إشراقة

كثيرٌ من الناس يُحْسِنُون لحدّ عجيب عرضَ مالديهم من الأفكار، ويُجِيدون صياغتَها في جمل وتعبيرات مُطْرِبة ساحرة، فيقدرون على طرح أَمَرَّ مَا يكون من الحقائق وأَشْوَكَ ما يكون من الرُّؤَىٰ شفهيًّا أو كتابيًّا بحيث يبدو أَلْيَنَ وأحلى ما يكون. إن اللباقة التي يملكونها لإضفاء مسحة غريبة من الجمال الأخّاذ الآسر للقلوب على حديثهم لدى إعرابهم عما في ضمائرهم تجعلهم يكسبون كلَّ جولة وينجحون في كل حَلْبَة؛ لأنّ فن التعبير المُطْرِب يُتِيحُ لهم أن ينفذوا في قلب المُخَاطَب، ويكسبوا وُدَّ المستمع، ويستعبدوه قلبًا وفكرًا، ويُرْغِمُوه على تحقيق ما لديهم من حاجة، أو يُقْنِعُوه بما يَحْتَضِنُونه من موقف.

       في جانب آخر هناك أناسٌ بل قطاعٌ عريض من الناس لايكونون مثلَهم في إحسان الصياغة وإجادة التعبير، فيَخْرَقُون في الإعراب عن أفكارهم، مما يُؤَدِّي إلى ضياع كثير من مصالحهم الفرديّة والْجَماعيّة، وقد يتعرّضون لسخط الناس وكراهية من يتعاملون معهم في شأن أيّ من الحاجات التي تهمهم، فيَخْسَرُون من حيث يريدون أن يَرْبَحُوا.

       إنّ إجادة الكلام وتحلية الحديث وطرح ما عند الرجل من فكرة أو حاجة مَكْسُوًّا بُحُلَّة فاخرة تَسُرُّ مَنْ بين يديه من المُخَاطَب أو المُسْتَمِع، فيُضْطَرُّ أن يقتنع بفكرته ويُحَقِّق حاجته مدفوعًا بفرحة غامرة وطيب نفس لا يُوصَف، سعيدًا بالاقتناع والتحقيق.. إنّ ذلك فنٌّ جدير بالإشادة والتشجيع؛ لأن من يمتلكه يمتلك خيرًا كثيرًا؛ بل مفتاحَ سعادة كبيرة غامرة، يستطيع أن يفتح به كثيرًا من أقفال الحياة التي لا تقبل مفتاحًا ولا تعمل فيه حيلةٌ. أجل إنه فن جميل جديرٌ مَنْ لديه هو بالغبطة والمحاكاة والتقليد؛ لكنه صعبٌ جدًّا؛ لأنه قلما يَسْعَد الإنسان بامتلاك مَلَكَة تجعله يُقَدِّر بدقة ومتانة: ماذا يقول؟ ومتى يقول؟ وأين يقول؟ وكم يقول؟ وكيف يقول؟ وبماذا يبدأ قولَه؟ وبماذا ينهيه؟.

       والذين يَحْظَوْن بهذا الفن ويُتْقِنُون استخدامَه يَفْرِضُون ذواتَهم على كل من يشاؤون فرضَها عليهم، ويُقْنِعُون بآرائهم كلَّ أحد في كل موقف. أمّا الذين لايملكون هذا الفنَّ وليس لهم نصيبٌ منه، فَيَصْعُب عليهم جدًّا أن يُسَلِّطوا موقفهم على أحد، ويجعلوه يقتنع به ويرتاح إليه ويصدر عنه في تعامله معهم، ويندفع إلى تحقيق ما يَتَوَخَّوْنَه من غرض وما يُلِحُّ عليهم من حاجة؛ بل تفسد قضيّتُهم من حيث يريدون إصلاحَها.

جَرَّبتُ أن معركة الحياة مُعْظَمُ المنتصرين فيها هم البارعون في فنّ إحسان صياغة الحديث، الذِّرَابُ اللسان، المُتْقِنُون للتعبير عمّا يختلج في صدورهم ويدور في ضمائرهم، مهما ينقصهم الإخلاصُ والكرمُ والإنسانيّةُ. والمنهزمون فيها مُعْظَمُهم هم المُفْلِسُون في هذا الفن الذي لاشكّ أنه سلاح ذو حدّين؛ فالإنسان الإيجابيّ الكريم يستخدمه في زرع الخير ودفع الشرّ ونشر الفضيلة ومكافحة الرذيلة. أمّا الرجل السلبيّ الأنانيّ المُغْرِض المُفْلِس في الإخلاص والآدميّة، فإنه يستعمله في إرساء أعمدة الشرّ وكلّ ما يُدَمِّر المجتمع الإنساني، ويحقق أغراضَه هو الرخيصة على حساب مصالح الجماعة.

       وجدتُ كثيرًا من الناس أقوياءَ نُشَطَاءَ في الحديث الحلو والكلام الناعم المعسول، وضعفاءَ في العمل والتحرّك والركض على درب الحياة ركضًا ينفع الناسَ ويُصْلِح المجتمعَ ويُجْدِي أعضاءَه؛ ولكنهم لا يواجهون إخفاقًا أبدًا في مجال الحياة؛ لأن نشاطهم الحديثي وقدرتهم الكلاميّة تكفيهم النشاطَ العمليّ الذي رصيدُه يكون ضئيلاً لديهم.

       وبالعكس من ذلك وجدتُ بعضَ الناس أقوياء في العمل والعطاء، صادقين مُجِدِّين في التحرك والأداء، وضعفاء في الحديث وإحسان القول وإجادة صياغة ما يريدون أن يطرحوه من الفكرة والرأي والموقف، فوجدتهم أنهم لم يكسبوا الجولةَ رغم الإخلاص وصدق النية والاجتهاد البالغ.

       كما وجدتُ أن بعض الناس يتحدثون عسلاً، ويتكلمون حلوًا، ويعملون مُرًّا، ويُسِيئون السيرةَ في كل من يُمْنَىٰ بهم. إذا تكلموا بَدَوْا مخلصين رُحَمَاءَ عطوفين؛ ولكنهم يكونون قُسَاةَ القلوب لايغفرون لأحد من معارفهم زلةً خفيفةً؛ ولا يحتملون خسارة لصالحهم من أيّ من أفراد المجتمع الذي يعيشونه؛ لأنهم يؤمنون جازمين أن الحياة هي الغرض و أن الدنيا هي الربح، وأن السعادة تختصر في أن تتحقق مصالحهم هم، وأن الشقاء معناه الوحيد هو أن تلحقهم خسارةٌ ما من أيّ من أفراد الجنس البشري المعاصرين لهم المتعاملين معهم.

       وأمثالُ هؤلاء لايصبرون عن الانتقام ممن لحقتهم خسارةٌ ما منهم عن طريق القول أو الفعل؛ لأنهم يكونون طوال الأمعاء، دسّاسين، أحلاءَ اللسان، أَمرار السلوك، حِسان الظاهر، قِباح الباطن، غِلاظ القلب، ونماذج غريبة في خلق الله تعالى، تدلّ على قدرته تعالى وتُصَدِّق قولَه عزّ اسمه: «يَخْلُقُ مَا يَشَآءْ» (المائدة/17).

       على كل فإن إتقان الحديث والصياغة اللَّبِقَة للفكر الذي يريد الإنسان أن يعرضه على أحد نعمةٌ كبيرةٌ من الله عليه، يستطيع أن يكسب بها الخير الكثير الذي لا يُحْصَىٰ، ويدفع بها الشرّ المستطير عن نفسه ومجتمعه ودينه و وطنه وأهله وعرضه وماله، وينفع بها الخلقَ، فينال ثواب الدنيا والآخرة.

       ولكنها كما أسلفتُ سلاحٌ خطير بيد الرجل السلبيّ المطبوع على تَبَنِّي الشرّ والإساءة إلى بني البشر؛ لأنّه يُسيء بها إليهم كلّما يجد الفرصة مواتية للإساءة، وبنحو لا ينتبهون لها – الإساءة – لأنّه يُغَلِّفها بحلو الكلام الناعم الملمس، الذي يوهمهم بأنه رجل طيّب جميل الأخلاق حسن السيرة يريد لهم الخير، فلا يَتَبَيَّنُون أنه يُضْمِر لهم الشرَّ والعداء وعاطفة الانتقام، فينخدعون بحلاوة حديثه ونعومة كلامه وجمال صياغته وأسلوب تكلّمه وظاهر سيرته التي تختلف كلَّ الاختلاف عن باطنها.

       وقد كَتَبَ كاتبُ السطور ذاتَ مرة منذ سنوات في هذه الزاوية نفسها: أن الرجل حلو الحديث لبق التكلم قد يستطيع أن يُلْحِق بأحد أضرارًا خطيرة حتى قد يقتله قتلاً بطيئًا؛ ولكنه يحتمله بل يشعر بالسعادة تجاه سلوكه بسحر كلامه ومعسول حديثه. وبالعكس من ذلك قد يكون هناك مخلص محبّ لأحد يودّ له الخير والخيرَ فقط؛ ولكنه يكون مرّ الحديث أخرق الخطاب، فيُعْرِض عنه؛ بل قد يكرهه ويَفِرّ منه، وقد يجوز أن يعدّه غيرَ محبّ للخير له، وقد يجوز أن تحمله قلةُ فهمه على أن يحسبه عن خطإ محض عدوًّا له.

       إنّ صياغة الحديث اللبقة، ونعومة الكلام النافذِة في القلب، الآسرة للعقل، شيء عجيب، ونعمة لا تُقَدَّر بثمن؛ بل هي جِمَاعُ النعم، من أُعْطِيَها، أُعْطِيَ الخيرَ الذي لا يُحَدّ بحدّ.

       إن ذلك شيء يحتاج إليه كل إنسان يودّ أن يكسب معركة كبيرة في الحياة، ولاسيّما الداعية إلى الله، الذي يكسب به حصيلةً كبيرةً في مُهِمَّته الدعويّة؛ والمدرس الذي يقدر به على إرسال موادّه التدريسية إلى تلاميذه بسهولة مدهشة؛ والخطيب الذي يتاح له به أن يسيطر على عقول المستمعين وقلوبهم؛ والكاتب الذي يحبّ أن ينجذب القراءُ إلى كتاباته انجذابًا أشدَّ من انجذاب القطع الحديدية إلى المغناطيس، والإنسان العادي الذي يودّ أن يُعَدَّ فردًا محبوبًا مُفَضَّلاً في المجتمع، والمدير الذي يريد أن يعمل كلُّ من تحته في المكتب في حبّ وإخلاص وصدق؛ لأنه قد سحرهم بحلاوة حديثه وطيب كلامه وأسلوب صياغة خطابه الجميل الذي ينماز به عن غيره من مديري المكاتب الذين يتعاملون مع من تحتهم كأنهم حمير ويخاطبونهم خطابًا مُضًّا قارعًا للقلوب قاطعًا للعِظام، ولا يشكرون لهم أبدًا أيَّ جهد أو أيّ خدمة وصلوا فيها النهار بالليل.

       إنّ الحديث اللَّبِق الناعم المعسول المصوغ صياغةً مطربةً، حاجة الإنسان في مجالات الحياة؛ فليحاول أن يتكلّفه، حتى يتعوّده، فيتعامل به مع الكل، فينجح في جميع المواقف من حيث يَخْسَرها غيرُه الذي لا يملك هذه الثروة الغالية.

(تحريرًا في الساعة 12من ظهيرة يوم الجمعة: 3/ربيع الأول 1436هـ = 26/ديسمبر2014م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأولى 1436 هـ = فبراير – مارس 2015م ، العدد : 5 ، السنة : 39

Related Posts