الإسلام يعني، كما قال الشيخ محمد عبده، «العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير. وكلٌّ من الإفراط والتفريط ميلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم. فالخيارُ هو الوسط بين طرفي الأمر؛ أي المتوسِّط بينهما. والمسلمون خيارٌ وعُدولٌ؛ لأنهم وسط ليسوا من أرباب الغُلوّ في الدين المُفْرطين ولا من أرباب التعطيل المُفرِّطين. وهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال»(13).

       وبناءً على هذه الوسطية، فالإنسان في التصور الإسلامي لا يستقيم كِيانُه العامّ إذا ما غلّب جانبًا على آخر في شخصيته؛ بل إنه مُطالَبٌ بتلبية مَطالِب الجسد والروح والعقل الذي هو مناط الاستخلاف على وجه البسيطة، وبتحقيق التوازن والهارمونية بين هذه العناصر الثلاثة، وبالتوفيق بينها لا التلفيق؛ من مُنطلَق أنّ الأول يُفضي إلى عمل يتسم بالصدق مظهرًا ومخْبرًا، على حين يترتب عن الثاني عملٌ قد يُبْهر مظهره، ولكنه – في حقيقته – خواء(14). وقد دعا القرآن الكريم بصريح العبارة إلى هذا التوفيق بين مطالب الدنيا والآخرة .. بين جانبي المادة والروح، بقوله: ﴿وابْتغِ فيما آتٰكَ الله الدارَ الآخِرَة، ولا تَنْسَ نَصِيْبَك مِنَ الدُّنْيَا، وأحْسِن كما أحسن الله إليك، ولا تبْغ الفسادَ في الأرض. إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسِدِيْنَ﴾(15). وقرَن سبحانه وتعالى هذه الوسطية بالشهادة على الناس، فقال: ﴿وَكَذٰلِكَ جَعْلْنٰكُمْ أمّةً وَسَطًا لِتَكُوْنُوْا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْدًا﴾(16).

       ومن أهمّ ما تتصف به القيم الإسلامية، كذلك، ما أسْماه قميحة «الهيمنة التشريعية»، التي يبرز فيها مدى أهمية النية والباعث في تكييف الأعمال والحُكم عليها. ويَقصد بها الكاتبُ أنّ «كلّ قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية لها طابعُها الأخلاقيّ، ووراءَها الدافع الإنساني، سواء أكانت قاعدة من قواعد المعامَلات أم من قواعد العبادات أم من قواعد الحُدود»(17). وعليه، فلا يَسْلم الحُكم على الفعل أو التكليف أو أي قيمة إلا باستحضار طابعها الخُلُقيّ ومقاصدها والدافع القابع وراءها، ولعل أكثر المجالات التي تتجلى فيها هذه الهيمنة مجالًا العبادات (من صلاة وصيام وغيرهما)، والقواعد القانونية، ولاسيما في ما يُعْرف بالقانون المَدَني، الذي يُعْنى بالمعاملات والعلاقات بين الأفراد.

3- محمد صلى الله عليه وسلم .. رمزُ المُثُل ومنبعُ القيم العُليا:

       سعى قميحة – في الفصل الثالث- إلى التعريف بشخصية الرسول –صلى الله عليه وسلم- نفسيًا وخُلُقيّا، وإلى رصْد ما كان يتحلى به من عظيم القيم والشّيَم في قوله وسلوكه؛ ممّا أهَّله ليكون مَثلًا أعلى يتأسّى به المسلمون، ويقتدون بسيرته، ولاسيما بخصاله التي لا تخصّه باعتبار مقام النّبوة. كما أوْضَح الكاتب معالم المنهج النبوي في تربية أصحابه والمؤمنين برسالته، وفي غرْس القيم الإسلامية في نفوسهم.

       لقد اجتمعت في شخصية الرسول –صلى الله عليه وسلم- كل المُثل والقيم العليا .. كيف لا وهو خير البرية طُرًّا، عصَمَه الله من الزلل، وطهّره، وبعثه إلى العالمين مبشّرًا ونذيرًا وهاديًا إلى سواء السبيل. وكانت أخلاقه ترجمةً عمَليّة لِما نصَّ عليه القرآن أمْرًا ونهيًا، فقد «كان خُلقه القرآن»؛ كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-. وقال –صلى الله عليه وسلم-: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي». وقال كذلك مُجيبًا الإمامَ عليًّا – رضي الله عنه- حين سأله عن سُنته: «المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحبّ أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرِّضاء غنيمتي، والعجْز فخري، والزُّهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسْبي، والجهاد خُلقي، وقُرّة عيني في الصلاة»(18). فقد ذكر في حديثه هذا جملة وافرة من قيمه وأخلاقه وشمائله التي كانت الأساس المتين لبناء شخصيته الفذة العظيمة في الدارَيْن.

       إن نبيّنا –صلى الله عليه وسلم- كان نموذجًا للرحمة، والرفق بالناس وبالحيوان، والصدق، وحفظ الأمانة، والحكمة، والموعظة الحَسَنة، والحِلْم ساعة الغضب، وكظم الغيظ، والوفاء، والعفو عن المسيء، والعفة والابتعاد عن الخَنَا والمنكرات، والزهد الإرادي، والتواضُع، والصبر على اللذائذ والشدائد… إن هذه الصفات النفسية «قليل جدا من كثير جدا من «قائمة القيم» التي كانت لهذا الرجل العظيم… الذي لو لم يكن نبيًا بأمْر الله لكان نبيًّا بداعية هذه الشمائل الوضيئة العريضة. إنه كان –وسيظلّ- «المثل الأعلى» للبشرية في كل العُصور»(19). ويحفِل القرآنُ الكريم بآيٍ كثيرة، والسنةُ النبوية بأحاديث عديدة، دالّة على ما كان يتحلى به الرسول –صلى الله عليه وسلم- من قيم ومُثل وفضائل، سعى إلى غرْسها في نفوس صحابته بتقديم «القدْوة» لهم في أقواله وأفعاله مع المسلمين وغيرهم، في كل الحالات. يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَاْنَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ الله اُسْوةٌ حَسَنةٌ﴾(20).

4- تحدّيات أمام إسلامـية القيم:

       استعرض جابر قميحة – في الفصل الأخير من كتابه- جملةً من التهَم والشكوك المُثارة مِنْ حول الإسلام وقيمه السمحة، سواء من قِبَل المستشرقين الحاقدين أو من قبل بعض المنتسِبين إلى الإسلام أنفسِهم ممّن عمدوا – رغم وضوح الحقيقة وجهارتها – إلى التشكيك في عدد من القيم الإسلامية، يدفعهم إلى ذلك سوء النية وضعف الوازع الديني لديهم أحيانًا، والانبهار بطروحات الفكر العَلْمانيّ الغربي والتأثر بها أحيانًا، والجرْي وراء بهْرَج الشهرة الجوفاء عملًا بما يُعرَف بقاعدة «خالِفْ تُعْرَفْ»! وبذلك، اغتدى هؤلاء وأضرابُهم معاولَ هدم للأمة وقيمها من الداخل في ظلّ الحرية «غير المسؤولة» المتوفرة لهم تحت ضغط جهات خارجية معلومة. ولم يكتفِ قميحة بجرْد بعض تلك التهم والمطاعن؛ بل ناقش أصحابَها – بالبرهان الساطع، والحجّة الدامغة – وأثبت بطلانها وجنوحَها عن الجادّة التي يقرّها النص والتاريخ والعقل والفطرة جميعًا.

       لقد أصرّ بعض مُثيري الشُّبَه في طريق إسلامية القيم على اصطناع الحدود بين الأخلاق والدين، داعِين إلى «العلمانية الأخلاقية»، التي لا ترى تلازُمًا بين جانبي الدين والخُلُق؛ بل يمكن أن يقوم أحدهما في غياب الآخر. وانطلاقًا من هذا الاقتناع، راحوا يقدّمون أمثلة من الماضي العريق والواقع المعيش تأييدًا لزعْمهم؛ فادّعوا أن الغرب الكافر حقق اليومَ انتصارات متتالية، وتفوّق اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا وعلميًا تفوُّقًا جعله يتسيَّد العالم، ويتحكم في زمام أموره، ويرسُم مساراته وَفق تخطيطاته المحققة لمصالحه بالدرجة الأولى، على الرغم من أنّ مؤشّرات القيم والأخلاق في مجتمعاته متدنّية جدّا؛ بحيث يعيش مفاسد كثيرة، وانحلالًا خلقيًا صارخًا، وتشيع فيه الموبقات على اختلافها بصورة مُخيفة جدًا. هذا في الوقت الذي انحطّ فيه المسلمون، وتراجعوا في سلم التحضر والتقدم، على الرغم من أنهم أمة القرآن، التي هي خير أمة أخرجت للناس، ومن أن رسولهم خير الأنام جميعًا. ولكن القرآن ربط «خيرية» هذه الأمة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله حق الإيمان. ويعود هؤلاء المرتابون إلى ماضي الأمة للقول: إن الدولة الإسلامية قد سجّلت أعظم انتصاراتها في عهود كان الفساد غالبًا عليها، في الأخلاق وغيرها! ويتخذون من دولة بني العبّاس، على عهد الخليفة هارون الرشيد، ومن عاصمتها بغداد تحديدًا، أبرز الأمثلة المؤيِّدة لزعمهم! فهم يروْن أن المسلمين حققوا – إبّانئذٍ- إنجازات كبرى، رغم ما ساد بينهم من مظاهر الانحلال الخُلُقي (الخمر – الفساد – الجواري والغلمان – الغزَل الإباحي…)!

       وقد كانت هذه الشُّبْهة الأخيرةُ فرصةً ليوضّح لنا قميحة بعض الحقائق المتصلة بتلك الفترة من تاريخ الإسلام؛ من ذلك أن هذا التاريخ سقط ضحية مخطّط صليبي صهْيوني استشراقي مدروس نجح في تشويه كثير من معالمه، ولاسيما في أزْهى عصوره، حتى يُفجع المسلمون في مُثله وقيمه العُليا. وجعل مؤرِّخو الإسلام ذلك التاريخ برمّته معتمِدًا على نقطتيِ ارتكاز أساسيتيْن، هما: الحاكم والعاصمة، رغم ما عُرف عنهم من تدقيق وتحرٍّ عميق. وعليه، فأي سقطة تقع في عاصمة الخلافة، أو تصدر عن حاكم ما، يتم إسقاطها وتعميمها مباشرةً على جميع الأقاليم ووُلاة أمور المسلمين وقادَتهم، في غياب أي استقصاء أو تتبُّع موضوعي للأحداث والمعطيات؛ بل كان يتم الانطلاق من وقائع معزولة ومن ظواهر فردية لاستنباط أحكام منها تعمَّم على الباقي بكثير من التعسُّف! وكان يكتفي أولئك المؤرخون – غالبًا- بالوقوف عند الأسباب الظاهرة دون التعمّق والتغلغل إلى الأعماق والبواطن للوصول إلى معرفة حقيقة الدوافع إلى الأحداث المُشاهَدَة. وعليه، كانت تأتي أغلب تفسيراتهم ناقصة وقاصرة. ينضاف إلى ذلك بُعْد بعضهم عن الموضوعية والحياد، من جراء تأثرهم بالتيارات السياسية والمذهبية التي بدأت تتناسل في المجتمع العربي بدايةً من العصر الأموي. كما أن تركيز أولئك الشّاكّين المُغرضين على جانب معين مقصود من شخصية هارون الرشيد، و «لياليه المِلاح»؛ كما زعموا، وغضّ الطرْف عن باقي جوانبها ينطوي على تجَنٍّ واضح عليه، وعلى قصْد مبيّت لتشويهه والتبخيس من قيمة ما أسْداه من خِدْمات جليلة للدولة الإسلامية في العصر الوسيط. وقد انبرى عدد من مؤرِّخينا القدامى؛ كابن جرير الطبري وابن خلدون الحضرمي، للردّ على مثل هذه التهم التي تجانب الصواب والحق. إذ نجد أولئك الشاكّين ينعتون الرشيد بالسكّير وبصفات سلبية أخرى، فاختزلوا شخصيته في هذا الذي أرادوه فقط، دون أن يأتوا على ذكر شيءٍ من فضائله وشيمه وخُلُقه النبيل؛ من مثل الإحسان إلى العلماء والأولياء، وما كان عليه من العبادة والحفاظ على الصلوات في أوقاتها والإكثار من النوافل، وما امتاز به من عدل وحزم وغيرة…

       إن غاية هذه المطاعن أن تثبت – في محاولات يائسة – لاجدْوى القيم والأخلاق في حياة الإنسان، وتنفي أي صلة لها بالدين وبصُنْع النهضة والانتصارات؛ تمهيدًا لرفض أطروحة «إسلامية القيم». والواقع أن «الفصل بين الدين والخُلُق سيظل فصلًا صناعيًا واهيًا؛ لأن الدين هو أقوى المصادر وأغناها بالقيم الخلُقية»(21). وقد يحلو لبعضهم وَسْمَ هذه القيم في الإسلام بالثبات، وبأنها غير صالحة لكل زمان ومكان، بقدْر ما تناسب السياق والمجتمع اللذين ظهرت فيهما أول الأمر! والصوابُ غير ذلك؛ لأن القيم الإسلامية مَرِنة سمْحة تتطور في إطار الثوابت .. إنها – كما قال قميحة – «ثابتة ولكنها غير جامدة، مرنة ولكنها لا تقبل التميّع .. تعرف السماحة، ولكنها لا تقبل التهاون»(22).  

       ويدعو بعض أبناء جلدتنا المُسْتَلَبين المتغرِّبين إلى تبنّي خيار العَلْمانية في حياتنا كلها، لا في الأخلاق وحدَها. وإن هذا الأمر «إذا جاء من حاكم فهو لعدم أهليته للحُكم، وللهرب من المسؤولية التي يُلقيها الإسلام على عاتقه… وإنْ كان من مفكّر فهو قُصور في معرفة الإسلام، وخداع نفسه وغيره بعرْض قضايا يدرك أطرافها فقط دون جوهرها. وإنْ كان من سياسيّ فهو للتلاعُب بالفكر غير الناضج، والتمويه في حلبة المناقشة السياسية. وإنْ كان من فتى وفتاة فهو للتحلل من التزام الإيمان في التوجيه والسلوك، والانطلاق في شهْوة البطن والفرج والملْبَس»(23).

       والحقُّ أن الحرص على العلمانية لتكون منهج المسلم في حياته رُمَّتِها ينِمُّ عن اختلال في الفكر والتفكير لدى دُعاتها، وعن انبهار سالب بما لدى الآخرين المختلِفين عنّا معتقدًا وأخلاقًا وأسلوبَ حياةٍ، وعن رغبة في البحث عن متنفَّس للتعويض عن النقص والعجز. وتبقى الدعوة إلى إشاعة القيم الإسلامية، وربْطها بمنبعها الديني، واستحضارها في كل مجالات الحياة أمورًا ضرورية بالنسبة إلينا نحن المسلمين – ولاسيما في اللحظة الحضارية الآنية التي تُحاصَر فيها تلك القيم، وتنصب في طريقها أشواك ومعرْقلات كثيرة – إذا أردْنا –فعلًا- استعادة مجْدنا، وتبوُّء مكانة سَنيّة بين الأمم، وبناء مجتمعات متماسكة قوية. يقول جابر قميحة في هذا المُتَّجَه: إن «الدعوة إلى العلمانية والحرص عليها فكرًا وتطبيقًا لم تصدر من أصحابها عن اقتناع بقدْر ما هي نتيجة لمجموعة من «النقائص الذاتية»، من أبرزها العجز والهروب والأنانية. وفي المقابل، تبقى الدعوة إلى «إسلامية الأمّة»، في السياسة والخُلق والاقتصاد والتعليم، لا دعوة إصلاحية فحسْبُ، ولكن دعوة بنائية بكل ما في كلمة «البناء» من معنىً: هناك أنقاضٌ لا بد أنْ تُرفع، وهناك أسُس وجذور لا بد أن ترسخ وتضرب في الأعماق، وهناك صُروح لا بد أن ترتفع وتشْمخ بالعقيدة وعِزّة الإيمان .. نعم، لا يكفي الإصلاح بالترميم والطّلاء؛ لأن ذلك لون من خداع النفس والكذب على الواقع. فالترميمُ ترقيعٌ موقوت، والطلاء بهْرَجٌ خدّاع .. وكلاهما قد يُخفي ما في البناء من وَهَن وعيوب، ولكن تبقى الحقيقة هي هي»(24). 

*  *  *

الهوامـــش:

(1)        المدخل إلى القيم الإسلامية، دار الكتاب المصري (القاهرة)، دار الكتاب اللبناني (بيروت)، ط.1، 1984، ص 7. 

(2)        نفســه، ص 8.

(3)        نفســه، ص 11. 

(4)        نفسـه، ص 26، بتصرف.

(5)        نفســه، ص 41.

(6)        سورة الحشر، من الآية 7. (رواية ورش)

(7)        سورة النحل، الآية 67.

(8)        سورة البقرة، من الآية 217.

(9)        سورة النساء، من الآية 43.

(10)      سورة المائدة، الآيتان 92 – 93.

(11)      المدخل إلى القيم الإسلامية، ص 64، بتصرف.

(12)      سورة المائدة، من الآية 4.

(13)      تفسير المنار، مطبعة المنار بمصر، ط.2، 1350 هـ،2/4.

(14)      المدخل إلى القيم الإسلامية، ص 76.

(15)      القصص، الآية 77.

(16)      البقرة، من الآية 142.

(17)      المدخل إلى القيم الإسلامية، ص 78.

(18)      القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، تح. محمد أمين قرة علي وآخرين، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، د. ت، 1/289.

(19)      المدخل إلى القيم الإسلامية، ص 115، بتصرف.

(20)      سورة الأحزاب، من الآية 21.

(21)      المدخل إلى القيم الإسلامية، ص 129.

(22)      نفســه.

(23)      محمد البهي: العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق، مطبعة الأزهر، القاهرة، ط 1976، ص 54.

(24)      المدخل إلى القيم الإسلامية، 143.

*  *  *


(*)             باحث من المغرب.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1437 هـ = يونيو – أغسطس 2016م ، العدد : 9-10 ، السنة : 40

Related Posts