كلمة العدد
أحداث الهجرة – بما فيها من دلالات ومعانٍ راقيةٍ – مُغْرِيَةٌ حقًّا على التأمل لأخذ عبرة متجددة ودرس متصل، فلم تكن الهجرة النبوية مجرد ترك الوطن بمعنى الكلمة اللغوي، وإنما كانت تعني ترك مجتمع قريش إلى مكان يتهيأ فيه المناخ الملائم حتى يتمسك فيه المسلمون بدينهم من خلال العيش في مجتمع جديد يصنعه الدّين وتصوغه شريعة الإسلام.
ولذلك غَطَّىٰ حدثُ الهجرة مساحات واسعة من كتابات علمائنا الأعلام وسلفنا العظام في موضوع السيرة النبوية، الذين أرّخوا لحياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. إن الهجرة لنصرة الحق وسيلة من وسائل النصر والفلاح؛ لأنها من أهمّ مُتَطَلَّبَات الدعوة إلى الله، وهي سنةُ الله في رسله وأنبيائه الذين هاجروا فرارًا بدينهم وإحقاقًا للحق وإبطالاً للباطل وتثبيتًا لدعائم الدين الذي دَعَوْا إليه. وهي الحقيقةُ التي عَرَفَها الرسولُ – صلى الله عليه وسلم – منذ أول يوم: منذ أن نزل عليه الوحي أول مرة؛ حيث ذهبت به خديجةُ – رضي الله عنها – إلى ورَقَةَ بن نوفل فأخبره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بما قد رآه. قال له ورقة: ليتني أكون حيًّا إذ يُخْرِجُك قومُك. (البخاري:3) فأدرك النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – منذ أن أُوْحِيَ إليه أنه سيُخْرَج من بلده الذي أحبّه و وُلِدَ ونشأ فيه. وقد أخبر – صلى الله عليه وسلم – أن الهجرة ماضيةٌ إلى يوم القيامة ستظل تتطلبها حاجةُ الدعوة إلى الله، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (مسند أحمد:16906)
فالهجرة ليست مرحلةً تاريخيةً انتهت بمضي وقتها وأهلها، وإنما هي صفحة من صفحات السيرة المضيئة التي خَلَّدها القرآنُ والحديثُ، وستظل جزءًا من حركة الدعوة إلى الله – عز وجلّ-. فالهجرةُ باقيةٌ إلى قيام الساعة لا تنقطع إلاّ إذا انقطعت التوبة. أما قوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح» (البخاري:2783) وقوله –صلى الله عليه وسلم-: «قد مضت الهجرة بأهلها» (البخاري:2962) فمعناه أنه لا هجرة من مكة بعد فتحها إذ صارت دار إسلام. وهذا الحكم نفسه ينطبق على جميع ديار الإسلام التي عمرت بذكر الله ونعمت بإقامة الصلاة وشعائر الإسلام.
وإنما عظّم الله أمر الهجرة و وعد بثواب المهاجر في سبيله موفورًا بسبب ما يحتمله من عناء ومشقة وأخطار وشدائد، لذلك تتابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظيم أجرها متضمنة وعد الله تعالى بتمكين المهاجرين في سبيله من مراغمة أعدائهم والتوسعة عليهم في أرزاقهم، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةًط وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْم بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْـمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهط وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (النساء/100) وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهثُمَّ قُتِلُوآ أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًاط وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّٰزِقِينَ o لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُط وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ o﴾(الحج/58-59)
وقد أثبتت الهجرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد انطبق عليه نفسُ القانون أو السنة الإلهية التي انطبقت على الأنبياء والرسل من قبله؛ حيث هجر وطنه ووطن آبائه إلى وطن جديد، كانت هجرته إليه إعلانًا صارخًا عن استعداده المتناهي للتمسك بهذا الدين الذي بعثه الله به مهما تَكَبَّدَ من صعوبات وشدائد؛ لأنه لم يكن سهلاً عليه أن يترك مسقطَ رأسه ومرتعَ طفولته وأهلَه وأقاربه وعشيرته؛ ولكن صنع ذلك من أجل اللجوء إلى أرض تتسع لدين الله وتستقبل الدعوة إليه وتتيح له – صلى الله عليه وسلم – العملَ على تأسيس المجتمـع الإسلامي الأوّل، مما دلّ على أن الإسلام لم يأت لوطن مُحَدَّد أو أرض مُعَيَّنَة؛ لأن الإسلام ينظر إلى أرض الله تعالى كلها على أنها تُمَثِّل ميدانًا عامًّا للدعوة؛ حيث إنه رسالة الله العالمية العامّة، فهي ليست لأمة دون أمة ولا هو حكر على شعب دون شعب.
فأكّدت – الهجرة – أن دينه – صلى الله عليه وسلم – وعقيدته والرسالة التي كُلِّفَ تبليغَها الناسَ كافةً أحبُّ إليه وأعزّ عليه وأثمن لديه من زوجه و ولده وماله و وطنه.
وقد كانت الهجرة النبوية تمثيلاً صادقًا للتخطيط الإلهي والتخطيط البشري معًا، فمن التخطيط الإلهي أن الله تعالى أَطْلَعَ نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – على تآمر قريش على قتله؛ حيث إنَّ كفارَ قريش اجتمعوا في دار الندوة ليبتّوا أمرًا في شأنه – صلى الله عليه وسلم – وقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم؛ فإنَّا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن اتبعه من غيرنا؛ فأجمعوا فيه رأيًا. قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأَغْلِقُوا عليه بابًا، ثم تربّصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله:زهيرًا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم، فقال الشيخ النجدي – وهو إبليس تزيّ بزي أهل نجد –: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه – كما تقولون – ليَخْرُجَنَّ أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم. ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنّا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنّا، وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تَرَوْا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به. والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحلّ على حيّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه، حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد. دَبِّرُوا فيه رأيًا غير هذا. قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعدُ. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟. قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًّا جليدًا نسيبًا وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربةَ رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرَضُوا منّا بالعقل – الدية – فعقلناه لهم. قال: فقال الشيخ النجدي: القولُ ما قال الرجل، هذا الرأي لا أرى غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
وفي الليلة تجمّع هؤلاء الشياطين حول داره – صلى الله عليه وسلم – ليقتلوه تنفيذًا لمؤامرتهم وإنهاء أمره للأبد، فنَجَّاه الله من شرّهم، وفَشَّلَ كيدهم، فخرج – صلى الله عليه وسلم – من داره إلى حديث يريد تشمله عناية الله وتحرسه رعايته، ونثر على رؤوسهم التراب وأخذ الله عيونهم عنه، فلم يروه ولم يشعروا به.
وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَط وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُط وَاللهُ خَيْرُ الْـمٰكِرِينَ﴾(الأنفال/30).
ومن التخطيط الإلهي أن الله تعالى جعلهم لا يهتدون إليه – صلى الله عليه وسلم – وهو وصديقه أبوبكر في غار ثور، رغم أنهم انطلقوا في الصباح عندما أرسل الصبح ضياءه، وعلموا أن الفريسة قد فاتتهم، يجوبون الصحراء ويستنطقون الرمال أنباءَه – صلى الله عليه وسلم – وفعلاً حَدَقُوا بالغار مُتَحَسِّسِين أثارَ الأقدام، وكادوا يقتحمونه لولا مشيئة الله وتدبيره اللذان حالا دونهم، وقد أحسّ أبوبكر الصدّيق – رضي الله عنه – وقع أقدامهم، فأصابه حزن لا يوصف، ولم يكن حزنه – رضي الله عنه- على نفسه وإنما على النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فقال – صلى الله عليه وسلم – وقد ظلّ ثابت الجنان قوي الإيمان، لصاحبه: «يا أبابكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا» (البخاري:4663).
وفي ذلك يقول تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَاج فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلٰىط وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَاط وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة/40).
وجنودُ الله هم الملائكة الذين لم يرهم الكفار وعيونهم المهرة المتعقبون لآثار الأقدام على الرمال.
ومن التخطيط الإلهي أن الله تعالى أفشل محاولتهم – الكفار – للعودة به إليهم حيًّا أو ميتًا، وقد رصدوا جائزة غالية متمثلة في مئة إبل لمن يأتيهم به أو بصديقه أبي بكر حيًّا أو ميتًا. وقد أغرت الجائزة سراقة بن مالك بن جعشم، فتبعه – صلى الله عليه وسلم – فساخت – غاصت – به فرسه وقال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – : أُدْعُ الله لي ولا أَضُرُّك، فدعا له. وفي بعض الروايات أن سراقة قال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: قد علمتُ يا محمد أن هذا عملك، فادعُ الله أن ينجيني مما أنا فيه، والله لأُعْمِيَنَّ عليك من ورائي. وقد عرض عليه – صلى الله عليه وسلم – الزادَ والمتاع، فأخبره أنه لا حاجة به إلى ذلك. ثم سأل سراقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يكتب له كتاب أمن، فأمر – صلى الله عليه وسلم – عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أدم، ثم ألقاه إليه، فأخذه فجعله في كنانته، ثم رجع أدراجَه. ومرت الأعوام حتى فرغ – صلى الله عليه وسلم – من فتح مكة، خرج سراقة ليلقى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومعه الكتاب، فلقيه بالجعرانة، حتى دنا منه، فرفع يده بالكتاب، فقال: يا رسول الله، هذا كتابك، فقال – صلى الله عليه وسلم – : «يوم وفاء إذن فأسلِم» (سيرة ابن هشام:1/490).
فالله تعالى أَيَّدَ رسوله – صلى الله عليه وسلم – بمعجزات كثيرة واضحة وضوحَ الصبح لذي عينين، قد شاهدها أعداؤه الذين تَصَدَّوْا لقتله أو أسره.
أمّا التخطيط البشري فتمثل في كثير من التدابير التي اتخذها النبي – صلى الله عليه وسلم – منها إخفاؤه أمر هجرته، فلم يخبر بهاحتى أقرباءه إلاّ صديقه وأنيسه في الغار أبابكر وابن عمه علي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – ومنها خروجه – صلى الله عليه وسلم – من داره ليلاً غيرَ مُبَالٍ بالفتية المسلحين حول الدار وهو يقرأ قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنْم بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَّ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فأَغْشَيْنٰهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ (يس/9). ومنها أمره – صلى الله عليه وسلم – لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن يبيت في فراشه ويتسجّى ببردته تعمية للمدججين بالسلاح حول داره – صلى الله عليه وسلم – ومنها توجّهه من مكة المكرمة جنوبًا إلى غار ثور، دون أن يتوجه رأسًا إلى جهة الشمال أي إلى طريق المدينة. ومنها إقامته وصاحبه أبوبكر – رضي الله عنه – بغار ثور أيامًا حتى ييأس الكفار من طلبه، ويعلموا أن الفريسة قد أفلتت تمامًا من أيديهم. ومنها اتخاذه عبد الله بن أريقط – أحد المشركين – دليلاً له في الطريق إلى المدينة؛ لأنه كان بارعًا في معرفة الطرق في المنطقة الواسعة كلها. ومنها إعداده – صلى الله عليه وسلم – راحلتين صالحتين لقطع هذه المسافة الطويلة بين مكة والمدينة.
وحادث الهجرة عطاؤه متجدد، ودروسه متصلة لا تنتهي، فمن دروسه وعظاته أن المسلم يجب أن يكون دينه أعز وأغلى لديه من الدنيا وكل ما فيها، فإذا تَطَلَّبَ الدينُ فلابد أن يهرع إلى التضحية بأغلى شيء في الحياة، حتى يضحي بالمهج والأرواح. يدلّ على ذلك ما صنعه علي – رضي الله عنه – من التضحية بحياته ليلة الهجرة؛ حيث بات على فراش النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمر منه – صلى الله عليه وسلم – للتمويه على المشركين وليردّ الأمانات إلى أهلها وتسجى ببردته وهو يعلم أن المُسَلّحِين حول الدار يكادون يسطون عليه. ومنها – من الدروس والعبر – أن المسلم ينبغي أن لا يخيفه أي تهديد و وعيد مهما ضاقت أمامه السبل وأحاطت به الخطوب؛ لأنّ له أن ينتقل إلى أرض أخرى خير منها؛ فإن أرض الله واسعة. ومنها أن الباطل مهما رعد وأزبد وزمجر وبدا متألقًا، فإن مصيره إلى الفشل في نهاية المطاف؛ لأن الحق هو الذي يغلب نهائيًّا ويرتفع علمه خفّاقًا عاليًا: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌط﴾ (الأنبياء/18) ﴿وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكٰفِرِينَ o لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْـمُجْرِمُونَ﴾ (الأنفال/7-8).
ولقد بارك الله الهجرة، فحققت أكرم النتائج وأعطت أعظم الثمرات، فآخى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين الأوس والخزرج وبين المهاجرين والأنصار. قال تعالى في ذلك ممتنًّا على المسلمين: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِٓ إِخْوَانًاج وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَاط﴾ (آل عمران/103).
بهذه المؤاخاة المثالية عالج – صلى الله عليه وسلم – الجراح الغائرة التي كانت متأصلة بين الأوس والخزرج وحقّق الوحدة الإسلامية الـمُثْلَىٰ، كماعمد إلى تحقيق الوحدة العالمية التي قامت على أساس حماية الضعيف ونصرة المظلوم فأصدر وثيقة المدينة التي صنعت من المسلمين ومن لحقَ بهم من اليهود أمة واحدة. وبذلك صارت اليهود جزءًا من الهيكل الاجتماعي العامّ يعود بموجبه عليهم من الحقوق ما يعود على غيرهم، وإلى ذلك ضمنت الوثيقة لهم حرية الدين والعقيدة على أن يدافعوا عن المدينة مع المسلمين ضد كل عدوان خارجي وأن لا يتحالفوا بالتأكيد مع أي عدوّ للرسول – صلى الله عليه وسلم – ولدعوته وللمؤمنين به من المهاجرين والأنصار. وهذه الوثيقة المدنيّة التي أبرمها النبي – صلى الله عليه وسلم – مع اليهود ظلت الأساس الذي حكم علاقات المسلمين بغيرهم عبر التأريخ الإسلامي.
كما ساعدت الهجرة على إقامة الدولة الإسلامية التي نفّذت جميع الشرائع الإسلامية على الحياة والمجتمع، وأنتجت الهجرة انتصار الإسلام على الكفر والشرك للأبد من خلال غزوات وحروب حاسمة قاصمة خاضها المسلمون مع الكفار في بدر وأحد والخندق وحنين وتبوك وفتح مكة الذي حَطَّمَ عشّ المشركين للأبد وقصم ظهرهم، وأعلى التوحيد وكلمة الله. وإلى ذلك صنعت الهجرة حضارة إسلامية فُضْلَىٰ سارت في ظلّها الظليل قوافل البشرية تنعم بالأمن والاستقرار والرفاهية والرخاء.
وأَكَّدَت الهجرة أنّ الحق لا يسود إلاّ بثمن يبذله أهله – الحق – بسخاء؛ وأن المجد لا يناله إلاّ الجريئون على التضحية؛ وأن النصر المبين لا يتأتى إلاّ بالجهاد بالأنفس والأموال؛ وأن نورالدين لا يسطع إلاّ بدماء يهريقه في سبيل العقيدة أبناءه البررة الثابتون على الطريق ثبوت الجبال الراسيات.
(تحريرًا في الساعة 12:30 من ظهر يوم الخميس: 21/رمضان 1436هـ = 9/يوليو 2015م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40