دراسات إسلامية

بقلم: الأستاذ/ سيد محبوب الرضوي الديوبندي -رحمه الله-

(المتوفى 1399هـ / 1979م)

ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري(*)

15/أغسطس عام1947م:

       من الحقائق التي لاتجحد أن المكانة التي احتلتها جهود العلماء ومساعيهم في تحرير البلاد لايشق غبارهم فيها جماعة أخرى، فهذه الفئة هي التي أحيت فكرة التحرير في البلاد عقب الثورة الهائلة التي شهدتها الهند عام 1857م، حتى نفخت جهودهم المتواصلة المتتالية روح الحرية في البلاد كلها، وكان الإمام محمد قاسم النانوتوي (1248-1297هـ/1832-1880م) أبرز من حمل لواء الحرية وأعظم الدعاة إليها، ثم قام – النانوتوي- بتغذية هذه الفكرة وتنميتها بجد ونشاط، إلا أن مؤرخي تحرير البلاد فيه – وللأسف- لم ينصفوه في ذلك. ولك أن تدرك مدى الفرحة التي غمرت هذه الفئة – التي قـام النانوتوي بتعبئتها وإعدادها لتحرير البلاد – حين أظلت الحرية بظلالها عليها، بالكلمة التي ألقاها رئيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند(1)، على الجمع الحاشد من طلاب الجامعة وسكان المدينة في مهرجان الحرية، الذي عقد في الليلة المتخللة بين 14-15/أغسطس. و بما أن هذه الكلمة تسلط الضوء على بعض جوانب مآثر العلماء في مساعي تحرير البلاد فأَخْلِقَ بنا أن نورد هذه الكلمة بحذافيرها؛ حيث قال فضيلته ما معناه : «مشايخي العظام، و العلماء الأجلاء، وأعزائي طلبة دارالعلوم، إن هذا اليوم سيبقى يومًا خالدًا في تاريخ الهند، وإن الإمبراطورية العملاقة – التي أجمعوا على أن الشمس لاتغرب في نطاقها، والتي قال عنها أحد ممثليها المستكبرين و المتبجحين  وهو «جلاد ستون»(2) (Gladstone) في مجلس الشعب: «لقد بلغت إمبراطوريتنا من القوة ما لو أرادت السماء أن تقع عليها لَوَقَانَاها بأطراف الأسنة، ولن تضر إمبراطوريتنا شيئًا»- بدأت تنقرض انقراضًا ميسورًا يعجز التاريخ عن الإتيان مثله لا بسقوط السماء عليها، ولكن بهبوب بعض الذرات الأرضية عليها. ونبارك البلاد كلها بهذه الثورة بصفة عامةٍ، وخاصةً الشباب والشيوخ الذين أثمرت جهودهم ومساعيهم وتضحياتهم هذه الثمرات الطيبة للهند.

       ومن نكران الجميل أن نُغفل جهود عظماء الأمة الذين وضعوا – حقًا- أساس هذه الحرية و الاستقلال، وفي الوقت الذي لم تعهد هذه البلاد قلوبُها وعقولهُا فكرة التحرير والاستقلال. وهذه هي الفئة المجاهدة من تلامذة الشاه ولي الله الدهلوي (1114-6 117هـ /1702-1762م)، التي تسير هذه الدروب لابقلمها وحبرها، ولكن بسيوفها ودمائها، وفي عام 1857م حين أحكم الإنجليز سيطرتهم على البلاد، واستولوا عليها استيلاء كليًا لم تبق إلا هذه الفئة الوحيدة التي اسْتَبْقَتْ فكرةَ الحرية و الاستقلال في هذه البلاد، حتى جُن جنونُ الناس بها، وكان الإمام محمد قاسم النانوتوي – كما يقول الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي (1244-1323هـ/1829-1905م):- أعظمُ مَن حمل لواء هذه الفكرة وأشد الناس أمانةً على هذه العواطف، فقد حمل السيف بقيادة شيخه إمداد الله المهاجر المكي – رحمه الله- (1233-1317هـ /1817-1899م)، ونزل في ساحة الوغى ، وغامر بنفسه في ميدان التحرير والاستقلال، إلا أن عقبات الطريق أوقفت حملتهم ومسيرتهم عند منطقة «شاملي»، وحالت دون امتداد فتوحاتهم وانتصارتهم إلى عرش دهلي العاصمة، وبالتالي حُرِمت البلادُ الحريةَ والاستقلال، إلا أن هذه الفئة لم تغفل عن فكرتها ومسيرتها، فحين فارق الإمام النانوتوي هذه الحياة الدنيا خَلَفَه تلميذهُ البار شيخ الهند محمود حسن الديوبندي (1268-1339هـ/1851-1920م) في علمه وفكرته وورثهما عنه بحق، فواصل بجماعته المغامِرة مسيرةَ التحرير والاستقلال. وقال جمال باشا(3) – والي المدينة المنورة-: «ما لهذه الحفنة من العظام والجبة القصيرة – يشير إلى شيخ الهند- أقام العالم الإسلامي كله و أقعده؟»

       وعلى كلٍ فما كان يحمله هؤلاء العظماء من العواطف الجياشة المناوئة للاستعمار الإنجليزي لم يكن نابعًا من حرصهم على الجاه والمنصب، ولا الرغبة في تبوء كرسي الحكم، ولا لتمكين حزبٍ من الأحزاب من التحكم في البلاد؛ وإنما كان راجعًا إلى حرصهم على إنقاذ البلد المضطهد من براثن قوم جبارين، وإيصال الحق لصاحبه وبالتالي إعلاء كلمة الحق.

       وكان شُغلُ هؤلاء العظماء الشاغل وهمُّهم ليلَ نهارَ كيف يتمكنون من وضع نِير الاستعمار الإنجليزي من عنق البلاد. وكانت ثمة تنبؤات وكشوفات، وللتوصل إلى حلٍ وطريقٍ إلى ذلك جمع مسجدُ «تشته» بديوبند العظماء كلهم، وقال الحاج السيد محمد عابد – رحمه الله- (ت1331هـ/ 1912م) – نظرًا إلى استيلاء الإنجليز وسلطتهم وقوتهم الهائلة: «لقد أنشب الإنجليز مخالبهم بصورة رهيبة، فليت شعري كيف يمكن استيصالها واجتثاثها؟». فرد عليه الشيخ محمد يعقوب- (1249-1302هـ/1833-1884م)- وهو أول من ولي شياخة الحديث بجامعة دارالعلوم/ ديوبند- قائلا: «حضرة الحاج، أين أنت؟ فاليوم الذي تعود فيه الهند إلى الاصطفاف من غير حرب ولا مناوشة، تتقلب هذه البلاد رأسًا على عقب في أمن وسلام، ويُطوى بساطه من تحت أرجلهم كطي السجل للكتب، تمسي وأنت محكوم بالإنجليز -، وتصبح في غير حكمهم».

       وأنا لا أزدري بمن يغامرون بنفوسهم اليوم، ولكن يعزُّ علي أن أتخلى عن الصدع بأن حرية اليوم تشكل بناءً من المساعي والجهود الحثيثة وَضَعَ لبنتَه الأولى أولئك العظماءُ، وعليه  أصدع – دون خوف و لاوجل-: إن مساعي تحرير الهند هذه لم يَفتح بابَها إلا المسلمون، وهم الذين غذَّوا هذه الجهود و نمَّوها؛ فهذا الشاه عبد العزيز- رحمه الله- (1159- 1239هـ/ 1746-1823م) الذي أصدر فتواه ضد الإنجليز، واعتبر الهند دارَحرب، واستغلَ الإمام محمد قاسم النانوتوي والحاج إمداد الله هذه الفتوى. و تشربَا هذه الوصفة الشافية وسَقَيَاها غيرهما بتركيبةٍ خاصةٍ، واحتفظ شيخ الهند محمود حسن الديوبندي بهذه الوصفة بوضع خليط وحوّله إلى وضعٍ يلائم تناولُه كل  من هبَّ و دَبَّ. فبدأ الناس يتناولونه. فَعَمَّ وشمل واستوعب شريحةً واسعةً من الناس، ووصفةُ الخلافة – وإن كانت مُرةً – تناولها الناسُ عامةً، ثم عمت هذه الوصفة عمومًا جعل عاطفة الحرية تتجاوز المسلمين إلى أبناء البلاد من غير المسلمين، فنشطوا و استعدوا لها. فهذه ثمرة الحرية الحلوة التي نَجْنِيها اليوم من الجهود المشتركة بين المسلمين والهندوس، و يبارك بعضنا بعضا، وندعو بالخير لأولئك العظماء الذين بذروا بذورها حتى تحولت إلى دولة فيحاء، ونحن نجني ثمارها اليوم ناضجة. ألا إن استقلال الهند يشكل استقلالَ العالم الإسلامي كله، فتبريكاتنا أوسع و أشمل نطاقًا، فلكل من الدولتين: الهند وباكستان تبريكاتنا، ونبارك باكستان على أنها دولة مسلمة، و نبارك الهند على أنها وطننا. ولايسعنا اليوم أن نتغاضى عن الحقيقة القائلة بأن المسلمين عادوا أقلية ضئيلة في هذه البلاد، فحرية البلاد اليوم إذا كانت تحمل عواطف الفرح ونسائم المسرة بأن زالت سلطة الإنجليز التي امتدت مئتي عام، مما كانوا قلقين لها؛ فإنه يثير فيهم الهم والقلق من حياتهم الاجتماعية في هذه البلاد كيف تسير؟ وعليهم أن يبدأوا باتخاذ الخطوات من اليوم. ولاسبيل لهم – من المنظور الإسلامي- إلا أن يختاروا أحدهم إمامًا وأميرًا ذا دين وتَقْوَى يقوم فيهم بأمر الله وشريعته. وعلى الجماعات الإسلامية الهندية أن توحد كلمتها وتلم شعثها بدلًا من أن يتفرقوا أيادي سبا، فليكونا قلبًا واحدًا، وليجتمعوا على كلمة الإسلام، وليأخذوا نفوسهم باتباع أميرٍ واحدٍ في حياتهم الشرعية. وهذه الكلمة الواحدة يكمن فيها تفسير حياتهم الاجتماعية المبسط والمسهب. وإن أولى الأولويات لهم أن يتغاضوا عما مروا به من الأحداث في الماضي، ويمسكوا عن مد ألسنتهم بالسوء إلى غيرهم والطعن بعضهم في بعض، ولايتَّهِمَ بعضهم بعضا، وإنما عليهم أن يقلقوا على مستقبلهم، ولينظروا في الوجوه التي تورث الأخوة والتناعم و التكاتف والتي تجمع كلمتهم وتوحد صفوفهم، مما لايعجزون عن الأخذ بها والعض عليها بالنواجذ. و فيما أرى أنه من الممكن – أكثر من ذي قبل- أن نوحد صفوفنا؛ فإن الأحزاب التي كانت مبعث الشحناء والبغضاء والصراع قد تحولت وانقلبت بهذا التقلب، وتبدلت تبدل الهند على أرض الواقع، فأَحْرِ بِنَا؛ بل الواجب علينا – بدلًا  من أن نؤسس أحزابًا جديدةً ونبذر بذورالخلاف والشتات ونغذيها – أن نضع حجر أساس توحيد كلمة الأمة، ونتوصل من خلاله إلى حلول مناسبة لكافة المشكلات و القضايا التي نشأت في الهند الجديدة».(4)

وبهذه المناسبة أصدر دارالعلوم/ديوبند إعلانًا يلي:

       «إن دارالعلوم/ديوبند مدرسة دينية ومؤسسة علمية عملاقة، حافظت على توجيهاتها ونشاطاتها التعليمية في خضم الفوضى السياسية في البلاد، ولم تَدَع الخلل يتسرب إلى مسيرتها التعلمية متفاعلة مع حركة من الحركات الطارئة، وأما على مستوى معارضة السلطة الإنجليزية البريطانية على البلاد فهيهات وهيهات أن تتنكر دارالعلوم لأمتها وحركاتها الوطنية، وإنما ساهمت في مثل هذه الشؤون الوطنية مساهمةً مسؤولةً.

       وإن حدث حرية الهند الوطنية والخطوة الأولى من خروجها من سلطة الاستعمار البريطاني ليس مما تنأى دارالعلوم بنفسها عنه؛ فإنها – دارالعلوم- لتقرُّ عينًا وثلج فؤادًا من استقلال البلاد؛ بل هي متفائلة به الحريةَ الحقيقية في المستقبل، وتعتبرها مقدمات لمسرات وأفراح كثيرة لا حقة في الأيام اللاحقة.

       وتعبيرًا عن مسرتها وفرحها بحدث استقلال الهند المبدئي هذا وأملًا في الاستقلال النهائي قررت دارالعلوم اعتبار 15/أغسطس يوم إجازة عامة، فهي – دارالعلوم- تشارك البلاد في فرحتها الغامرة العامة بهذه الإجازة.

       وها هي الهند تجني اليوم أول ثمار الحرية بعد استعباد دام مئتي عام، ونحن نبارك كل أصدقائنا الذين  قدموا التضحيات في سبيل تحرير البلاد، داعين المولى – عزوجل- أن يتقبل مساعيهم ويمنَ عليهم بالحرية والاستقلال، آملين أن يواصل هؤلاء المغامرون جهودهم ومساعيهم حتى تتمتع البلاد بالحرية المتكاملة، وتتوفر لهم فرص القيام بشعائر دينهم في جو يسوده الحرية والاستقلال».(5)

*  *  *

الهوامش:

(1)        يقصد به الشيخ المقرئ محمد طيب رئيس الجامعة سابقا.

(2)        وليام إوارت جلادستون William Ewart Gladstone (1809- 1898م)، أحد أشهر القادة السياسيين البريطانيين في أوائل القرن التاسع عشر. كان قائدًا علمانيًا بارزًا في كنيسة إنجلترا وألف عدة كتب في اللاهوت. تم انتخابه لمجلس العموم في عام 1832م عن حزب المحافظين، وأثناء الجدل حول إلغاء قوانين الحبوب في عام 1846م، تحول جلادستون تدريجيًا من حزب المحافظين إلى حزب الأحرار، وعمل في مجالس وزراء حزب الأحرار ولأحزاب مختلطة وزيرًا للخزانة، وأصبح مشهورًا بميزانياته التي خفّض فيها ضريبة الدخل وألغى فيها العديد من ضرائب الاستيراد. وبحلول عام 1865م اشتهر بكونه خطيبًا وخبيرًا ماليًا وليبراليًا مخلصًا. وفي عام 1868م بدأ جلادستون فترته الأولى رئيسًا للوزراء. ثم رئيس الوزراء عام 1868– 1874م. للاستزادة من أخباره راجع:  https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8

(3)        هو أحمد جمال باشا (1873-1922م)، قائد الجيش الرابع عثماني و وزير البحرية، عُيّن حاكمًا على «سوريا» وبلاد «الشام» عام 1915م وفرض سلطانه على بلاد الشام وأصبح الحاكم المطلق فيها. وهو من زعماء جمعية الاتحاد والترقي، قاتل البلغار في مقدونيا واشترك في الانقلاب على السلطان عبد الحميد. وشغل منصب وزير الأشغال العامة بعام 1913م ثم قائدًا للبحرية العثمانية عام 1914م. قُتل جمال باشا في مدينة تبليسي عام 1922م على يد أرمني بسبب أنه كان واحدًا ممن خططوا لإبادة الأرمن ضمن حركة واسعة عرفت بعملية نيمسيس أي العقاب طالت جميع المسؤولين عن تلك الإبادة. للاستزادة من أخباره راجع: https://ar.wikipedia.org/wiki/%

(4)        مجلة «دارالعلوم» ذوالقعدة عام 1366هـ (أكتوبرعام 1947م).

(5)        مجلة «دارالعلوم» شوال عام 1366هـ (سبتمبر عام 1947م).

*  *  *


(*)    أستاذ التفسير واللغة العربية وآدابها بالجامعة.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1437 هـ = مارس – أبريل 2016م ، العدد : 6 ، السنة : 40

Related Posts