دراسات إسلامية
بقلم: أسامة نور/ القاسمي (*)
كثيرًاما نجد الناسَ يشكون: لماذا لا يُؤَثِّر الداعية اليومَ تأثيرَ الدعاة السلف الصالحين في الذين كانوا يخاطبونه بالدعوة؟ لماذا صارت الدعوةُ اليومَ مهنةً ضائعةً لحدّ كبير. كثرت وسائلُ الدعوة، وكثر الدعاةُ، وسَخَّرَتِ الحكوماتُ والشعوبُ إمكانيّات هائلةً وطاقات جبّارةً، ولكنّها كلها لا تُعْطِي من النتائج ما كان يَتَأتَّىٰ في الماضي عن طريق داعية أو عدد معدود من الدعاة.
إذا تَعَمَّقْنَا في بحث أسباب فشل الدُّعَاة أو قلّة تأثيرهم في المدعوّين وعَدَمِ فعّاليّة نشاطاتهم وتحرّكاتهم الكثيرة المُكَثَّفَة المُتَّصِلة، وجدنا أنه على رأسها قلة الإخلاص أو فقده كُلِّيًّا؛ لأن الدعوة إلى الله إذا لم يصاحبها الإخلاص، لا يحدث أنّها تكون مرفوضة من قبل الله لا ينال الداعية منه ثوابًا وجزاءً عليها، وإنما يحدث كذلك أنها لا تُعْطِي نتيجةً، ولا تُحْدِث تغييرًا في المدعوّين المرادُ إصلاحُهم وتطهيرهم من المفاسد أو من الضلال الذي ظلّوا يتيهون فيه.
إنّ الإخلاص وتجريد النية لله وإفراد العبادة والعبودية له هو الشرط الأساسي لقبول قول من الأقوال وعمل من الأعمال عند الله عزّ وجلّ. فإذا قصد الرجل من وراء أعماله أو أقواله غيرَ وجه الله، ونوى تحقيق غرض من أغراض الدنيا من المال والجاه والسلطان والشهرة والتزلّف إلى من بيده الجاه والسلطان، فلن يقبل الله أعماله وأقواله.
وفي ذلك وَرَدَ حديث صحيح رواه الشيخان عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : «إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» (رواه البخاري برقم 1907 واللفظ له)
الإخلاص ينافي كُلًّا من الشرك والرياء، والغش والخداع، والنفاق والكذب، والاحتيال وما إلى ذلك من الصفات السلبية التي تَتَحَوَّل الأعمال والأقوال معها غير مُخْلَصَة وغيرَ مُفْرَدَة لله عز وجلّ الذي هو أغنى الشركاء عن الشرك، فعن عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. مَنْ عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركه. (مسلم، برقم 2985).
الإخلاصُ هو روح العمل ولبّ العبادة والأساس الذي إذا قامت عليه الأقوال والأعمال والعبادات والمعاملات أو التحركات الدينية تقبّلها اللهُ بقبول حسن، وإذا لم تقم عليه كانت جسدًا بلاروح، ولم تَعْدِلْ عند الله جناحَ بعوضة.
روى الترمذي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا جمع اللهُ الأوّلين والآخرين ليوم القيامة، نَادَىٰ مُنَادٍ: مَنْ كان أشرك في عمله لله أحدًا، فَلْيَطْلُبْ ثوابَه من عنده؛ فإنّ الله أغنى الشركاء عن الشرك» (الترمذي، برقم 3154).
فإذا شابَ قولًا أو عملًا أيُّ شيء يُكَدِّر صفوَه وإخلاصَه لله عزّ وجلّ، ضاع أجرُه، ولم ينل عنده تعالى قبولًا، ولم يَبْقَ في نطاق العبادة التي تحظى بالارتفاع إلى سُمُوّ الرضا الربّاني. جاء في الآثار أن شَهْر بنَ حَوْشَب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – فقال: أَنْبِئْنِي عمّا أسأل عنه، أرأيتَ رجلًا يُصَلِّي يبتغي وجه الله ويُحِبّ أن يُحْمَد؟ فقال: عبادة ليس له شيء، إن الله – تعالى – يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كلُّه، لا حاجة فيه. (المصنف لابن أبي شيبة برقم 34811).
ومن تَفَقَّدَ اليومَ سلوكَ الداعية، ودرس سيرته، وقرأه في إطار عمله وتحركه كله، وجده في الأغلب أنه اتّخذ الدعوةَ حِرْفَةً تُدِرُّ له الربحَ قليلاً أو كثيرًا، وتُكْسِبُه الجاهَ والسمعةَ، والمكانة المرموقة في المجتمع الإسلامي.
ومن هنا يخالف الداعيةُ بظاهره باطنَه؛ فهو صالح وليّ تقي نقيّ متضرع إلى الله يخشاه للغاية في العلن، وهو فاسد مفسد، مظلم القلب، جريء على الله، لا يراعي حكمًا من أحكامه في السرّ والمكان الخافي على أنظار الناس.
يُطِيل الصلاة في المسجد، ويُقَصِّرها جدًّا في البيت، يبكي على المنابر ولدى إلقاء الخطب والمحاضرات أمام الناس، ويَقْسُو قلبه في الخلوات، فلا تفيض له عين، ولا تقطر له عبرة، ولا تسيل له دمعة، ولا يتخوف قلب في صدره.
يأمر الناسَ بالبرّ ويَنْسَىٰ نفسَه، يخشى الناسَ والسادةَ والحكامَ وذوي الجاه والمكانة، واللهُ أَحقُّ أن يخشاه. يأمر الناس بالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وعلى أرض الواقع هو يحرص أشدَّ الحرص على الدنيا ويَزْهَد الزهدَ كلَّه في الآخرة، كلُّ همّه من وراء الدعوة هو جمع القناطير المُقَنْطَرَة من الذهب والفضّة، والقصور الشامخة، والسيّارات الفارهة، والملابس الفاخرة، والأثاث والرياش، وكل شيء تَتَحَلَّبُ له الأفواه وتَتَلَمَّظُ له الشفاه.
الداعية المرائي لاينفع الخلق؛ لأنه يُسْلَب تأثير عمله الدعوي؛ حيث إنّ من يقول ولايفعل، ويدعو الناس إلى شيء ولا يأتيه؛ يشعر الناس بظلام كثيف غريب لا يوصف في قوله وسلوكه، فينفرون من أقواله الجوفاء المُجَرَّدَة من نور العمل. هذا في الدنيا وفي الآخرة لاينال إلّا الحسرة والخسران؛ ففي الحديث الشريف عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يُؤْمَرُ ليوم القيامة بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دَنَوْا فيها واستنشقوا ريحها، ونظروا إلى قصورها وما أَعَدَّ اللهُ لأهلها فيها، نُودُوا: أن اصْرِفُوهُمْ عنها؛ فلا نصيبَ لهم فيها، فيرجعون بحسرة ما رجع الأوّلون بمثلها، فيقولون: ربّنا لو أَدْخَلْتَنَا النارَ قبل أن تُرِيَنَا الجنةَ – وفي رواية: قبل أن تُرِيَنا ما أَرَيْتَنا من ثوابك وما أَعددتَ فيها لأوليائك – لكان أهون علينا. قال: ذاك أردتُ بكم، كنتم إذا خَلَوْتُمْ بارزتموني بالعظائم، وإذا لَقِيتُم الناسَ لَقِيتُمُوهم مُخْبِتِـينَ، تُراؤُونَ النّاسَ بخلاف ما تُعْطُوني من قلوبكم، هِبْتُمُ الناسَ ولم تَهَابُوني، وأَجْلَلْتُمُ الناسَ ولم تُجِلُّوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي. اليومَ أُذِيقُكُمْ أليمَ العذاب مع ما حُرِمْتُمْ من الثواب» (المعجم الأوسط للطبراني برقم 5478).
إن المُرَائِين من الدُّعَاة مصيبة فادحة على الناس وعلى أنفسهم؛ لأنّ أيّ وسيلة من الوسائل الحديثة المتطورة التي يُعْمِلُونها لدى القيام بالدعوة، تفقد فَعَّالِيَّتَها من أجل الصفة السلبية الكريهة الشنيعة التي تُمَيِّزهم عن غيرهم من الدعاة المخلصين، كما أنهم يُقَدِّمُون إلى الناس صورةً مُشَوَّهَةً للإسلام؛ لأنهم يرون أن هؤلاء الدعاة أحرص منهم على الدنيا والجاه والمكانة والشهرة، فيشكّونون في حَقِّيَّة ما يدعون إليه من الدين وتعاليمه، وبذلك فإن الدين تضطرب لديهم حالتُه، وتهتزّ صورتُه، وتفقد تعاليمه مَعْنَوِيَّتَها لديهم، وبالتالي عظمتها واحترامها.
إنّ الدعاة المُرَائِين المُصَابِين بعبادة الذات، الحريصين على كسب السمعة والذكر وثناء الناس، الشَرِهين على جمع المال وإشباع المعدة، المصابين من الأمراض الاجتماعية والنفسية بما لايُحْصَىٰ، منها التعالى وكراهة الآخرين، والحقد على الغير، وحسد الناسَ ما لديهم من النعم الظاهرة والباطنة، والطمع في أن يَسُودُوا ولا يُسَادُوا، وفي أن تَتَضَخّم شخصياتهم فتتضاءل أمامهم جميع الأشخاص، هم في الأصل عُبَّاد الدنيا لم يتعلّموا الدين إلا لِيَتَصَيَّدُوا به الدنيا، ولم يشتغلوا بالدعوة إليه إلا لينالوا بها الجاهَ والذكرَ الواسعَ.
رُوِيَ عن علي – رضي الله عنه – أنه ذكر ذات يوم فتنًا تكون في آخر الزمان، فقال له عمر – رضي الله عنه – متى ذلك يا عليُّ؟. قال: إذا تُفُقِّهَ لغير الدين، وتُعُلِّمَ العلمُ لغير العلم، والْتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة. (جامع معمر بن راشد برقم 20743).
إن هذه الأمراض الكريهة هي التي سلبت الدعوة اليومَ مفعولَها، وجَعَلَتْها لا تُصْلِح ما فسد، ولا تبني ما انهدم وتَخَرَّبَ، ولا تُسْعِد الأشقياءَ، ولا تُحْدِث تغيرًا اجتماعيًّا في المجتمع الإنساني المنهار المشرف على الدَّمَار.
وليعلم الدعاة أن اليسير من الرياء أيضًا شرك يحاسب عليه العبد يوم القيامة وهم أحوج الناس إلى أن يُخْلِصُوا عملهم لله تعالى.
عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر – رضي الله عنه – خرج إلى المسجد، فوجد مُعَاذًا عند قبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يبكي. فقال: ما يُبْكِيكَ؟. قال: حديثٌ سمعتُه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياءَ الله فقد بارز اللهَ بالمحاربة. إنّ الله يحبّ الأبرارَ الأتقياءَ الأخفياءَ، الذين إن غابوا لم يُفْتَقَدُوا، وإن حضروا لم يُعْرَفُوا، قلوبُهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غَبْرَاء مُظْلِمَة» (سنن ابن ماجه برقم 3989).
وعن ابن عبّاس – رضي الله عنهما – قال: قال رجل: يا رسول الله! إني أقف الموقفَ أريد وجهَ اللهِ وأريد أن يُرَىٰ مَوْطِنِي. فلم يردّ عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى نزلت: «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوْا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِٓ أَحَدًا»(الكهف/110).
إن الدعوة إنما فقدت تأثيرها اليوم على أيدي هؤلاء الدعاة الذين ذُكِرُوا فيما سبق من السطور؛ لأن الدين الذي جاء به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن ليجعله أمثالهم حِبَالَةً يصطادون به عقولَ الناس وقلوبهم ليجمعوا به أكبر قدر من المال والجاه والشهرة والوسائل الدنيوية الكثيرة. فإذا صنعوا ذلك فلهم هو، ولم يكن ليُغَيِّر القلوب، ويصلح العقول، ويزرع الخير، ويدفع الشرّ.
(*) المتخرج من الجامعة الإسلامية: دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الآخرة 1437 هـ = مارس – أبريل 2016م ، العدد : 6 ، السنة : 40