الفكر الإسلامي
بقلم : الكاتب الإسلامي الأستاذ أنور الجندي رحمه الله
إن لكل أمة أسسًا ثابتة راسخة تقوم عليها عقيدتها وثقافتها ، ومن هذه الأسس تتكون عقلية الأمة ووجدانها .
أما في الإسلام فإن التصور الربّاني جامع متكامل يجمع بين الروح والجسد ، والعقل والوجدان ، والدنيا والآخرة .
وهو تصور فريد يختلف عن تصورات الأمم المختلفة التي تقوم على أساس المادّة في بعض الجوانب وعلى أساس الروح في جوانب أخرى ، وهو بهذا التكامل الجامع وهذه السعة في الآفاق والمرونة في الالتقاء مع كل الثقافات والحضارات العالمية قادر على البقاء والاستمرار والامتداد ، وبعيد كل البعد عن الجمود أو التخلف أو التطرف أو التعصب.
فتصوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي مستمد من النفس الإنسانية الجامعة بين قبضة الطين ونفخة الروح ، وقد جاءت هذه المذاهب والفلسفات التي يتحرّك العالم بها اليوم من بعده ، فقد سبقها بأكثر من أربعة عشر قرنًا في تقديم التصور الذي يسعد البشرية ويملأ حياتها بالأمن والسكينة ويرُدّ عنها القلق والتمزق .
فهذا المفهوم المتكامل الجامع يحمي الأمة من المفاهيم الانشطارية ، ويرُدّ عنها أزمات الصراع الذي يسود المجتمعات الحديثة : سواء التي قامت على أساس التصور الليبرالي أو التصور الماركسي .
كذلك فالإسلام يقيم العقلية الجامعة التي تضم العقلانية والغيبية في إطار كامل ، فهو لا يعلي شأن العقل على النحو العلماني المضلل ، كما أنه لا يقر مقولة أن كل ما ليس عقلانيًّا فهو فكر غيبي ، فالعقلية الإسلامية عقلية جامعة بين الغيبي (الروحي) والمادي في موازنة أصيلة ، وتقدم التصور الإسلامي للكون والوجود والحياة والمجتمع في منظومة كاملة قائمة على مفهوم القرآن الكريم والسنة الصحيحة من حيث الإيمان بالله تبارك وتعالى وكتبه ورسله وبالغيب والبعث والجزاء الأخروي .
فالعقلية الإسلامية الجامعة بين العقل والوجدان وبين الروح والمادة هي عقلية قرآنية أصلاً ، تتكامل فيها القيم ، وتبعد بعدًا شديدًا عن مفهوم العقلانية الغربي الذي يقوم على جانب واحد هو المادة والمحسوس .
* * *
وفي ضوء هذا المفهوم الإسلامي تتشكل عقلية الأمة ويتشكل وجدانها بالنظر في جميع الثقافات العالمية نظرة واعية بعرض مفاهيمها على أسسه الأصيلة، فيقبل منها ويرفض، وما يقبله يصهره في كيانه، فلا يكون في يوم من الأيام تابعًا أو يمكن أن يذوب في الكيانات الأخرى التي هي أقل من المفهوم الإسلامي الجامع بينما تبقى هي انشطارية .
ولقد جاء الإسلام ليقدم للبشرية مفهومه الجامع بعد أن تردت طويلاً في الصراعات والمفاهيم المادية والعجز عن التصور الكامل ، وكانت أبلغ قصورًا عن التوحيد وإقامة العلاقة الحقيقية بين الإنسان والله تبارك وتعالى خالقًا ورازقًا ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ﴾، فيقرّ الإنسان بأنه مستخلف لله تبارك وتعالى في الأرض ، عليه أن يقوم بمسؤوليته في العمران والسعي في الأرض على نفس المنهج الذي رسمه له خالقه .
وقد أفاض القرآن الكريم في تصوير أمر الأمم التي خرجت عن مسؤوليتها الفردية والتزامها الأخلاقي وكيف دُمِّرَتْ ومُزِّقَتْ شرَّ ممزق ، وفي ذلك عبرة للمسلمين ليقيموا حضارتهم في إطار الإيمان بالله تبارك وتعالى وبالجزاء الأخروي .
ولا ريب أن هناك محاولات مستمرة من القوى المعارضة لمنهج الله والتي تحاول أن تحيد بالمسلمين عن الطريق الذي رُسِمَ لهم :
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِيْ مُسْتَقِيْمًا فَاتَّبِعُوْهُ وَلاَ تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِه﴾ . سورة الأنعام آية 153.
ولقد حاول النفوذ الأجنبي (الغربي والماركسي) خلال أكثر من قرن من الزمان أن ينفذ إلى التصور الإسلامي بالتشكيك والتزييف في محاولة للانحراف بالعقل المسلم عن طريقه الربّاني وأسلوبه القرآني . وذلك بسيطرة المفاهيم المادية الإباحية والإلحادية المستمدة من التراث الوثني لليونان والمجوس والعنوصية والباطنية. وهو تاريخ سابق للإسلام في محاولة لاحتواء الفكر الإسلامي من جديد، وقريبًا من المحاولة التي أجراها حنين بن اسحق في أيام المامون، والتي نتجت عنها محنة خلق القرآن التي تورط فيها المعتزلة. ولقد تجمع علماء المسلمين الأبرار وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل لمقاومة هذا الفكر وحربه والكشف عن زيفه على النحو الذي قام به الإمامان الغزالي وابن تيمية .
وفي الجولة الجديدة الممتدة اليوم، كانت محاولة احتواء العقل المسلم بترجمة الفلسفات المادية وفرضها على مناهج الدراسة في عديد من المؤسسات العلمية في البلاد العربية والإسلامية .
ولقد جاءت هذه الجولة في مرحلة ضعف وتخلف يمرّ بالمسلمين؛ ولذلك فقد استمرت وانتشرت طويلاً وقد استطاع علماء الإسلام الأبرار أمثال (إقبال، والندوي، والمودودي، وحسن البنا.) وغيرهم كشف هذه المؤامرة، فبدأ المسلمون يتحامونها ويحذرون من أخطارها . هذه المؤامرة تتمثل في الدعوة إلى :
أولاً : تطوير الإسلام والهجوم على الشريعة، وهي دعوى مضلّلة؛ لأن المناهج البشرية هي التي تحتاج دائمًا إلى تطوير لعجزها عن العطاء المتصل ولأنها تصاب بالتخلف في ضوء متغيرات الزمن والبيئة. أما الإسلام؛ فقد جاء واسع الأطر مرنًا قادرًا على تقبل هذه المتغيرات؛ فقد أنشأه العلي الكبير؛ ليكون صالحًا إلى آخر الزمان .
ثانيًا : الهجوم على الوحدة الإسلامية ، والتشكيك فيها باعتبارها الخطر الأكبر القائم في وجه النفوذ الأجنبي .
ثالثًا : الحملة على القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ومحاولة إثارة الشبهات حول النص القرآني وإثارة دعاوي باطلة عن السنة مع البحث عن متشابهات وتقطيع أوصال النصوص .
رابعًا : الهجوم على اللغة العربية والادعاء بأنها لغة صعبة، ومحاولة إحياء العاميات، وتغليب اللغات الأجنبية عليها في مواقع كثيرة. ذلك أن اللغة العربية هي وعاء القرآن الكريم الذي هو الهدف الحقيقي من الحملة .
خامسًا : تفريغ التأريخ الإسلامي من ضوئه الباهر، وإثارة الشبهات حول وقائعه ، وحجب مواقفه الحاسمة والادعاء بأن العرب خرجوا من جزيرتهم من أجل الطعام .
سادسًا : الإساءة إلى التراث الإسلامي بحجب الجوانب الإيجابية منه بعد أن استطاع الغرب السيطرة على آلاف المخطوطات العربية . وذلك محاولة منهم لإذاعة التراث الزائف والمضطرب .
سابعًا : إحياء التراث الباطني والغنوصي وتراث الفلسفات القديمة (اليونانية والفارسية) لإحداث بلبلة وتضليل لمعارضة هذا التراث جميعه لمفاهيم التوحيد الخالص .
* * *
كل هذا يدعونا إلى العمل على حماية العقل المسلم من اختراق هذه المفاهيم الإلحادية والمناهج الوافدة عليه. وذلك بالكشف عن الحقائق المتصلة بالفِرَق الضالة :
(الشعوبية ، الراوندية ، الزنج ، القرامطة ، البهائية ، القاديانية ، الأحمدية) .
ودحض مقولة، (العدل والحرية) التي تنسبها بعض الكتابات لقرامطة وغيرهم .
2- تنقية علوم الفلسفة والمنطق والتأريخ في المدارس والجامعات من كلّ ما يتعارض مع العقيدة الإسلامية .
وتقديم مفهوم التوحيد الخالص محررًا من علم الكلام ، والفكر المعتزلي. وذلك بالتماس منهج الإسلام الأصيل في العقائد بعيدًا عن المنطق الأرسطي أو التصوف الفلسفي .
3- الكشف عن فساد منهج أرسطو في الرق، وتصحيح أخطاء الفلسفة اليونانية. وكيف رفض المسلمون منهج أرسطو؟ وكيف صدّره الغرب للمسلمين مرة أخرى ؟.
4- تصحيح ما أضافته الشعوبية إلى التاريخ الإسلامي ، سواء في تفسيره وفق مذهب التفسير المادي أو إعادة كتابته .
5- الكشف عن أخطاء الفارابي وابن سينا في التصور الفلسفي وبعده عن مفهوم الإسلام .
6- التعرف على المؤامرة الباطنية من خلال رسائل إخوان الصفا وغيرها ، وكشف فساد نظرية الشك الفلسفي وإقحامها على مناهج الفكر الإسلامي .
7- محاولة تغيير مفهوم الإسلام الأصيل :
(1) للجهاد. (2) للربا. (3) لتحديد النسل.
* * *
وعلينا أن نواجه في حسم محاولة إحياء الفكر الباطني والتصوف الفلسفي التي يقوم بها دعاة الحداثة الذين يحيون أفكار ابن الراوندي، والحلاّج، وابن سبعين، وابن عربي، ويحاولون إعطاء فكرهم صفة الصدارة في قيادة الفكر الإسلامي، بالإضافة إلى الذين يتصورون حرية الفن وانطلاقه خارج ضوابط القيم الأخلاقية، وما يحاولون بثه في مجال المسرح والدراما، ونظرية المحاكاة والصراع بين الإله والبشر. وكل هذه مفاهيم مسمومة وزائفة قضى الإسلام بمفهوم التوحيد عليها؛ فلا عودة إليها مهما حاول دعاة الفلسفة المادية .
* * *
لعلنا نذكر أن تشكيل عقلية الأمة الإسلامية قائمة بحركتها في دائرة ثوابت الإسلام حيث لا يستطيع العضو الغريب أن يحيي أو أن يمتد. ولقد حاولت منذ قرنَين دعواتِ الفكر المادي والإباحي السيطرة بدعوات متعددة، فسقطت جميعها وعجزت عن العطاء . وكشف الإسلام عن قدرته على مواجهتها.
ولقد حاولت (الدارونية) أن تسيطر على الفكر الإسلامي بمفهوم الدهرية، فحاربها «جمال الدين» وقاومها أتباعه ولم يستطع دعاتها أمثال شبلي شميل، وسلامة موسى، ولويس عوض، أن يجدوا لها مجالاً، وحاولوا مثل ذلك بالنسبة للماركسية ثم للفرويدية وكذلك للوجودية (سارتر) ولنظرية العلوم الاجتماعية (دوركايم)، وفرضوا هذه النظريات على مناهج الدراسة بحسبان أنها قوانين اجتماعية وليست فروضًا قابلة للخطأ والصواب؛ ولكن التجربة نفسها بمرور الزمن كشفت عن عجز هذه النظريات عن أن تقدم للإنسان المسلم تصورًا اجتماعيًا يعزله عن المنظومة الإسلامية الجامعة بطابعها الربّاني وأدائها الممتد وقدرتها على مواجهة العصور والبيئات المختلفة .
وكانت التجربة الأخيرة والخطيرة هي سقوط الشيوعية بمفهومها الماركسي والاشتراكي والتعريبي، وباعتبارها حلقة تالية لنظرية العلمانية الضالّة المضلة .
ولاريب أن سقوط هذه المناهج وعجز المنهج الغربي العلماني عن العطاء في أفق الإسلام يؤكد تمامًا حقية الإسلام بوصفه المنهج الرباني الذي لايغلب والذي يستطيع أهله ابتعاث نهضتهم إذا انحرفوا من خلاله مرّة أخرى .
وأن أيّ مذهب مادي أو إباحي يحاول أصحابه أو يفرضوه على أمة الإسلام لن يستطيع الاستمرار والمغالبة؛ لأنه فكر البشر القاصر الذي تحترمه الأحداث والذي يعجز عن العطاء الإنساني العام، فقد يكون رد فعل لحدث في مجتمع معًا ، ولظرف ما ولزمن ما ؛ ولكنه لا يستطيع أبدًا أن يكون منهجًا اجتماعيًا قادرًا على الامتداد أو قادرًا على مغالبة منهج الله تبارك وتعالى .
* * *
* *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.