كلمة العدد
كلّما يجري ذكر تأخر المسلمين وتقدّم غيرهم يتبادر ذهن الناس – ولا سيّما الذين يتخذون الدنيا هدفهم الوحيد – إلى أن المسلمين إنما تأخروا وهبطوا؛ لأنهم لم يهتمّوا بأسباب الدنيا، أي أنهم يحصرون التأخر في تأخرهم في الثروة والمال والتجارة والصناعة والحرفة وما إلى ذلك من الوسائل الكثيرة التي يمكن بها السيطرةُ على مَلاَك التصرّف في الدنيا والتغلّب على الأمم فيما يتعلق بالمادة والمعدة، ويَعْنُون بـ«التأخر» تأخرَهم في الأسباب الماديّة، ولا يتطرق ذهنهم أن المراد بـ«التأخر» يجوز أن يكون تأخرهم فيما يتعلق بالدين.
على حين أن تقدم المسلمين في الدنيا كان فرعًا لتقدمهم في الدين بمعنى الكلمة؛ حيث إنهم كانوا قد صاروا لله فكان الله لهم ينصرهم بكل ما في السماوات والأرض من جنوده؛ ففي الحديث: «من كان لله كان الله له» (روح البيان لإسماعيل حقي الخلوتي 1/92، ط: دارالفكر، بيروت)
عندما كان المسلمون ملازمين للدين وأحكامه، منصهرين في بوتقة السنة النبوية، كانوا منصورين بالرعب، وكانت خزائنُ الأرض تنثال عليهم، وكانت رقاب الأعداء الجبابرة تخضع لهم، وكانت أبواب العلم والتكنولوجيا مفتوحة على مصراعيها عليهم، وكانوا يمتلكون أَزِمَّةَ التقدم في كل مجال من مجالات الحياة، وكانوا مدفوعين بالطموح والذكاء والنشاط والقوة والانتعاش والهمة البعيدة التي لاتقاس بأيّ كم أو كيف؛ لأن الله أراد لهم كلَّ نوع من الخير الذي كان يأتيهم يُجَرِّر أذياله إليهم.
يُرْوَىٰ أن سفراء المسلمين الذين كانوا قد وَفَدُوا في قديم الزمان إلى ملك «كابول» يَشْكُونَ إليه عَدَمَ دفعه الضريبةَ التي يَسْتَحِقُّونَها عليه، رَنَا إليهم الملك، وتَفَرَّسَ فيهم، ثم قال لهم: أيها السفراء المُحْتَرَمُون! أين ذهب سلفكم الذين كانت رواحلهم حُروفًا نحيلة، وثيابهم مُرَقَّعَة، وأغماد سيوفهم متخرقة، وكانت الفاقة تنطق على وجوههم، وكانت جسومهم تشكو شدائد الزمان. وعندما سمع السفراءُ هذا السؤالَ العجيبَ رَنَا بعضهم إلى بعض، ثم تحدّث رئيس الوفد إلى الملك، وقال: أيّها الملك! إن أولئك كانوا أصحاب نبينا الحبيب –صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحلوا عن آخرهم عن دنيانا، ولايوجد منهم اليوم أحد. فتَوَجَّهَ إليهم وقال لهم بأسلوبه المملوء هدوءًا وثقةً: إذن فاذهبوا؛ لأنه ليس عندي ما أدفعه إليكم من الضريبة؛ لأنهم هم الذين كانوا يستطيعون أن يُخْضِعونا ويستوفوا الضريبةَ منا.
التاريخُ الإسلاميُّ عامرٌ بأمثال هذه القصة التي تحكي أن المسلمين نُصِرُوا بالرعب، عندما كانوا مؤمنين بكل ما في الكلمة من معنى، فكانوا مهيبين رغم كونهم ثيابُهم رثّةٌ، وحالتهم الظاهرة غيرُ لافتة، وعلى وجوههم أماراتُ الجوع الطويل، وأبدانُهم تنطق بأنهم يواجهون معاناةَ الحياة، وأنهم ليس لديهم ما يُزَيِّنُون به جسومَهم، ويُجَمِّلون به ظاهرَهم.
إن الأمة المسلمة قد هَابَتْهُمْ في الماضي الفُرْسُ والرومُ، وكانت كل من الأمتين قوتين كبريين في ذلك العصر مثل أمريكا وروسيا – التي هي خليفة الاتحاد السوفياتي الذي انهار منذ سنوات – ؛ ولكنها اليوم صارت غثاء كغثاء السيل لا يأبه بها أحد على وجه الأرض ولا يحسب لها حسابًا.
عندنا في الهند كثيرًا ما ينهض من يُسَمُّون أنفسهم «مُفكرين إسلاميين» أو يحبون أن يُسَمَّوْا بهذا الاسم اللامع، ويُحَدِّدُون علة تخلّف المسلمين بأنهم متخلفون في الثقافة الغربيّة، ولا يتلقون التعليم العصري، ولا يتخرج فيهم علماء بالعلم الحديث، ولا مهندسون، ولا أطباء، ولا مِهَنِيُّون متخصصون ولا اقتصاديون، ولا مَصْرِفِيُّون ومن إليهم على مستوى غيرهم من الأمم والأقوام التي بَذَّتْهم في هذه المجالات كلها وغيرها بدرجات كبيرة. وعلى ذلك فهم يُشَخِّصُون داءَ التخلف مُتَمَثِّلاً في التخلف المَادِّي المُجَرَّد، ولا يُعِيرون التفاتًا التخلفَ الديني الذي هو وحده مكمن الداء ومصدر البلاء.
منذ نحو تسعة عقود، وفي شهر نوفمبر 1930م بالذات أصدر أمير البيان شكيب أرسلان – رحمه الله – (1286-1366هـ = 1869-1946م) كتابه الشهير «لماذا تَأَخَّرَ المسلمون ولماذا تَقَدَّمَ غيرهم» وكان في الأصل مقالة كتبها ردًّا على خطاب سؤال وَجَّهَه إليه الشيخ «محمد بسيوني عمران» عن طريق أستاذه الشيخ «محمد رشيد رضا» – رحمه الله – (1282-1253هـ = 1865-1935م).
وكان «الأمير شكيب أرسلان» أرجع أسباب تأخر المسلمين إلى الأسباب التي تتلخّص في كونهم متأخرين فيما يتعلق بدينهم، أما التخلفات الأخرى فهي كلها ترجع إلى التخلف الديني؛ لأن علاقتهم القوية بالله كانت قد جعلتهم يفوقون جميعَ الأمم والأقوام حتى فيما يتعلق بالدنيا وتسخيرها لصالح الإنسانيّة ولصالح دينهم معًا.
وذكر على رأس القائمة الأسباب التالية التي قال عنها إنها هي التي سَبَّبَت أصلًا انحطاط المسلمين في أموردنياهم ودينهم.
الجهل: الذي حاربه الإسلام والذي جعل فيهم من لا يُمَيِّز بين الخمر والخلّ، فيتقبّل السفسطة قضيّةً مسلمة، ولا يجد الطريق إلى الردّ عليها وتفنيدها بأسلوب حاسم مقنع.
العلم الناقص: الذي هو أشدُّ خطرًا من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قَيَّضَ الله له مرشدًا عالمًا أطاعه، ولم يَتَفَلْسَفْ عليه. فأما صاحب العلم الناقص فهو لايدري ولا يقتنع بأنه لايدري. وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون. فيجوز أن يقال: الابتلاء بجاهل خير من الابتلاء بشبه عالم.
فساد الأخلاق: الذي إنما نشأ عن فقد الفضائل التي حَثَّ عليها الكتاب والسنة، وفقد العزائم التي حَمَلَ عليها سلفُ هذه الأمة، وبها أدركوا ما أدركوا من الفلاح واستعباد الأمم وإخضاع الأقوام التي استرقتهم أخلاقُهم وسيرتُهم وحسنُ سلوكهم. وذلك أن الأخلاق تلعب دورًا أكبر من المعارف والعلوم في تكوين الأمم. وقد صدق الشاعر العربي الكبير «أحمد شوقي» (1287-1351هـ = 1868-1932م) إذ قال:
وإِنَّما الْأُمَـمُ الْأَخْـلَاقُ مَا بَقِيَتْ
فَإِنْ هُم ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا
العلماء المُتَزَلِّفُون: وجاء العلماء المتزلفون للأمراء والقادة والحكام وأصحاب السلطات، والمتقلبون في نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، فزيّنوا لهم الفسادَ والشهواتِ والأهواءَ، وأفْتَوْا لهم بجواز قتل الناصحين بحجة أنهم شَقُّوا عصا الطاعة، وخرجوا عن الجماعة.
على حين عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أود الأمراء والحكام، وكانوا في الدول الإسلامية الفاضلة بمثابة المجالس النيابية، وكانوا يُسَيْطِرون على الأمة، ويُسَدِّدُون خُطُوَات الملك، ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة، ويهيبون بالخليفة إلى الصواب. وهكذا كانت تستقيم الأمور؛ لأن أكثر أولئك العلماء كانوا مُتَحَقِّقِين بالزهد، مُتَحَلِّين بالورع، مُتَخَلِّين عن حظوظ الدنيا، لايهمّهم أ غَضِبَ الْـمَلِكُ الظالم الجبار أم رَضِيَ؛ فكان الخلفاء والملوك يرهبونهم ويخشون مخالفتهم، لما يعلمون من انقياد العامّة لهم، واعتقاد الأمة إمامتهم.
إلّا أنّه بمرور الأيام خَلَفَ من بعد هؤلاء خلفٌ اتخذوا العلمَ مهنةً للعيش، وجعلوا الدينَ مصيدة للدنيا، فسَوَّغُوا للفاسقين من الأمراء والقادة والحكام أشنع الموبقات، وأباحوا لهم باسم الدين خرقَ حدود الدين.
هذا، والعامةُ المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء، وعلوّ مناصبهم، يظنّون فتياهم صحيحةً، وآراءَهم موافقةً للشريعة، والفسادُ بذلك يَعْظُمُ، ومصالحُ الأمة تذهب، والإسلام يَتَقَهْقَرُ، والعدوُّ يعلو ويَتَنَمَّر. وكلُّ هذا إثمه في رقاب العلماء.
الجبن والهلع: ومن أعظم عوامل تقهقر المسلمين الجبن والهلع، بعد أن كانوا أشهرَ الأمم في الشجاعة واحتقار الموت، يقوم واحدهم للعشرة، وربما للمئة من غيرهم، والآن أصبحوا يهابون الموت الذي لايجتمع خوفه مع الإسلام في قلب واحد.
الجامدون: الجامدُ هو سبب الفقر الذي ابْتُليَ به المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دينَ آخرة فقط، والحال أنه دين دنيا وآخرة معًا، وأن ذلك مزية له على سائر الأديان الأخرى، فلم يَحْصُرْ كسبَ الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه الدنيا، كما في ديانات أهل الهند والصين، ولا زَهَّدَه في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حَصَرَ سعيَه في أمور هذه المعيشة الدنيويّة، كما هي مدنيّة أوربّا الحاضرة. والجامدُ هو الذي شَهَرَ الحربَ على العلوم الطبيعيّة والرياضيّة، والفلسفية، وفنونها وصناعاتها، بحجة أنها من علوم الكفار، فحَرَمَ الإسلامَ ثمراتِ هذه العلوم، وأورثَ أبناءه الفقرَ الذي هم فيه، وقَصَّ أجنحتَهم؛ فإن العلوم الطبيعيّة هي العلوم الباحثة في الأرض، والأرضُ لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها؛ فإن كنا طولَ العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة، قالت لنا الأرض: اِذهبوا توًّا إلى الآخرة؛ فلَيس لكم نصيب مني.
ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم الدينية والمحاضرات الأخروية – التي لا ينكر أحد فضلَها وأولويَّتها – جعلنا أنفسنا في مركز ضعيف بإزاء سائر الأمم التي تَوَجَّهَتْ إلى الأرض، وهؤلاء لايزالون يعلون في الأرض ونحن ننحطّ في الأرض، إلى أن صار الأمر كله في يدهم، وصاروا يقدرون أن يَأْفِكُونا عن نفس ديننا، فضلاً عن أن يملكوا علينا دنيانا. ومن ليست له دنيا فليس له دين. وليس هذا هو الذي يريده الله بنا وهو الذي قال: «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـٰلِحٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ» (النور/55) وقال: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَـٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَـٰوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَـٰمَةِ» (الأعراف/32).
الجاحدون: أما الجاحدُ فهو الذي يأبى إلّا أن يُفَرْنج المسلمين وسائر الشرقيين، ويخرجهم من جميع مُقَوِّمَاتهم ومُشَخِّصَاتهم، ويحملهم على إنكار ماضيهم، ويجعلهم أشبه بالجزء الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر كان بعيدًا فيذوب فيه ويفقد هُوِيَّتَه. وهذا الميلُ في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه واعترافه بأن آباءه كانوا سافلين، وأنه هو يريد أن يبرأ منهم، لا يصدر إلّا عن الفسل الخسيس، الوضيع النفس. إن مثل هذا الميل مخالف لسُنَن الكون الطبيعية التي جعلت في كل أمة ميلاً طبيعيًّا للاحتفاظ بمُقَوِّمَاتها من: لغة وعقيدة، وعادات وطعام، وشراب وسكن، وغير ذلك، إلّا ما ثَبَتَ ضررُه.
ذلك مُلَخَّصٌ لرأي الكاتب والمفكر الإسلامي الكبير الأمير شكيب أرسلان، الذي سَجَّلَه في كتابه بالعنوان المذكور سابقًا عن تأخر المسلمين، منذ نحو 86 سنة. وكلنا يعلم أن الأوضاع في هذه الفترة الممتدة على هذه السنوات الطويلة لم تتغير، وإنما ازدادت سوءًا؛ فتقارير التمنية الإنسانية العربية – التي تصدر سنويًّا – تُؤَكِّد في ضوء الحقائق والأرقام أن أغلب الشعوب العربية – التي يبلغ تعدادها حَوَالَي 365 مليون شخص – تعيش في غياب أمن صحي أو اقتصادي أو اجتماعي أو إنساني. والتقارير تُشير إلى أن عدد الفقراء – الذين يعيشون على أقل من 3 دولارات في اليوم – يصل إلى أكثر من 65 مليون شخص من أصل نحو 165 مليون شخص فقير. أمّا مُعَدَّلَات البطالة فهي في أوساط الشباب نحو 25٪ من القوى العاملة من الذكور. أما مُعَدَّل البطالة بالنسبة إلى الشابات، فهو يصل إلى نحو 31٪ من مجموع القوى العاملة من الإناث. أما الأميّةُ فإنها لاتزال في عصر التنوّر هذا مرتفعة في العالم العربي؛ حيث إن عدد الأمييين يتجاوز المئة مليون شخص. وتقول الإحصائيات: إن أكثر من 75 مليونًا من إجمالي الأميين العرب تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 14 عامًا. أما المتخرجون من الجامعات العربية، فهم لا يصلحون إلاّ لأن يعملوا كَتَبَةً ومُوَظَّفِين. وإذا ألقينا نظرةً على العالم الإسلامي وجدنا لايختلف عن العالم العربي إلّا بنسبة ضئيلة جدًّا لا تصلح للتسجيل.
والمجتمعات في العالمين العربي والإسلامي، لايقود أغلبَها إلّا أنصافُ المتعلمين وأشباهُ العلماء.
أما العلماء المُتَزَلِّفون فقد زاد عددهم بنحو خطير، وارتفعت أصواتهم بفضل وسائل الإعلام المتطورة والقنوات الفضائية. ومواعظُهم المُوَجَّهَة إلى الفقراء والأثرياء تَحُضُّهم على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، على حين أنهم هم يعيشون حياة باذخةً مُرَفَّهَةً، وثرواتهم الشخصية تتراكم في البنوك، وتتراءى في القصور الشامخة، والسيارات الفارهة، والملابس الفاخرة.
والعلماء غير المتزلفين هم الآخرون حالتهم سيئة؛ حيث إنهم لايعيشون حياة مثالية تُشَكِّل نموذجًا تقتديه الشعوب وتحاكيه الجماهير، وتترامى عليه القلوب، ويكون موضع حبّهم وإعجابهم؛ لأن معظمهم – العلماء – يتظاهرون بالصلاح والتدين، وقلوبهم مسكونة بحب المال والوسائل الماديّة، ولا يهمهم إلاّ جمع الأموال وتكديس الثروات بأساليب ماكرة وحيل مُتْقَنَة، ويحسبونها خافية عن الناس؛ ولكنها تكون مكشوفة لهم؛ لأن أيّ خليقة يتخلق بها الإنسان لا تخفى على الخلق، وقديمًا قال الشاعر العربي الناطق بالحقيقة:
ومَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ
وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَىٰ عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
إنّ محاضراتهم في الدين ومواعظهم في الأحكام لا تُؤَثِّر في الناس، ولا تُصْلح ما فسد فيهم، ولا تساعد على تكوين مجتمع إسلاميّ منشود، وإنما الجماهيرُ تَـمُجُّ أقوالهم وتوجيهاتهم، ويقولون: في أنفسهم: هؤلاء أبناء الدنيا ومتها لكون على المادة والمعدة، لم يقدروا على أن يُصْلِحُوا أنفسهم؛ فأَنَّىٰ لهم أن يُصْلِحونا.
كثيرًا ما سمعنا على ألسنة بعض أساتذتنا الصالحين – الذين كانوا زاهدين في الواقع في الدنيا – أن خُلُوَّ المجتمع من العلماء الصالحين الصادقين الذين إذا جلس إليهم الناس ذكروا اللهَ، واندفعوا إلى التمسك بالدين والتقيد بأحكامه والإنابة إلى الله، خطرٌ هائلٌ لاخَطَرَ بعده؛ لأن العلماء المتهالكين على المادة والمعدة هم ابتلاء كبير لجماهير المسلمين الذين يفقدون فيهم قُدْوَةً، فيقولون: في أنفسهم: كأنّ ديننا لايقدر على تخريج مُمَثِّلِيه هم الآخرين على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، فكيف بغيرهم؟.
أما الفساد الخلقي فحَدِّث عن البحر ولاحرج، فقد ساد المجتمعات العربية والإسلامية جميعُ أنواع الأدواء الخلقية التي يحتاج علاجها إلى جهاد طويل ونضال كبير لايخوضه في الواقع إلاّ المنصهرون في بوتقة تعاليم الإسلام انصهارًا دقيقًا.
فالكذب والنفاق، والغش والرشوة، والسطو على المال العام، وعدم احترام القوانين، والمحاباة في الوظائف العامة، كلُّ ذلك صار أدواءً ملازمة مستوطنة في العالمين العربي والإسلامي.
أما الحكام والقادة وأصحاب السلطات والمسؤولون رفيعو المستوى، فقد زادوا بطشًا بمعارضيهم. وكثير منهم جَرُّوا بلادهم إلى الحرب الأهلية. وقد امتصوا ثروات بلادهم كالإسفنج، وأَثْرَوْا بها شخصيًّا، وتكدست لديهم ثروات لايعلم قدرها إلاّ الله الذي يعلم السِّرَّ وأخفى.
إن حالة الأمة اليوم لن تصلح إلاّ بما صلحت به حالة الأمة في الماضي. أي لا تصلح إلاّ بالرجوع إلى الدين بمعنى الكلمة الشامل الدقيق الذي يعني الاهتمام بجانب الآخرة إلى جانب الاهتمام اللازم بجانب الدنيا، لأن الإنسان المكَلَّفَ عبادَةَ الله مخلوق أرضي وليس مخلوقًا سماويًّا لايحتاج إلى الوسائل الأرضية الدنيوية التي يحتاج إليها الإنسان على الأرض؛ ليؤدي المسؤولية المنوطة به من عمارة الأرض وخلافة الله عليها. وقد صدق الله الحكيم العليم إذ قال:
«رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وفي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُؤلٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا» (البقرة/201-202).
وقَالَ:
«وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَـٰكَ اللهُ الدَّارَ الْأَٰخِرَةَ وَلاَتَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا» (القصص/77).
الجمعُ بين الدين – الذي هو الغاية والهدف الحقيقي لنجاة الآخرة – وبين الدنيا – التي هي وسيلة للعمل بالدين خادمة له مساعدة على تحقيق أهداف الآخرة – في توازن مطلوب يحتاج إلى التدين الحقيقي والصدور عن تعاليم الدين السمحة الشاملة. وهو الشيء الذي ضمن للأمة التقدم والازدهار والقيادة العالمية في الماضي وسيظل ضمانًا له بالتقدم والقيادة اليوم وغدًا.
(تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الثلاثاء: 5/جمادى الآخرة 1437هـ = 15/مارس 2016م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1437 هـ = مايو – يونيو 2016م ، العدد : 8 ، السنة : 40