دراسات إسلامية

بقلم:  المفتي سعيد أحمد البالنبوري حفظه الله(*)

ترجمة : أبوعاصم القاسمي المباركفوري

قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [سورة الأعلى: 14-19]

       نحمد الله تعالى على أن هدانا إلى الصراط المستقيم. ولو لم يهدنا الله تعالى، ولم يرسل رسله، ولم ينزل وحيه، لما اهتدينا بعقولنا إلى الصراط السوي. وإن الله تعالى قد منَّ على الإنسان بالعقل، ومنحه ما يتلقى به العلم، وتفضل عليه بالعين والأنف والأذن، والفهم والإدراك، إلا أن هذه القوى لاتساعد إلا على معرفة ما يدخل في نطاقها. وأما الغيب، فإن العقل البشري لايستقل بالتوصل إليه ولايعرفه الإنسان بمجرد عقله وفهمه. ولايستغني عن معرفة هذه الحقائق وفهمها.

المعرفة الإلهية تحتاج إلى الوحي الإلهي

       إن الله تعالى هو خالقنا ومالكنا و رازقنا، وهو وراء عالمنا المحسوس هذا. والعقل الإنساني لايستقل بمعرفة صفاته. ويستحيل على البشر أن يعرف ذات الله تعالى أو صفاته، فإن ذلك وراء العقل البشري، وخارج عن نطاقه. فتطلب ذلك إرسالَ الرسل والأنبياء. ولايقف بالبشر على هذه الحقيقة إلا الأنبياء؛ بل الجنة والنار – اللتان إليهما مصير كل بشر- لايستقل بمعرفتهما. وهو في حاجة إلى هداية الله تعالى في معرفة حقيقة الجنة والنار، ودخول الجنة، والوقاية من النار. فهدى الله تعالى البشر بواسطة أنبيائه ورسله إلى الصراط المستقيم. وشرح له معرفة ذاته وصفاته، والجنة و النار، وكل ما وراء هذه الدنيا من الحقائق. واستمر ذلك حتى بعث الله تعالى أعظم وأفضل رسله، خاتم الأنبياء والرسل حبيب رب العالمين، وسيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

يتبين مكانة القرآن وقدره للبشر يوم القيامة

       والإنسان لايقدر هذا الكتاب الهادي اليوم، وإن كان المسلمون يقدرونه بعض قدره . والحمد لله على ذلك. وأما عامة البشر فلايعرفون مدى رحمة النبوة بهم، و ما أعظم كتب الله التي أنزلها، و ما أعظم القرآن الكريم نعمةً. ثم إنه سيأتي عليه زمن يعترف فيه البشر بعظمته ومكانته. اللهم ارزقنا عيوناً نبصر بها. وكم نقدر قدره؟ ومن يتذكر هذه النعمة؟ ويشكر عليها؟ وأما إذا فقد أحدنا – لا قدر الله – عيناً من عيونه، عرف قدرها. وحيث أنه يحظى بهذه النعمة فلا يقدرها. ولو فقدها لأنفق عليها ما في الأرض جميعاً. وكذلك لايعرف الناس قدر ما أنزل الله من الكتب التي أنزلها ورسله الذين بعثهم؛ ليهديهم إلى الصراط المستقيم. فهم عنه غافلون. ونحن – بحمد الله تعالى – نقدره بعض القدر، وإن كنا في غفلةٍ عن إيفاء حقه من التقدير. وحين تنتهي هذه الدنيا، وتقوم الساعة، ويُجزى الناس، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ويدخل الجنة أهلُها، والنارَ أهلها، فحينئذ يعرف أهل الجنة وأهل النار قدر هذه النعمة.

ندم أهل النار ،واعترافهم بقدر القرآن الكريم

       وبين الله تعالى في سورة الفرقان أن الكافر يعض بنان الندم يوم  القيامة: (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان/27]، فيعترف أهل النار بأن الله تعالى قد منَّ عليهم مناً عظيماً فلم يقدروا قدره، ولم ينتفعوا به، فصاروا إلى ما صاروا إليه من هذه العاقبة الوخيمة، ولو أنهم عرفوا قدرها، وانتفعوا بها، وسلكوا سبيل الرسول،لأَمِنَوا  هذه المغبةَ.

اعتراف أهل الجنة، وثناؤهم على الله تعالى

       وذكر الله تعالى أهل الإيمان في سورة الأعراف، وأنه حين يدخل المسلمون كلهم الجنة فيعقدون المجالس فيها، ويتجاذبون أطراف الحديث، ويقول بعضهم لبعض ماحكاه الله تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)[الأعراف/43]

       فيعترف أهل الجنة كلهم بأنهم لم يدخلوا الجنة إلا بهداية من الله تعالى وإرشاد من رسله، وبفضل ما أوحاه الله تعالى إلى رسله، واتباع شرعه ودينه. وما كانوا ليهتدوا إليها بعقولهم وبصيرتهم. ويعضُّ الكافر على يديه، يتحسر، ويقول: ياليتني اتبعت في الدنيا طريقَ الرسول واخترته، فلم أواجه هذه العاقبة الوخيمة. والحاصل أن أهل الجنة – كذلك – يعرفون قدرالأنبياء و الرسل والنبوة والهداية، وكذلك أهل النار.

إرسال الرسول نعمة إلهية خاصة

       وفضل الله علينا عظيم؛ حيث بعث إلينا رسله وأنبياءه منا؛ ليهدينا إلى الصراط المستقيم. قال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[آل عمران/164].

       فإرسال الله تعالى البشر رسولاً نعمة مفردة بذاتها، وكيف نستفيد من الرسول، لو أنه بعثه الله تعالى  إلينا من الفيل أو الببغاء أو الجن أوالملائكة؟ وكيف نفهم  لو نَهَمَ الفيلُ؟ أوكيف نفهم لو نقَّتِ الببغاء؟ وإن الواحد منا لترتعد فرائصه لو زأر له الأسد. والجن والملائكة لانراهم فكيف نستفيد منهم؟ ثم إن حاجات الجن والملائكة تختلف عن حاجاتنا، فيشرعون لنا من الأحكام ما ينسجم ونفسيتهم، ونحن نريد ما يوافق طبعنا. فما أعظم منةَ الله على البشر حيث أرسل إليهم رسولاً منهم، تتفق عواطفه وعواطفنا. ويشاركنا في الحاجات والرغبات والضرورات، و الأعذار. فيدرك ما يطرأ علينا من الحاجات والضرورات، فيراعيها في سَنِّ القوانين. فإرسال الرسول من البشر ما أعظمه منةً وكرماً. فهذه المنن الثلاث: الأولى: بعث الرسول، والثانية: بعث الرسول من البشر، والثالث: إرسال أعظم رسله وخاتم أنبيائه سيد الأولين والآخرين محمد المصطفى، وتكريمنا بأن جعلنا من أمته مما كان يتمناه كل نبي. فكانوا يؤثرون أن يكونوا من أمة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم على أن يكونوا رسلاً وأنبياء. والحمد لله على أن جعلنا من أمته صلى الله عليه وسلم بمحض كرمه وفضله، دون استحقاق منا، فهذه منة لامنةَ بعدها.

وظائف النبي صلى الله عليه وسلم الثلاث

       1. أولها: تلاوة الآيات أي تلاوة القرآن الكريم على الناس. فكان يعلِّمه جبرئيل فيبلغه – النبي صلى الله عليه وسلم- الناس.

       2. تزكيتهم: أي كما ينظف وينقى الثوب أو الإناء الوسخ، ويغسل، كذلك كان الرسول –صلى الله عليه وسلم- يزكي الإنسان. وهذه التزكية لم تتوجه إلى الظاهر؛ فإنه يتولى بتزكيته وتنظيفه، فمثلاً: يرى المرءُ في وجهه بقعة، فيقوم إلى المرآة ويزيلها. و تتوسخ الثياب، فيغسلها. فإن الإنسان لايخفى عليه وسخه وأقذاره الظاهرة، وأما الباطن فإذا توسخ وتلوث، فإنه ربما لا يتنبه له فضلاً أن يقوم بإزالته. ومن العجائب أن الإنسان لايزداد باطنه وسخاً إلا ازداد إعجاباً بنفسه واغتراراً بها. فيرى نفسه أنقى وأطهر الناس كلهم. وأما عباد الله الصالحون فلايزالون في محاسبة أنفسهم، وتتبع باطنهم وسرهم، ويحتقرونها، فيطلعون على هناتهم، بخلاف من تلوث باطنه بالمعاصي، فإنه لايقبل على محاسبة نفسه، فلايطلع على عيوبه و هناته. فيرى نفسه أتقى وأطهر وأنظف.

من وظيفة الأنبياء وأهل العلم تحلية الناس بالأخلاق الحميدة

       والإنسان لايسعه إدراك عيوبه وما في باطنه من الهنات، فاحتاج إلى من يطلعه عليها، ويزكيه من العيوب الباطنة والرذائل، ويحليه بالفضائل، وهذه هي وظيفة الأنبياء. و يخلفهم العلماء والصلحاء في ذلك؛ فإنهم يقومون بتزكية الإنسان من الرذائل وتحليته بالفضائل. و هذا معنى قوله: (وَيُزَكِّيهِمْ).

       وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق»(1). والتحلية بالفضائل تعقب التخلية من الرذائل والقاذورات. فالمغرض لايكون سخياً، فعليه أن يبدأ بتخلية نفسه من حب الذات والأثرة، فتورثه السخاء والجود. فالأنبياء ثم العلماء وظيفتهم تطهير بواطن الناس من العيوب والقاذورات والرذائل، ثم جلاؤها، وتحليتها بالفضائل والأخلاق الحميدة.

لايطلع على عيوب الإنسان إلا هو

       وتطهير الناس من الرذائل لايقوم به إلا رسول بشر، إذ لايدرك عيوبه إلا هو، فلو بعث الله ملكاً رسولاً أو جناً رسولاً، أو الحيوان أو الطير رسولاً، لم يقدر على تطهير الإنسان من الرذائل و القاذورات؛ لأنه لايدرك عيوبه، فكيف يقدر على تطهيره منها؟ فمثلاً: أنا من الهند، وبالضبط من منطقة «غجرات»، فلا أعجز عن معرفة العيوب التي تشين أهلها، بخلاف رجل من أمريكا، لايكاد يدرك عيوب أهل «غجرات»، ولايعلمها حق علمه، وربما كان على معرفة شيء منه. وقِس عليه أهل هذه البلاد؛ فإنهم لايطلع على عيوبهم إلا من عاشها وقضى فيها حياته، ودَرجَ في مجتمعه، وتَنَفَّسَ في جوِّه.

لم يبعث إلى قومٍ نبيٌ إلا منهم

       وعليه بعث الله تعالى إلى كل قوم نبياً منهم، دون غيرهم. اللهم إلا ما كان من أمر لوط -عليه السلام-؛ حيث بُعث إلى غير قومه. فإذا أراد الله أن يبعث إلى أمة رسولاً، اصطفى واحداً من الأمة؛ لأنه لايدري ما يزينها وما يشينها، ونفسيتها إلا واحدٌ منها. وكذلك أمر اللغة لايستهان به. فهذه أمريكا كم أخٍ لي فيها، لا أكاد أشرح لهم ما أريد، فلسانهم إنجليزي، وأنا لا أعرفها، وعليه لم يبعث الله رسولاً إلا بلسان قومه. ولم يبعث رسولاً إلى أمة لايعرف لسانها. قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم/4]

تعليم الوحي من وظائف الأنبياء

       3. الوظيفة الثالثة من وظائف الأنبياء: تلاوة ما يوحى إليهم، وهذا عمل، وبيانه و شرحه عمل آخر. كما يقوم النبي بتعليم قومه الحكمة. والمراد منها: الأحاديث النبويَّة.

القرآن الكريم خير من المال والثراء

       إن الله تعالى أرسل رسله، وهدى بهم الإنسان إلى الصراط المستقيم، فهذه منة عظيمة و فضل كبير منه سبحانه. قال الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس/58] . أي القرآن والدين والشريعة خير مما يجمعون من الأموال، ويفرحون به. فافرحوا به.

ثلاثة مفاتيح للفلاح

       وإن الآية التي ذكرتها لكم تتناول موضوعاً قيماً، كما تناولته الكتب السماوية السابقة. وتضمنته صحف إبراهيم، وصحف موسى. وهذا كله تنويه بشأن هذا الموضوع القيم، فما هو يا ترى؟ قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي تخلى عن الكفر والشرك (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) فمن جمع بين هذه الخصال الثلاث فله الفلاح والنجاح يقيناً:

       الأولى: التخلي عن الكفر والشرك، والتطهر من القاذاورات: ظاهرها وباطنها، محسوسها و معنويها. وتحلية القلب والقالب بالعقائد الصحيحة، والأعمال الفاضلة.

       الثانية: مما يتوقف على الفلاح: المداومة على ذكر الله تعالى. والطريق إلى المداومة عليه أن ينظر ما يأتيه: أحلال أم حرام؟ فيدع ما يحرم عليه ويأتي ما يحل له. وهذا معنى المداومة على ذكر الله تعالى. والمداومة على ذكر الله تعالى في الحياة العائلية أن يقف من أبويه، وإخوته وأخواته، وأهله وأولاده، وجيرانه وأقاربه موقفاً ينسجم ومتطلبات الشرع الإسلامي. ولايخرج عليها. ويعطي كل ذي حق حقه كما أمره الله تعالى به. فهذه هي المداومة على ذكر الله تعالى في الحياة العائلية. وكذلك ينظر فيما يأكله ويشربه أهو حلال أم حرام؟ ويتقي الشبهات، ويبدأ الطعام بذكر الله تعالى، ويأكل بيمينه، ويرفع اللقمة إذا سقطت منه، فإن كانت السفرة نظيفة أكلها، ولايضيع الطعام. فهذا ذكر الله تعالى في الطعام والشراب. والحاصل أن يراقب الله تعالى، ويستحضره. ويعيش حياته في طاعة الله تعالى. فهذا هو مفتاح الفلاح والنجاح.

       والثالثة: إقام الصلوات. وهو نوع من ذكر الله تعالى. وهذه ثلاث خصال مفاتيح للفلاح.

الصلاة  ذكر الله تعالى

       ولايزداد المرء عنايةً بإقام الصلاة إلا ازداد ذكراً لله تعالى. فالصلاة طريق إلى ذكر الله تعالى. ولايقيم الصلاة إلا من ذكرالله تعالى، ولايصلي من غفل عنه تعالى.

       والصلاة لها فائدتان: يقول الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلوٰةَ) أي داوم عليها بالصفة المطلوبة. فإن للصلاة فائدتين:

       الأولى: (تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنْكَرِ). فإن قيل: كم مَن يقيم الصلاة وإلى ذلك يقترف بعض الفحشاء والمنكر فلم تنهه صلاته عنها؟

       قلت: إن هذا السؤال منشؤه الغفلة عن أمر بسيط، وهو أن ثمة فرقاً بين النهي عن الشيء، والصرف عنه بحيث لايقدم عليه المصروف ولايصدر منه. فقال تعالى: (تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَ الْـمُنْكَرِ)، ولم يقل: «تصرفه عنها»، فزال الإشكال. ومثلها مثل الوالد ينهى ولده عن الفحشاء، ولا ينتهي عنها، فلا يصدق عليه أنه لم ينهَهُ عنها؛ لأنه خلاف الواقع، فإنه قد نهاه ولم ينته ولده عنه. وكذلك الصلاة تنهى المصلي عن الفحشاء، وهو قد لاينتهي عنها.

       وبعبارة أخرى: خذ قلبين: قلبَ مصلٍ، وقلب لاهٍ عنها، مبتلى بالمعاصي، ثم قم بإرسالهما إلى بعض المختبرات (Laboratory) فاختبرهما فيه، فإن عجزت عن مثل هذه المختبرات، فلا عليك إلا أن تختبرهما بعقلك. فإنك تجد قلب المصلي يبكي حين يقترف السيئات، وأما قلب اللاهي عن الصلاة فلايعتريه ندم وحسرة. فهذا من أثر نهي الصلاة عنها، يبقى ندامة في قلبه.

       الفائدة الثانية: ذكرُ الله تعالى، وهذه الفائدة أكبر من أختها. أي هذه الفائدة المترتبة على النهي عن الفحشاء والمنكر: أن الصلاة هي ذكر الله تعالى. فالمرء لايزال يذكر الله تعالى مادام في الصلاة، و يذكر الله تعالى قبلها وبعدها. فيعقد عزمه على الصلاة جماعةً، فإذا خرج منها وعاد إلى أعماله، واشتغل بها، فإنه لايزال ينتظر الصلاة ويتطلع إلى إقامتها جماعةً، فإذا نام، نام على حذر، فيتخذ المنبه، أو يكلف من ينبِّهُهُ على موعد الصلاة. وأمر الله تعالى موسى – عليه السلام- بالصلاة، وقرنه بالفائدة المترتبة عليها فقال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه/14].

       فهاتان الآيتان تدلان – دلالةً صريحةً – على أن العبد لايزداد عنايةً بالصلاة إلا ازداد ذكراً لله تعالى. أضف إلى ذلك أن الناظر فيما يأتيه ويذر في حياته: أ هو حلال أم حرام؟ نوعٌ من ذكر الله تعالى. وهو مفتاح الفلاح والنجاح. فعليكم أن تطهروا قلوبكم من القاذورات ما ظهر منها ومابطن، وأقيموا الصلوات واهتموا بها، فتذكروا الله تعالى في كل حين. وعليه الفلاح في الدنيا والآخرة.

السعي للدنيا شقاء

       وبهذا انتهى هذا الموضوع، وكأن ما بعده حديث مستأنف. قال الله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيوٰةَ الدُّنْيَا) أي أن الإنسان يؤثر الدنيا على الآخرة، والآخرة أحق وأجدر بأن يصلحها. فليكن همه الأكبر ما ينفعه في الآخرة، فإن الحياة الدنياظل زائل، نعيم حائل تنقضي كلمح بالبصر، والآخرة دائمة خالدة، ولانهاية لها، غير أن الإنسان الشقي يسعى ليصلح دنياه ليل نهار، على حساب الآخرة، (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيوٰةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى). ولابد من السعي للدنيا، ولكن بقدر ما تستحقه، والسعي الحقيقي يوجهه إلى آخرته، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابرسبيل»(2). أي كما أن الغريب عن بلده لايستكثر من المتاع، وأن راكب الباص – مثلاً – يجلس على المقعد إن صادفه فارغاً، أو يقطع رحلته واقفاً على قدميه، ولايبالي. فليقض المرء حياته الدنيا مثله. نسأل الله تعالى أن يعيننا عليه، ويرزقنا من هذا النعيم الدائم حظاً. و لابأس أن تعيش في الدنيا عيشةً رغيدةً؛ ولكن لاتطلبها من غير وجهها. و لاتغفل عن الله تعالى، وفقنا الله تعالى لإدراك هذه الحقيقة، والعمل بها.

*  *  *

الهوامش:

(1)       مسند البزار[8949]

(2)       رواه البخاري برقم[6416]

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأخرى 1436 هـ = مارس – أبريل 2015م ، العدد : 6 ، السنة : 39


(*)         شيخ الحديث ورئيس هيئة التدريس بالجامعة.

Related Posts