دراسات إسلامية
بقلم: الدكتور رشيد كهوس (*)
هو الحافظ العلامة أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس، الإمام الحافظ المفيد العلامة الأديب البارع المفلق فتح الدين أبو الفتح بن الحافظ أبي عمرو بن الحافظ أبي بكر، الربعي اليَعْمُري الأندلسي الإشبيلي المصري، المعروف بابن سيد الناس. ولد في ذي القعدة – وقيل في ذي الحجة- سنة 671هـ بالقاهرة، وسمع الكثير من الجم الغفير، وتفقه على مذهب الشافعي وأخذ العلم عن والده وابن دقيق العيد(1) ولازمه سنين كثيرة، وتخرج عليه وقرأ عليه أصول الفقه، وقرأ النحو على ابن النحاس(2). وولي دار الحديث بالظاهرية، وصنف كتبا نفيسة. منها: السيرة الكبرى سماه «عيون الأثر» في مجلدين، واختصره في كراريس وسماه «نور العيون»، وهو محدث ثقة، توفي فجأة في شعبان 734هـ رحمه الله(3).
كان رحمه الله حافظًا بارعًا أديبًا متقنًا بليغًا ناظمًا ناثرًا كاتبًا مترسلًا، خطه أبهج من حدائق الأزهار، وآنق من صفحات الخدود المطرز وردها بآس العذار، حسن المحاورة، لطيف العبارة، فصيح الألفاظ، كامل الأدوات، جيد الفكرة، صحيح الذهن، جميل المعاشرة، لا تمل محاضرته، أدبه غض والإمتاع بأنسه نض، كريم الأخلاق، كثير الحياء، زائد الاحتمال، حسن الشكل والنعمة، قلّ أن ترى العيون مثله، وهو من بيت رياسة وعلم، عنده كتب كثيرة وأصول جيدة، سمع وقرأ وارتحل وكتب وصنف وحدث وأجاز وتفرد بالحديث في وقته(4).
أما كتابه النفيس وسفره الفريد الموسوم بـ«عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير»، فيعتبر من ذخائر التراث الإسلامي، ومن جواهره الثمينة وأعلاقه النفيسة لما جمعه من كنوز عظيمة عن سيرة النبي –صلى الله عليه وسلم- كيف لا وهو يعد من المصادر الأساسية التي استفاد منها الكثير من العلماء في تآليفهم.
وقد تميز كتاب «عيون الأثر» بسلاسة ألفاظه، وتسلسل أحداثه حسب تاريخها، وترابط وتنسيق بين أبوابه، كما تخلل كل حادثة بما يناسبها من الأشعار، قاصرًا على الاختصار، دون الحشو والإطناب، كما تجنب التكرار في ذكر الأسانيد والأنساب، فهو يذكر نسب الرجل عند وروده لأول مرة، هذا فضلًا عن شرح ما يجب شرحه من الألفاظ الغريبة الواردة في كل حادثة، مع إيراد الآيات والأحاديث الواردة المتصلة بكل حدث تاريخي.
قال في مقدمة كتابه يبين منهجه فيه بعدما ذكر ما حواه كتابه من الفرائد والفوائد، وما أتحف به القراء وطلاب العلم من الأشعار والأنساب وعوالي الإسناد، قال: «وأرحته – [الكتاب]- من الإطالة وما يتكرر منها، وذلك أني عمدت إلى ما يتكرر النقل منه من كتب الأحاديث والسنن والمصنفات على الأبواب والمسانيد وكتب المغازي والسير، وغير ذلك مما يتكرر ذكره، فأذكر ما أذكره بأسانيدهم إلى منتهاها: في موضعه، وأذكر أسانيدي إلى مصنفي تلك الكتب في مكان واحد عند انتهاء الغرض من هذا المجموع، وأما ما لا يتكرر النقل منه إلا قليلا، أو ما لا يتكرر منه نقل مما حصل من الفوائد الملتقطة والأجزاء المتفرقة فإني أذكر تلك الأسانيد عند ذكر ما أورده منها؛ ليحصل بذلك الغرض من الاختصار وذكرُ الأسانيد مع عدم التكرار»(5).
هذا، وقد ظهرت شخصيته بارزة في هذا الكتاب، إذ لم يكتف بالنقل الحرفي الذي يرويه؛ بل يتدخل باختصاراته واستدراكاته وشروحه وتصرفاته ومناقشاته، علاوةً على أنه لم يكن أسير السجع الذي كان سائدًا في عصره، بل حرر ألفاظه من كل قيد، وتركها تعبر عن الحقيقة.
وهذا الكتاب قد «بلغ من الشيوع والانتشار في عصر المؤلف وما بعده حدَّ التواتر؛ مما لا يجعل في اسمه ولا في صحة نسبته إلى صاحبه أدنى شك أو ريب»(6).
وهو كتاب كامل في السيرة افتتحها بالنسب النبوي الشريف وختمها بالتحاق النبي –صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، وأضاف إليها الحديث عن الشمائل المحمدية والمعجزات المصطفوية، وقد سلك فيه منهج المحدثين؛ لأنه كان محدثًا.
* * *
الهوامش:
(1) هو: علي بن محمد بن علي بن وهب بن مطيع، القاضي محب الدين أبو الحسن بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي الفتح بن الشيخ مجد الدين القشيري المعروف بابن دقيق العيد، ولد بـ«قوص» في صفر سنة 657هـ، وأخذ عن والده، وسمع الحديث وحدث. ولي تدريس الهكارية والسيفية وناب في الحكم عن والده، قال الإسنوي: وكان فاضلًا ذكيًا علق على التعجيز شرحًا جيدًا لم يكمله وانقطع في القرافة مدة، توفي في شهر رمضان سنة ست عشرة وسبع مئة ودفن عند أبيه. طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة، ترجمة رقم:513، ص225-226.
(2) هو: الشيخ الإمام العلامة حجة العرب بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد ابن النحاس الحلبي النحوي شيخ العربية بالديار المصرية، تخرج به الأفاضل، وتحرج منه كل مناظر ومناضل، وانتفع الناس به وبتعليمه، وصاروا فضلاء من توقيفه وتفهيمه، وكتب خطا أزري بالوشى إذا حبك، والذهب إذا سبك، ولم يزل على حاله إلى أن بلغ من الحياة أمدها، وأهدى الزمان إلى عينه بفقده رمدها، وتوفي رحمه الله تعالى يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة سنة 698هـ بالقاهرة، ومولده بحلب في سلخ جمادى الآخرة سنة 627هـ، وكان من العلماء الأذكياء الشعراء له خبرة بالمنطق وحظ من إقليدس وكان – على ما قيل – يحفظ ثلث صحاح الجوهري، ولم يتزوج قط، له «إملاء على كتاب المقرب» لابن عصفور، من أول الكتاب إلى باب الوقف أو نحوه، و «هدي أمهات المؤمنين» و «التعليقة» في شرح ديوان امرئ القيس. وله نظم. انظر: الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، ترجمة: 267، 2/10-14. الأعلام للزركلي، 5/297.
(3) طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة، ترجمة رقم:569، ص295-297. المجتمع المدني في عهد النبوة، أكرم ضياء العمري، ص49.
(4) الوافي بالوفيات، ترجمة رقم: 200، 1/220-221.
(5) عيون الأثر (تحقيق: الخطراوي ومتو)، 1/53.
(6) عيون الأثر (تحقيق: الخطراوي ومتو)، مقدمة المحقق.
* * *
(*) أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1437 هـ = مايو – يونيو 2016م ، العدد : 8 ، السنة : 40