دراسات إسلامية
الإمام محمد قاسم النانوتوي – رحمه الله –
شخصية عبقرية قامت بإنشاء حركة المدارس الدينية، وريادة النهضة الإسلامية في شبه القارة الهندية
بقلم: الأستاذ آس محمد المظفرنغري القاسمي (*)
ولد الإمام «محمد قاسم» – رحمه الله – في شهر شعبان أو رمضان عام 1248هـ الموافق شهر يناير أو فبراير عام 1833م في عائلة صديقية ببلدة «نانوته» إحدى القرى الجامعة بمديرية «سهانفور» بولاية «أترا براديش» بالهند، في الجهة الغربية الشمالية من «ديوبند» على بعد نحو 30 كلومترا منها، وينتهي نسبه إلى القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه-.
دراسته:
كان الإمام النانوتوي – رحمه الله – ذكيا فطنا نابها بين أقرانه في الدراسة منذ صباه، تلقى مبادئ القراءة في وطنه «نانوته» وقرأ بها القرآن الكريم، ثم انتقل إلى «ديوبند»، وقرأ بها في كتّابٍ على الشيخ «نهال أحمد» مبادئ العربية، ثم انتقل إلى «سهارنفور»، وقرأ بها على الشيخ «محمد نواز» السهارنفوري كتب الفارسية والعربية الابتدائية.
ثم ارتحل إلى دهلي عام 1261هـ/1845م مع أستاذ الأساتذة الشيخ «مملوك العلي» النانوتوي – رحمه الله – (1204هـ/1779م – 1267هـ/1851م) ودرس معظم الكتب الدراسية عليه، ولازمه سنين طويلة، واستفاد من علمه، وقرأ كتب الصحاح الأربعة: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، والموطا للإمام مالك على الشيخ الشاه «عبد الغني» المجددي (1234هـ/1819- 1296هـ/1878م) وقرأ سنن أبي داود وسنن النسائي وجزءاً من الموطا لمالك على الشيخ المحدث «أحمد علي» السهارنفوري (1225هـ/1810م – 1297هـ/1879م).
وبعد إنهاء الكتب الدراسية اللازمة على الشيخ «مملوك العلي» – رحمه الله – ألحقه الشيخ بالكلية العربية الرسمية «بدهلي»، وفاق جميع زملائه في الدراسة فيها؛ ولكنه عندما ذاع صيته، واشتهر مكانه، غاب عن الكلية دون أن يؤدي الامتحان السنوي؛ لكونه مطبوعا على التواضع والزهد البالغ في الظهور.
وأخذ الطريقة عن الشيخ الحاج إمداد الله العمري التهانوي المهاجر المكي (1233هـ/1818م- 1317هـ/1899) وبايعه، ثم نال منه الإجازة فى البيعة والإرشاد والتلقين(1).
خدماته العلمية الرائعة:
يمكن أن تقسم أعمال النانوتوي – رحمه الله – العلمية إلى ثلاثة جوانب: (1) تصحيح الكتب الدينية والتعليق عليها (2) التدريس (3) والكتابة والتأليف.
(1) تصحيح الكتب:
لما تخرج الإمام في العلوم الشرعية، بدأ يعمل على تصحيح الكتب وتحقيقها بمقابلتها بأصولها ونسخها المختلفة في المطبعة الأحمدية التي أنشأها الشيخ «أحمد علي» السهارنفوري – الذي كان من كبار المحدثين – في «دهلي»، وقد كان الشيخ «أحمد علي» – رحمه الله – آنذاك مشتغلاً بتصحيح الصحيح للإمام البخاري والتعليق عليه، وقد عمل على تصحيح سبعة وعشرين جزءًا والتعليق عليه بنفسه، وفوض مهمة تصحيح بقية الأجزاء الثلاثة والتعليق عليها إلى الإمام النانوتوي – رحمه الله -، فقام به خير قيام، يسر القراء ويبعث على الإعجاب به والتقدير له. واختفى على أناس مقدرته العلمية فقالوا للشيخ «أحمد علي» – رحمه الله -: ما بالك جعلت هذا العمل الجليل إلى رجل شاب قليل المراس، فرد عليهم الشيخ «أحمد علي» قائلا: «لست بهذه المثابة من السفاهة، فآتي أمراً دون بصيرة منه»، وأراهم تعليقات أعدها الإمام النانوتوي، وتلك المواضع من صحيح البخاري تعد أصعبها وأدقها؛ ولكن الإمام علق عليها تعليقات تحل مغلقاتها بالتمام والكمال(2).
وبعد ما شهدت «الهند» ثورة ضد الحكم الاستعماري البريطاني عام 1857م – وهي معروفة بالغدر – اشتغل الإمام النانوتوي – رحمه الله – في المطبعة المجتبائية «بميروت» التي كان يملكها الشيخ المنشي «ممتاز علي»، وقام فيها بتصحيح ترجمة القرآن الكريم للشاه «عبد القادر» الدهلوي – رحمه الله – (ت/1230هـ = 1815م)، مع خدماته المستمرة في تصحيح الكتب الأخرى. ثم عمل مصححا في المطبعة الهاشمية التي أنشأها الشيخ هاشم علي «بميروت»، وذلك كان من أهم وسائل نشر العلم آنذاك.
(2) التدريس:
كان الإمام النانوتوي مشتغلا بتصحيح وتعليق الكتب «بميروت» بالإضافة إلى القيام بتدريس كتب متداولة مختلفة، ولا سيّما دروسه في الصحيحين «للإمام البخاري» و«الإمام مسلم» – رحمهما الله – كانت مقبولة جدّا، فيبين من المواد الغزيرة مالا أذن سمعت ولا قلب أدركه، ويأتي بما ندر وعز من دراسات وتحقيقات علمية توفق بين وجوه الاختلاف، وبمباحث تلمس جذور الموضوع وتشرحه شرحا وافيا، فقد حضرها كبار العلماء والمشايخ. وكان الشيخ «محمود حسن» الديوبندي الملقب «بشيخ الهند»، والشيخ «فخرالحسن» الكنكوهي، والشيخ المحدث «أحمد حسن» الأمروهوي، والشيخ الطبيب «منصور علي» والشيخ «عبد العلي» الميروتي وغيرهم من جلة العلماء الذين لهم قدم صدق في التاليف والتصنيف والبحث والتحقيق، ومكانة مرموقة بين علماء الهند، هؤلاء كلهم ارتشفوا من منهل علمه العذب وفضله العميم(3).
(3) الكتابة والتأليف:
وأما الجهة الثالثة من خدماته العلمية فهي الكتابة والتأليف، وإن لم تُتَح له فرصة كبيرة للاعتناء بهذا الجانب؛ لأن حياته كانت حافلة بالجهاد والتضحية والبذل والعطاء، والنشاط الواسع في المجال الدعوي، ومع ذلك قد صدرت من قلمه السيال تأليفات كثيرة يبلغ عددها أكثر من أربعين؛ ولكنها جميعا غير متوفرة بين أيدي الناس الآن؛ لأن بعضها قد ضاعت. وكان معظم كتاباته في الدفاع عن الإسلام والرد على شبهات أثيرت حول الإسلام من النصارى والهندوس، وتفنيد أباطيلهم وتُرّهاتهم. وأصدر الأديب الأريب أستاذي المبجل الشيخ «نور عالم خليل» الأميني – حفظه الله ورعاه – قائمة لبعض تأليفاته في مستهل «الإمام محمد قاسم النانوتوي كما رأيته» للشيخ «محمد يعقوب» النانوتوي – رحمه الله – ص:34-36- وذكر فيها أسماء أربعة وثلاثين كتابا. والواقع أن هذا يأتي ضمن الخدمات الجليلة التي قدمها الإمام للإسلام والمسلمين، وتجدر بأن تكتب بمداد من النور والذهب.
الإمام النانوتوي مجاهدا:
يندر أن يكون العلماء الذين يمتلكون ناصية العلم والبحث فرسانا في ساحة المعركة؛ ولكن الإمام النانوتوي – رحمه الله – اتصف بصفات متباينة، فساهم مساهمة فعالة في ثورة 1857م الشهيرة ضد الإنجليز، وحارب الجيش الإنجليزي في ساحة «شاملي» بمديرية «مظفر نكر» بولاية «أترا براديش»، وكان الإمام النانوتوي – رحمه الله – عيِّن قائد القوّاد في هذه المعركة، فنصر الله المسلمين؛ ولكن الإنجليز احتلوا المنطقة بأسلحة أقوى تاثيراً من ذي قبل؛ لأن البلاد كلها كانت في بـراثنهم وسلطتهم، وسجلوا اسم الإمام في المجرمين الكبار، وأصدروا أمر إلقاء القبض عليه، فظل مدة من الزمان مختفياً، متنقلا بين القرى والأرياف. ولما أعلنت الحكومة الإنجليزية العفو العام بعد صراع دام تسعة وعشرين شهرا، وذلك في نوفمبر1858م الموافق شهر ربيع الأول1275هـ عاد الإمام إلى بيته، وتخلص من هذه الرزيئة.
جهوده في تأسيس حركة المدارس الدينية:
لما أفل نجم سلطة المسلمين في الهند، وغربت شمسها في هذه البلاد، ونصب العلم البريطاني على القلعة الحمراء «بدهلي» عام 1857م، وجعل الإنجليز يستهدفون جميع سكان الهند وخاصة المسلمين بظلمهم واعتدائهم، وينكبّون على جذبهم إلى المسيحية شيئا فشيئا، ففي هذه الأوضاع الحرجة والظروف القاسية خاف الإمام النانوتوي – رحمه الله – أن يحرموا رصيدهم الإيمانيّ، وتنقطع صلة هذه البقعة عن النبي العربي – صلى الله عليه وسلم – فقام بتأسيس الجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند برفاقه وأصحابه يوم الخميس 15/محرم1283هـ الموافق30/مايو1866م(4). ولم يكن الغرض المنشود من تأسيس هذه القلعة الحمراء إنشاء مؤسسة أو مدرسة فحسب، وإنما كان أجل وأعظم من ذلك، وهو الحفاظ على الإسلام والدفاع عن حياض الشريعة الغراء، وأن يتولى رجال يداركون الهزيمة التي لحقت المسلمين في عام 1857م(5).
صارت هذه الجامعة التي أسست بشكل كتّاب فيما بعدُ ركيزةً أساسية للحفاظ على الكيان الإسلامي في هذه الديار، وأنجبت الشخصيات البارزة الذين استماتوا في إيقاظ الوعي الإسلامي في قلوب المسلمين، ونشر الدين وتبليغه وتعليمه، ولعبوا دورا فعالاً في تحرير هذه البلاد من ربقة الاستعمار البريطاني، والآن تتفجر منها الينابيع العذبة للعلم والدعوة والفكر، والتزكية والإحسان، التي يرتوي منها جم غفير في العالم كله، يقول الكاتب الإسلامي الشهير «نورعالم خليل» الأميني – حفظه الله – في تعريفها في مستهلّ كتاب «الإمام محمد قاسم النانوتوي كما رأيته» للشيخ محمد يعقوب النانوتوي – رحمه الله – (1249هـ -1302هـ)
«لم تكن جامعة ديوبند – التي تفجرت منها ينابيع معاهد العلم والفكر والدعوة، ومراكز التعليم والتربية، والتزكية والإحسان، وصارت أم المدارس والجامعات التي أسست بكثرة وتواصل للمرابطة على الثغر الإسلامي في هذه الديار الشرقية – مجرد جامعة إسلامية لتعليم علوم الكتاب والسنة ونشرها بكل الأشكال؛ وإنما كانت كذلك حركة شاملة واسعة عمت الهند بأرجائها واطردت واتصلت، وأثمرت وأينعت ثمارها؛ فكل ما نشاهده اليوم من حركات دينية ودعوية، وتعليمية وتربوية، وسياسية واجتماعية تخدم الشعب المسلم بأساليب لاتحصى، معظمها ترجع إلى جامعة «ديوبند» مباشرة أو غير مباشرة.
كما أن الهند إنما استقلت وتحررت من ربقة الاستعمار الإنجليزي أصلا بفضل نضال وجهاد بُناتها وأبنائها الأولين الكبار الذين كانوا طلائع النضال ضدّ الاستعمار الإنلجيزي».
وتلتها مدارس عديدة أخرى أنشأها الإمام النانوتوي بيديه كمدرسة الغرباء بمدينة «مرادآباد» التي اشتهرت فيما بعد «بالجامعة القاسمية مدرسة شاهي»، ومدرسة «منبع العلوم» بمدينة «كلاؤتهي» وغيرها.
مناظراته مع العلماء الهندوس والمسيحيين:
إن المسلمين حكموا «الهند» قرونًا طويلةً، فكانت لهم قيمة سياسية؛ ولكنه لما قوي احتلال الإنجليز في الهند، ورفرفت رأية السلطة البريطانية على «دهلي»، لم يجدوا سبيلا إلى إزعاج المسلمين إلا وقد أتوه حتى آل الأمر إلى أنهم حاولوا مساومة المسلمين على إيمانهم علناً وجهاراً.
وفي جانب آخر أنهضوا الهندوس ضد المسلمين، ومنحوا فرصة لهم بسياستهم الماكرة؛ لكي يتقدموا سياسيا واقتصاديا، ويتخلف المسلمون في جميع المجالات. وعندما رأوا أنهم تقدموا في المجالين، حاولوا أن يرسموا في أذهانهم أنهم يفضلونهم ديانة أيضا، فحرض الأسقف البريطاني «نولس»، المنشي «بياري لال» ملاّك الأراضي الواسعة على عقد اجتماع كبير يثبّت فيه كل من الهنادك والنصارى والمسلمين صدق دياناتهم. فعقد هذا الاجتماع في قرية «تشاندفور» بمديرية «شاهجهانفور» 8/مايو1876م، وسمي بـ«عيد التوصل إلى المعرفة بالله» (ميله خدا شناسي) وحضرها عدد من علماء الإسلام، وعلى رأسهم الإمام «محمد قاسم» النانوتوي – رحمه الله – الذي ألقى في إبطال ودحض كل من التثليث والإشراك بالله وإثبات التوحيد محاضرة قيمة جداً فأفحمهم، ولم يجدوا جوابا حتى اضطُر الممثلون المسيحيون إلى الاعتراف بالتحريف في الكتاب المقدس، وولوا مدبرين قبل انتهاء الوقت، وخرجوا أذلة صاغرين. والأسقف البشاوري «محي الدين» – وكان يعتبر مناظرا مسيحيا طليق اللسان – تاب من المسيحية مرة ثانية، وعادت ثقته بالإسلام مما عرف من الحق.
وفي السنة التالية أيضا عقد هذا العيد، وحضره ممثلون كثيرون من كل ديانات الإسلام والمسيحية والهندوسية، وألقى فيه الإمام النانوتوي – رحمه الله – محاضرة قيمة، وألجأ – بفضل خطابه وفضل إخلاصه – الصديق والعدو على السواء إلى الاعتراف بانتصار الإسلام.
مناظرة مدينة «رركي»:
في شهر شعبان 1295هـ الموافق يوليو1878م بلغ الإمام النانوتوي – رحمه الله – أن العالم الهندوسي «ديانند سرسوتي» قدم مدينة «رركي» بولاية «أترابراديش»، ويوجه إلى الإسلام اعتراضات، ويبث السموم في المجتمع، والإمام النانوتوي – رحمه الله – لا يستطيع السفر لمرض ألم به في السفينة حينما كان يعود من رحلة الحج والزيارة في شهر ربيع الأول عام 1295هـ 1878م؛ لكنه تهيأ للسفر لإعلاء كلمة الله ووصل إليها، وطلبه للمناظرة، وألح عليه عدة أيام؛ ولكنه ما رضي بذلك، وهرب من المدينة، فأقام الإمام هناك اجتماعا عاما، وخاطب الناس ثلاثة أيام على التوالي حول حقانية الإسلام، وبطلان الديانة الهندوسية، وفنّد جميع ما وجهه من الاعتراضات إلى الإسلام والانتقادات التي أوردها عليه(6).
ثم وصل «ديانند سرسوتي» إلى مدينة «ميروت»، وجعل يبث هذه الاعتراضات ضد الإسلام في المدينة، وبدأ يستهدف الإسلام بهرائه، فسافر الإمام إلى مدينة «ميروت» في شهر شعبان 1296هـ المصادف لشهر يوليو 1879م(7). وطلبه للمناظرة على مرأى من الناس؛ ولكنه لم يرض بذلك، واجلوذ بالهروب والفرار من هنا أيضاً. وأجاب الإمام النانوتوي عن جميع ما أورده من الاعتراضات على الإسلام في الحفل العام.
رده على الشيعة:
ومن أعماله المهمة التي قام بها الإمام النانوتوي – رحمه الله – تجاه الدفاع عن الدين ردُّه على الشيعة؛ فقد صنف كتاباً حول هذا الموضوع باسم «هدية الشيعة» في مجلدين، وأحاط فيه بالقضايا المهمة مما يتعلق بمذهب الشيعة، وطرح فيه اثني وأربعين سؤالا على مذهب الشيعة، واتخذ أسلوباً ليناً وحكيماً؛ لكي يهتدي الشيعة، ويرجعوا إلى الحق، فقد تاب كثير من الشيعة بعد قراءة هذا الكتاب والاستماع إلى كلماته حول معتقداتهم(8).
قيامه بحركة تزويج الأرامل:
بينما كان الإمام النانوتوي – رحمه الله – مشتغلا بالدفاع عن الإسلام والمقاومة للغزوي الفكري الذي رسم خطوطه أعداءُ الإسلام، لم يتغافل أبدا عن العمل الدؤوب بين أوساط المسلمين، و عن الدعوة والتذكير والتوجيه والإرشاد؛ فقد حاول «الإمام النانوتوي» تطهير المجتمع الإسلامي مما علق به من تقاليد وعادات غير إسلامية، وإنقاذ المسلمين من الرذائل والمثالب الاجتماعية التي نشأت في حياة المسلمين لطول بقائهم مع غيرالمسلمين. ومن ذلك «قضية زواج الأرامل»، فلم يكن هناك مساغ للنكاح الثاني للأرملة، وتعتبر مشؤومة نحسة، وقد تأثرالمسلمون بهذا التصور كثيرا، فيعد تزويج الأرامل في مجتمع المسلمين أيضا من الأعمال العائبة جدا. وقد عمل كبار العلماء والمسلمين المصلحين طويلا على مكافحة هذا التقليد غير الإسلامي؛ ولكنه لم يمَّح من المجتمع، وقام الإمام النانوتوي – رحمه الله – بقمع هذه العادة السيئة من المجتمع، مع العلماء والمشايخ على مستوى رفيع، واتخذ خطوات عملية في هذا الصدد، وأرضى شقيقته الأرملة – التي كانت تكبره وكانت مسنة – بالزواج لتقديم نموذج عملي لذاك(9). فأثمر سعيه، ومال المسلمون إلى العمل بزواج الأرامل عن طواعية ورضا نفس، ومع الأيام صار تقليد عدم زواج الأرامل شيئا منسيا في المجتمع الهندي الإسلامي.
رحلته إلى الدار الباقية:
ارتحل «الإمام النانوتوي: – رحمه الله – إلى الحجاز مرة ثالثة لحج بيت الله في شهر شوال عام 1294هـ – 1877م بمن فيهم عصابة من العلماء الكبار؛ ولكنه عانى المرضَ الشديدَ في السفينة وهو يعود إلى الوطن(10). وبلغ «مومباي» منهوك القوى لا يستطيع الجلوس إلا بشق النفس، ولما وصل إلى وطنه، زال المرض؛ ولكنه نقه، وتوقف السعال وربما تعاوده نوبات نفسية، ويصعب عليه الاستطراد فى الحديث، وامتد هذا المرض حتى مرت سنتان، وعمل الأطباء الحاذقون كل ما رأوه ناجعاً في إيجاد حيلة تنجيه من براثن الموت الفتّاك، وأفرغ الطبيب (بالطب اليوناني العربي) «مشتاق أحمد» الديوبندي – رحمه الله – وسعه في مداوته، ولم يكن يفارقه يوما كما أن الطبيب الحاذق الحافظ «عبد الرحمن» المظفر نغري استنفد حيلته في علاجه؛ لكن القدر كائن لا محالة، ويستحيل الفرار مما كتب الله وقدر، وداء الموت ليس له دواء، وأجل الله إذا جاء لا يؤخر، وقد حان، فلم تسعف التدابير العلاجية، ولفظ أنفاسه الأخيرة عقب صلاة الظهر يوم الخميس 4/جمادى الأولى1297هـ الموافق 15/أبريل 1880م(11).
وورّي جثمانه في قطعة أرضية من الجانب الشماليِّ من المبنى الأصليّ الأوّلي «لدارالعلوم ديوبند»، وقفها لدفنه الشيخ الطبيب «مشتاق أحمد» – رحمه الله – وعرفت فيما بعد بـ«المقبرة القاسمية» التي تحتضن جثمانات كبار علماء ومشايخ دارالعلوم/ديوبند إلى جانب مئات من الدعاة والصلحاء الآخرين.
أمطر الله عليه شآبيب رحمته، وأدخله فسيح جناته.
الإمام النانوتوي في كلمات موجزة:
كان الإمام النانوتوي – رحمه الله – جمع الله في شخصيته صفاتٍ متباينة في الظاهر، قلما توجد في رجل واحد، فقد كان متكلما وممثلا للإسلام، حاملاً لساناً ذربا بليغاً، وعلما حاضراً، ومقدرة بيانية فائقة في الكتابة والخطابة معا، وداعية كبيراً إلى الدين الحنيف، ومصلحا للأمة المسلمة ومتشربا لروح الدين وأسراره وحكمه ومصالحه، ومدرسا للعلوم الإسلامية، ذا علم غزير، وعقل متفتح، وذكاء ثاقب، وتعمق في علوم الكتاب والسنة، ومجاهدا في سبيل الله وفارسا في ساحة المعركة، إلى جانب كونه منيبا أوّاها، متواضعا في غير عجز، منكراً لذاته، بعيداً عن الاندفاع وراء السمعة، لا يوجد نظيره حتى في عصره، متوكلاً على الله فى معنى هذه الكلمة. وبالجملة كان الإمام النانوتوي جنة الإسلام والمسلمين في الحين الذي مست الحاجة الشديدة إليه، اختاره الله تعالى ليكون نافعا للناس والأمة المسلمة، فيمكث ذكره في الأرض، ويبقى محبوباً لدى ربه في السماء.
* * *
الهوامش:
(1) الشيخ نور عالم خليل الأميني في بداية «الإمام محمد قاسم النانوتوي كما رأيته» للشيخ يعقوب النانوتوي ص: 26، تعريب فضيلة الأستاذ محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري.
(2) نفس المصدر، ص: 57.
(3) «الإمام محمد قاسم النانوتوي» للشيخ خالد سيف الله الرحماني، ص: 16-17-18 بتغير يسير.
(4) نفس المصدر، ص: 35 – 39 ملخصًا.
(5) «دارالعلوم ديوبند» للشيخ عبيد الله الأسعدي، ص: 86.
(6) «الإمام محمد قاسم النانوتوي» للشيخ خالد سيف الله الرحماني، ص: 31.
(7) «مولانا قاسم نانوتوي، حيات وكارنامے» للشيخ أسير أدروي، ص: 212.
(8) «الإمام محمد قاسم النانوتوي» للشيخ خالد سيف الله الرحماني، ص: 32-33.
(9) «سوانح قاسمي» للشيخ مناظر أحسن الغيلاني، 2/14.
(10) نفس المصدر، 3/15.
(11) «الإمام محمد قاسم النانوتوي كما رأيته» ص: 87 – 94 بالإيجاز.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى 1436 هـ = فبراير – مارس 2015م ، العدد : 5 ، السنة : 39
(*) الأستاذ بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم حيدر آباد – الهند.