دراسات إسلامية
بقلم: باي زكوب عبد العالي (*)
الملخّص:
إن البلاد الإسلامية اليوم تمرُّ بمرحلة مخاضٍ عسير في زمن الفضائيات التي اختصرت العالم وحضاراته وأفكاره ورؤاه في قرية كونية؛ وتعقّـدت الحياة إلى الحدِّ الذي غيّب دور العوامل التربوية الإسلامية الناجحة في ريادة المجتمعات الإسلامية، تغييبا أحدث فجوةً كبيرةً بين التيارات الإسلامية؛ فبات كل تيار يملي عوامل مؤدية إلى نجاح التربية الإسلامية من الزاوية التي يراها، مما أدى إلى تبعثر الجهود بدل تكثيفها، واختلاف الآراء والأفكار بدل تقاربها أو اتحادها، وهذا ما جعل أمامنا – كمربين – العديد من التحديات التي تجعل من موضوع عوامل نجاح التربية الإسلامية أمرًا مهما للغاية، وقد توصّل الباحث إلى ثلاثة عوامل رئيسة: أولاها: التلقّي من نبع القرآن وحده والسنة النبويّة وحدها، وثانيها: التلقّي للتنفيذ والعمل، وثالثها: العزلة الشّعوريّة بين ماضي المسلم في جاهليّته وحاضره في إسلامه. موظّفًا المنهج الاستقرائي والتّحليلي.
المحور الأول: مفهوم التربية الإسلاميّة
أ- المفهوم اللّغوي للتربية: لكلمة التربية أصول لغوية ثلاثة:
الأول: ربا: ربا الشيء، يربو ربوا ورباء: زاد ونما. وأربيته: نميته، وربأت الأرض رباءً: زكت وارتفعت(1)، فتكون التربية هنا بمعنى النموّ والزيادة والزكاة والارتفاع، قال الله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبٰوا وَيُرْبِي الصَّدَقٰتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة:276]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِندَالله وَمَا آَتَيْتُم مِّن زَكوٰةٍ تُرِيْدُوْنَ وَجْهَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُضْعِفُوْنَ﴾ [الروم:39]، وقوله تعالى أيضاً: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمـَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج:5].
والثاني: ربّى يربّي، وربّ ولده والصبي يربه ربا، ورببه تربيبا وتربّة، عن اللّحياني: بمعنى رباه. وفي الحديث: لك نعمة تربها أي: تحفظها وتراعيها وتربيها، كما يربي الرجل ولده، ورباه تربية: أحسن القيام عليه، ووليه حتى يفارق الطفولية(2)، والولد: ثقّفه وهذَّبه وأدَّبه(3).
فتكون التربية هنا بمعنى التنشئة والرّعاية والتأديب، قال تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء:18]، وقوله تعالى أيضاً: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيٰنِي صَغِيراً﴾[الإسراء:24].
والثالث: ربّ يربُّ على وزن مدَّ يمُدُّ بمعنى متّنه، وأصلحه، ووليه، وتعهّده، ورأسه وساسه(4)، فتكون التربية هنا بمعنى الرئاسة والسياسة كقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله وَالْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُون﴾ [التوبة:31]، وفسّره النبيّ –صلى الله عليه وسلم- لعديّ بن حاتم – رضي الله عنه – بأنّهم اتّبعوهم في تحليل ما حرّم الله، وتحريم ما أحلّ الله(5).
لم ترد كلمة (التربية) بهذا اللفظ في القرآن الكريم، ولا في أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولا في استعمالات السلف رضوان الله عليهم؛ ولكنها وردت بألفاظ أُخرى تدل على معناها. وقد نبّه إلى ذلك محمّد منير مرسي بقوله: «تعتبر كلمة التربية بمفهومها الاصطلاحي من الكلمات الحديثة التي ظهرت في السّنوات الأخيرة مرتبطةً بحركة التّجديد التّربوي في البلاد العربيّة في الرّبع الثّاني من القرن العشرين؛ ولذلك لا نجد لها استخداماً في المصادر العربيّة القديمة»(6).
أمّا الكلمات التي استخدمت في القرآن، والأحاديث النبويّة، وفي كتابات السّلف للدّلالة على معنى التربية فهي كالآتي:
1- الدّعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر: هي فضيلة إسلامية قرآنية تجعل صاحبها داعية من دعاة الصّلاح والإصلاح، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104]، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»(7)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو معقل الترابط بين المؤمنين والمؤمنات حيث قال تعالى: ﴿وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكوٰةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة:71]، وممن استخدم هذا المصطلح ابن تيمية في كتابه: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
2- الإصلاح: ويعني إصلاح ما أفسده الناس أو التغيير إلى الأفضل، قال تعالى مخبراً عن شعيب وهو يعظ قومه: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:88]، وقد بوّب البخاري في صحيحه: «باب ما جاء في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا»، وقول الله تعالى: ﴿لاَخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوٰﯨﻬُﻢْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾[النساء:114]، وخروج الإمام إلى المواضع ليصلح بين الناس بأصحابه»(8)، وممّن استخدم هذا المصطلح عبد الحليم ابن تيمية في كتابه الموسوم: (السياسة الشرعية في إصلاح الرّاعي والرّعيّة) وكتابه الآخر: (الحسبة في الإسلام).
3- النّصيحة: ويقصد بها تقديم النصح إلى الآخرين من منطلق أنّ المؤمنين نصحة، أي: ينصح بعضهم بعضاً، قال تعالى مخبراً عن نوح وهو ينصح قومه: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسٰلٰتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:62]، وقوله تعالى مخبراً عن هود: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالٰتِ رَبِّي وَأنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِين﴾ [الأعراف:68]، وقوله تعالى أيضاً مخبراً عن صالح: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النّٰصِحِيْنَ﴾ [الأعراف:79]، وقد ترجم البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان: «باب قول النبي صلى الله عليه وسلم»: «الدّين النّصيحة: لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم». وقوله تعالى: ﴿إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ﴾(9)، وممن استعمل هذا المصطلح أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في رسالته (لفتة الكبد إلى نصيحة الولد)، والإمام أبو حامد الغزالي في رسالته (أيها الولد)، والحارث المحاسبي في رسالته (رسالة الـمُسترشدين).
4- التّواصي بالخير: ويأتي بمعنى النصيحة، قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:1-3].
5- التّزكية: ويقصد به تطهير النفس من مساوئ الأخلاق، وتحليتها بمحاسن الأخلاق، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:151]، وممّن استخدم هذه الكلمة الإمام الرّاغب الأصفهاني في كتابه: (الذريعة إلى مكارم الشريعة).
6- الأدب: يقصد بالأدب: رياضة النفس بالتعليم والتّهذيب على ما ينبغي(10)، وإذا رجعنا إلى كتاب مدارج السالكين للإمام ابن القيّم وجدناه قد جعل الأدب منزلة قرآنية من منازل إياك نعبد وإياك نستعين واستشهد على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوْآ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلٰٓئِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:6]، قال ابن عبّاس وغيره: أدبوهم وعلموهم، وهذه اللّفظة مؤذنة بالاجتماع، فالأدب: اجتماع خصال الخير في العبد، ومنه المأدبة، وهي الطّعام الذي يجتمع عليه الناس، وعلم الأدب: هو علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه، وصيانته عن الخطأ والخلل. وهو شعبة من الأدب العام(11).
ولقد وردت كلمة الأدب في بعض أحاديث النبيّ –صلى الله عليه وسلم- التي منها:
– ما روي عن جابر بن سمرة – رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «لأن يؤدب الرجل ولده خيرٌ من أن يتصدق بصاع»(12).
– وما روي عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «ما نحل والدٌ ولده أفضل من أدبٍ حسن»(13).
– وما روي عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «أكرموا أولادكم، وأحسنوا أدبهم»(14).
ونستشف من معاني هذه الأحاديث أن لفظ الأدب يدل على معنى كلمة التربية. وممن استعمل هذا المصطلح الإمام النّووي في كتابه: (التبيان في آداب حملة القرآن)، والماوردي في كتابه: (أدب الدنيا والدين).
7- التهذيب: ويأتي بمعنى تزكية النفس، جاء في المعجم الوسيط، هذّب الصّبيَّ: ربّاه تربية صالحة خالية من الشوائب(15)، وقد استعمل هذا المصطلح ابن مسكويه في كتابه: (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، كما استخدمه الجاحظ في رسالته (تهذيب الأخلاق).
والحقّ أنّ كلمة (التأديب) عند قدامى المسلمين كانت ترادف إلى حدّ كبير فيما يعرف عندنا اليوم بـ(التربية).
يفهم من هـذه المرادفات لكلمة التربية التي تُدُوولَ استخدامُها عند السّلف رضوان الله عليهم، أنّ التربيّة الإسلامية هي سياسة النّفس الإنسانية بحسن تنشئتها، ورعايتها، وتعهّدها، والعمل على إصلاحها، وتأديبها، وتعليمها، والحرص على دعوتها، ونصحها وإرشادها حتى تبلغ أقصى درجات الكمال، وهي: الصالحيّة، والصدّيقية، والشهادة، وأخيراً درجة النبوّة التي أغلقت بمبعث محمد –صلى الله عليه وسلم-، قال تعـالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُـولَ فَاُوْلٰٓئِكَ مَـعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآء وَالصّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولٰٓئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69]، ومع هؤلاء يحشر المربّون الأمناء، يقول ابن باديس: «العلم الصحيح، والخلق المتين، هما الأصلان اللّذان ينبني عليهما كمال الإنسان»(16).
إذن فالدّعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والإصلاح، والنّصيحة، والتّواصي بالخير، والتّزكية، والأدب، والتهذيب لها هدف واحد مشترك وهو التربية، ولأجل هذا أدرجناها تحت مرادفات التربية.
ب- المفهوم الاصطلاحي:
يختلف التعريف الاصطلاحي للتربية باختلاف المنطلقات الفكرية النّاجمة في أغلب الأحيان عن المعتقدات الدّينيّة والثّقافات المتنوّعة، واختلاف الأزمنة والأمكنة، وتالياً فإنّ هذا الاختلاف في الدّين والفكر والزّاد الثقافي والزمان والمكان يؤول إلى اختلاف في المصادر والوسائل والأهداف.
يرى الفيلسوف الإسلامي، أبو علي الحسين بن سينا أنّ التربية هي مسايرة ميول الصبيّ، ثم توجيهه إلى الصّناعة أو المهنة التي تتفق وميوله(17)، فابن سينا يرى أنّ الطفل لما يولد، يولد بمواهب وميول معيّنة، وعن طريق الملاحظة والتجربة يمكن التعرّف على هذه الميول والمواهب، ثم توجيه الصبيّ توجيهاً صحيحاً يتوافق وميوله ومواهبه، وفعلاً فإنّ المطّلع على الحضارة الغربية اليوم، يجدها أنّها خصّصت مدارس ومعاهد معيّنة تتمّ من خلالها اكتشاف مهارات الأطفال، وتنميتها، وتوجيهها توجيهًا صحيحًا يؤول إلى النّجاح، من هذه المدارس الغربية: روضة الأطفال: الفنون الإبداعية (Kid’s Gallery: Creative Art) في «هونغ كونغ» الصينية، حيث يتحصل الطفل في هذه المدرسة على: التعليم والتعلّم المبكّر، تطوير مهارات الطفل وزرع الثقة في نفسه للظهور أمام الآخرين، تعلّم الطفل فنون الاتصال مع الغير، اعتماد الفنون البصرية كالرّسم، والأشغال اليدوية لخلق أبعاد فنيّة في الطفل، وأخيراً إقامة ورشات العمل من أجل ترسيخ ما يتعلّمه الطفل في المدرسة(18)، وغيرها من المدارس، كما تمّ مؤخّراً من إنشاء مثل هذه المـدارس في بعض البلـدان الإسلامية تعتمد المنهج الغـربي والقيم الإسلاميـة لأجل إنشاء طفل متكامل. ومن هـذه المدارس: مدرسـة الإبداع العلمي الدولية (Intl School of Creative Science) في الإمارات العربيّة المتحدة، حيث تم تقسيم هذه المدرسة إلى أربع مراحل، لكل منها مديرها الخاص الذي يتولى الإشراف على العملية التربوية والتعليمية ميدانياً: مرحلة الروضة، والمرحلة التأسيسية، والمرحلة الابتدائية العليا، والمرحلة الثانوية(19)، وغير ذلك من المدارس.
كما تحدّث ابن خلدون في مقدّمته عن التربية والتنشئة؛ ولكن مستخدماً في ذلك مصطلحا: الأدب والتعلّم مستشهدًا على ذلك بكلام عمر – رضي الله عنه-: «من لم يؤدّبه الشّرع لا أدّبه الله»، وعقّب على قول عمر -رضي الله عنه – بقوله: حرصاً على صون النّفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأن المقدار الذي عيّنه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته، .. والرّحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلّم والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارةً علمًا وتعليمًا وإلقاءً وتارةً محاكاةً وتلقينا بالمباشرة إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها(20)، وقد أكّد الأستاذ الرّاشد هذه النّظريّة الخلدونيّة بقوله: «إنّ من الحقائق السّارية التي ظهرت منذ بداية الحياة الاجتماعية الإنسانية ويغفل عنها البعض أنّ التّلقيد والمحاكاة من صفات الإنسان الاجتماعي، وأنّه قابل للتأثر بغيره تأثّرًا لا يشعر به، حتى إذا بلغ التأثر حدًّا في الكثافة كبيرًا تحوّل إلى عقيدة وفكرة ومفهوم ثابت ينقل المتأثر إلى مرحلة تمحيص عقلي لما عند الغير، فيزداد أخذًا لما يوافق عقيدته المتكوّنة، ويرفض ويعاف ما يضادها، إنّ (السّمع) و(البصر) هما الأداتان الرئيستان اللّتان يتمّ بهما هذا التأثير اللّاشُعُوري، فالشّخص يسمع شيئًا، ويتكرّر لديه هذا السّماع، فينشغل في التفكير بما سمع، حتى يأخذ عليه تفكيره وقتاً يزداد كلّما زاد السّماع، وعن طريق دوام التفكير بما سمعه تتحول الأفكار المسموعة إلى عقائد ذاتية عند الشخص يعتنقها ويحملها، وغالباً ما يصل هذا الاعتناق إلى التعبير عنها بنفس الاصطلحات والكلمات التي سمعها»(21)، وقد استشهد الرّاشد على هذه الظّاهرة التّربوية بحديث أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ويُنَصِّرَانِهِ كَمَا تنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء، حتى تكونوا تجدعونها»(22)، وقوله –صلى الله عليه وسلم- أيضاً عن أبي هريرة – رضي الله عنه-: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(23).
يرى المفكّر الإسلامي سيّد قطب في «تفسير الظّلال» أنّ التربيّة هي ربط القلوب بالله، وربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله، وإخراج البشريّة كلّها من حميّة الجاهليّة، ونعرة العصبيّة، وضغط المشاعر والانفعالات الشّخصيّة والعائليّة والعشائرية في مجال التّعامل مع الأصدقاء والأعداء(24)، ويقول سيّد قطب في تعقيبه القيّم على سورة النّور: «والمحور الذي تدور عليه السّورة كلّها هو محور التربية التي تشتدّ في وسائلها إلى درجة الحدود، وترقّ إلى درجة اللّمسات الوجدانيّة الرّفيقة، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة، والهدف واحد في الشدّة واللّين، هو تربية الضّمائر، واستجاشة المشاعر ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشفّ وترفّ، وتتّصل بنور الله، وتتداخل الآداب النّفسية الفرديّة، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة، بوصفها نابعة كلّها من معين واحد هو العقيدة في الله، متّصلة كلّها بنور واحد هو نور الله، وهي في صميمها نور وشفافيّة، وإشراق وطهارة، تربية عناصرها من مصدر النّور الأوّل في السّماوات والأرض، نور الله الذي أشرقت به الظّلمات في السّماوات والأرض، والقلوب والضّمائر، والنّفوس والأرواح»(25)، كما يؤكّد أنّ التربية الإسلامية قائمة أصلاً على أساس العقيدة، والأخلاق الإسلاميّة، ويجب عدم إضاعة الوقت في فرض التشريع الإسلامي بالقوّة، وإنّما في إيجاد مجتمع إسلامي له الرّغبة والعمل على إقامة النّظام الإسلامي وتحكيم الشّريعة الإسلامية(26)، ويرى أنّ العلميّة التربويّة النّاجحة مبنيّة على أربع خطوات هي:
1– الخطوة الأولى: إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، ومدلول العقيدة: هو أن تكون العبوديّة لله وحده، سواء في الاعتقاد بألوهيّته وحده، أو تقدير الشّعائر التّعبديّة له وحده، أو الخضوع والتّحاكم إلى نظامه وشريعته وحدها(27).
2- الخطوة الثانيـة: تربية من يستجيبون لهذا الفهم على الأخلاق الإسلاميّة، وتوعيتهم بدراسة الحركة الإسلاميّة، وتاريخها، وخطّ سير الإسلام في التّعامل مع كل المعسكرات والمجتمعات البشريّة، والعقبات التي كانت في طريقه والتي لا تزال تتزايد بشدّة، وبخاصّة من المعسكرات الصّهيونيّة والصّليبيّة الاستعماريّة(28).
3- الخطوة الثالثة: تربية من يقبل هذه الدّعوة وهذه المفهومات الصحيحة، تربية إسلاميّة صحيحة، وعدم محاولات فرض النّظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم، إذ ليست المطالبة بإقامة النّظام الإسلامي، وتحكيم الشّريعة الإسلاميّة هو نقطة البدء، ولكن نقطة البدء هي نقل المجتمعات ذاتها – حكّامًا ومحكومين – عن الطّريق السّالف إلى المفهومات الإسلاميّة الصّحيحة، وتكوين قاعدة إن لم تشمل المجتمع كلّه فعلى الأقلّ تشمل عناصر وقطاعات تملك التّوجيه والتّأثير في اتّجاه المجتمع كلّه إلى الرّغبة والعمل على إقامة النّظام الإسلامي وتحكيم الشّريعة الإسلامية(29).
4- الخطوة الرابعة: إيجاد تنظيم إسلامي جماعي قادر ومؤهّل للقيام بالمهام التربوية الإسلامية في المجتمع الإسلامي، على أنّه لا يجوز البدء بأيّ تنظيم إلاّ بعد وصول الأفراد إلى درجة عالية من فهم العقيدة، ومن الأخذ بالخلق الإسلامي في السّلوك والتّعامل ومن الوعي الذي تقدّم ذكره، وفي الوقت نفسه، ومع المضي في برنامج تربوي كهذا، لابد من حماية التنظيم من الاعتداء عليه من الخارج، وتدميره ووقف نشاطه وتعذيب أفراده، وتشريد بيوتهم وأطفالهم تحت تأثير مخطّطات ودسائس معادية(30).
ويرى عبد الرحمن عميرة، أنه تكاد تتفق كلمة علماء المسلمين على أنّ التربية عمليّة تحقيق النّموّ المتّزن المنسجم لجميع استعدادات الفرد، الجسمية والنفسية والعقلية والخلقيّة، حتى يصل إلى كماله(31).
ويقول عبد الحليم محمود عن التربية بأنّها الأسلوب الأمثل في التعامل مع الفطرة البشرية توجيهًا مباشرًا بالكلمة وغير مباشرٍ بالقدوة، وفق منهج خاص ووسائل خاصة، لإحداث تغيير في الإنسان نحو الأمثل، وهذا المنهج يلتمس من مصادره، وهي: الكتاب والسنّة والسّيرة النّبويّة وسيرة الصّحابة رضوان الله عليهم وما أجمعوا عليه من أمر. وهذا المنهج الربّاني شامل متكامل، يعالج كل شعب الحياة البشرية، ولا يحتاج إلى سواه من المناهج(32).
ويرى عبد الحليم سيّد أنّ التربية بالنسبة للمجتمع المسلم تركيبة حرّة لا تتقيّد إلاَّ بما به نص من كتاب الله أو سنّة الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فالمسلمون هم الذين يحدّدون غاياتها وأهدافها، وما يتطلّبه تحقيقها من وسائل، وهم أيضًا الذين يصمّمون العمليّات التي تحقّق هذه الغايات في ضوء فهمهم لنصوص القرآن والسنّة التي تحدّد طبيعة الإنسان، وتحدّد القيم الرّفيعة التي ينبغي أن يحقّقها المجتمع المسلم والمعايير الخلقيّة التي تحكم سلوك أفراده، وتضع الإطار العام لما ينبغي وما لا ينبغي فعله للوصول إلى هذه الغايات والتي ينبني عليها أيضاً المجتمع المسلم كلّه بمؤسّساته(33).
ويعرّفها مقداد ياجن قائلاً: «فهي مجموعة التصوّرات والمفاهيم والأفكار والأحكام والقيم ذات الحدّ الأقصى من التجريد والعمومية المنظمة والمرتبطة منطقيّاً بموضوع إعداد الإنسان المسلم حسب الأصول الإسلامية، وفي ضوئها يمكن تفسير العمليّات التربوية الإسلامية الهادفة وتبريرها وتقويمها وتوجيهها وترشيدها إلى الأفضل والأحسن باستمرار»(34).
وكنتيجة حتمية لهذه الدّراسة اللّغويّة والاصطلاحيّة والقرآنيّة والحديثيّة لمفهوم التربية، يمكن القول بأنّ: التربية الإسلامية هي تحقيق العبودية لله، وحفظ الإنسان ورعايته والعناية به، وتتبّع حركاته وسكناته منذ الصّغر، وتنشئته جسديّاً، وروحيّاً، ونفسيّاً، وعقليّاً، وخلقيّاً وفق منهج ربّانيّ متكامل وشامل لجميع نواحي الحياة، ووسائل ربّانيّة يقرّرها هذا المنهج، حتى يرتقي الإنسان إلى كماله المطلوب، وهذا المنهج يلتمس من مصادره، وهي: الكتاب والسّنة الصّحيحة، وتجارب واجتهادات السّلف والخلف جميعاً بعد التأكّد من عدم معارضتها للكتاب والسنّة، وواقع المعاش.
* * *
الهوامش:
(1) انظر: ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص94-126.
(2) انظر: المرجع السّابق، ج5، ص96.
(3) انظر: جبران مسعود،الرائد معجم لغوي عصري، ج1، ص712.
(4) إبراهيم مدكور، المعجم الوسيط، ج1، ص333.
(5) الحديث بطوله رواه عديّ بن حاتم قال: أتيت النبي -ﷺ- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن»، وسمعته يقرأ في سورة براءة: ﴿اتخَذُوا أَحبَارَهُم وَّرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُوْنِ الله﴾ قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه». الترمذي، السنن، ج5، ص122، رقم3095.
(6) مرسي، أصول التربية، ص131.
(7) مسلم، الصحيح، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، ج4، ص2060، رقم2674.
(8) البخاري، الصحيح، كتاب الصلح، باب ما جاء في الإصلاح بين الناس، ج2، ص184.
(9) المرجع السابق، ج1، ص 22.
(10) مدكور، المعجم الوسيط، ج2، ص 9.
(11) ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ج2، ص379.
(12) الترمذي، السنن، ج4، ص11،رقم1951.
(13) المرجع السّابق، ج4، ص110، رقم1952.
(14) ابن ماجه، السنن، ج3، ص297، رقم3671.
(15) مدكور، المعجم الوسيط، ج2، ص1018.
(16) ابن باديس، في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص99.
(17) عميرة، التربية الإسلامية وأثرها في المجتمع، ص265.
(18) للمعلومات أكثر، يرجى زيارة هذا الموقع: http://www.kidsgallery.com/hongkong/en_contact.php
(19) للمعلومات أكثر، يرجى زيارة هذا الموقع: http://www.scs-sharjah.com/arabic/curriculum/index.php
(20) ابن خلدون، المقدمة، ص540.
(21) الراشد، منهجية التربية الدعوية، ص13-14.
(22) البخاري، الصحيح، ج4، ص231،رقم6599.
(23) الترمذي، السنن، ج4، ص316،رقم2378.
(24) انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، سورة المائدة، ج2، ص839.
(25) انظر: المرجع السّابق، سورة النور، ج4، ص2486.
(26) استنبط هذا القول من خلال دراستنا التّأمّليّة لوثيقة: «لماذا أعدموني» التي كتبها سيّد قطب في السّجن الحربي بطلب من القضاء العسكري آنئذ. انظر: سيد قطب، لماذا أعدموني، ص17-18.
(27) اُستُشفَّ هذا القول من خلال دراستنا التّأمّليّة لوثيقة: «لماذا أعدموني» انظر: المرجع السّابق، ص27-28.
(28) اُستُشفَّ هذا القول من خلال دراستنا التّأمّليّة لوثيقة: «لماذا أعدموني» انظر: المرجع السّابق، ص27-28.
(29) اُستُشفَّ هذا القول من خلال دراستنا التّأمّليّة لوثيقة: «لماذا أعدموني» انظر: المرجع السّابق، ص27-28.
(30) استُشفَّ هذا القول من خلال دراستنا التّأمّليّة لوثيقة: «لماذا أعدموني» انظر: المرجع السّابق، ص27-28.
(31) عميرة، التربية الإسلامية وأثرها في المجتمع، ص266.
(32) محمود، وسائل التربية عند الإخوان المسلمين: دراسة تحليلية تاريخية، ص15-17.
(33) عبد الحليم سيّد، التربية في القرآن والسنّة: الغايات والأهداف، ص 17.
(34) ياجن، معالم بناء نظرية التربية الإسلامية، ص 19.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1436 هـ = مايو – يونيو 2015م ، العدد : 8 ، السنة : 39
(*) أستاذ جزئي في الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، ومساعد تحرير مجلة الإسلام في آسيا بنفس الجامعة.
E-mail: beyzekoub@yahoo.fr