دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ أشرف عباس القاسمي(*)
من الحقائق الناصعة أن شخصية النبي – صلى الله عليه وسلم – الفذة تميزت عن القادة الأخرين والأبطال المعروفين في القيادة العسكرية، فلن تجد قائداً أكفأ منه – صلى الله عليه وسلم – في تاريخ العالم كله، ويدهش الدارس عندما يرى أنه أمّيٌ لم يقرأ ولم يتتلمذ على أحد، وليست له معرفة بسير الأولين من القادة والفاتحين، ولم يقرأ تاريخ البلدان والأقاليم؛ ولم تكن الآلات الحربية الحديثة و وسائلُ السيطرة الراقية متوفرة لديه، فكيف أتى بما أدهش العالم كله؟ وأحدث ثورةً صالحةً لم يسبق لها نظير ومثال، وفاق قوادَ العالم كلهم، وأنار العرب والعجم بنور الوحدة والتضامن والتعاطف والأمن والسلام، ولم يفتح المدنَ والأقطار؛ إنما فتح القلوب وملَكها بأخلاقه الزكية وتعاليمه النيرة. إذا وقفنا هنا برهة وتدبرنا ساعة، تجلّٰى لنا أن النجاح البارز الذي تحقق له في مدة يسيرة؛ يرجع فضلهُ إلى الثقة بالله تعالى والخضوع له. فجاهد لابتغاء وجهه، وقاتل لإعلاء كلمته، وخاض المعارك لإقامة خلافته على أديم الأرض، وأتعب نفسَه لهداية عباده، وأنهك قواه ليسود العالم حكمُه العادل ويولى الظلام هاربًا. وإلى هذه الحقيقة أشار العباس بن عبد المطلب حين أجاب أبا سفيان صخر بن حرب يوم فتح مكة. كما ذكره ابن هشام:
«ومرت القبائل على رأياتها كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس! من هذه؟ فأقول: سليم. فيقول ما لي ولسُليم، ثم تمر القبيلة. فيقول: يا عباس! من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: مالي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لي ولبني فلان، حتى مرّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار – رضي الله عنهم – لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! قال: قلت: هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل! لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، قال: قلت: يا أبا سفيان! إنها النبوة، قال: فنعم إذن(1).
وإذا تأملنا وأمعنّا النظر انكشف لنا جليًا أن من أهم عوامل النجاح، شخصية النبي – صلى الله عليه وسلم – الفذة وأخلاقه الزكية، ومعاملته الكريمة مع أصحابه الجنديين وتربيتُهم النفسية إلى جانب كفاءاته العسكرية ومؤهلاته للقيادة؛ فلم يكن قائدًا عسكريًا فحسب؛ إنما كان معلمًا كاملاً ذا كفاءات وقدراتٍ قلّما يُوجد نظيرها. وأبًا عطوفًا يبشر وينذر، ويتحدث إليهم في رفق ولين. وفاتحًا بارزًا يخضع لربّه ويشكر له. ونبيًا مرسلاً أملى على العالم درس المساواة والعدل في المواقف الحرجةِ والأحوالِ الخطرة. قال ابن مسعود: «كنا يومَ بدر، كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميلي رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – فكان إذا كانت عقبة النبي – صلى الله عليه وسلم – قالا: اركب حتى نمشي عنك، فيقول: ما أنتما بأقوىٰ على المشي مني. وما أنا أغنىٰ عن الأجر منكما(2).
وقال البراء بن عازب: لما كان يوم الأحزاب، وخندَقَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأيتُه ينقل من ترابِ الخندق حتى وارى عني الترابُ جلدة بطنه – وكان كثيرَ الشَعر – فسمعته يرتجز بكلماتِ ابن رواحة، وهو ينقل من التراب(3) وفي روايةٍ عنه:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتـدينا ولا تصـدقنا ولا صلينا
فأنـزلن سكينــة عليـنا وثبت الأقـدام إن لاقينا
إن الأُلى قــد بغوا علينا إذا أرادوا فتنــة أبيـــنا
يرفع أصواته «أبينا أبينا»(4).
وعن جابر – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتخلف في المسير فيرجى الضعيفَ ويردف ويدعو لهم(5).
وعن بريدة رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمشي إذ جاء رجل معه حمار، فقال: يا رسول الله! اركب، وتأخر الرجل، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لا، أنت أحق بصدر دابتك؛ إلا أن تجعله لي، قال: جعلته لك، فركب(6).
يقول أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (يوم الخندق) الجوعَ، ورفعنا عن بطوننا عن حجرٍ حجرٍ، فرفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن بطنه حجرين(7).
وقال ابن عمر: بعثَنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سريةٍ فحاص الناس حيصةَ وأتينا المدينة، فاختفينا بها، وقلنا: هلكنا، ثم أتينا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا: يا رسول الله! نحن الفرّارون. قال: لا؛ بل أنتم العكّارون. قال: فدنونا فقبّلنا يدَه. فقال: أنا فئة المسلمين(8).
إن كل ذلك وما قام به من الإحسان إلى أصحاب جنده الآخرين والرأفة بهم والرقة لهم، جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – محبَّبًا لدى جميع الغزاة والمجاهدين وبذلك تيسر لهم السمعُ والطاعة في اليسر والعسر والمَنشَط والمَكرَه، وجعلوا يعدّون القتالَ بفضل تعليمه إياهم، أسمىٰ غايات الحياة وشرفًا كبيرًا لهم، وهذا أيضًا سرٌّ هامٌّ لنجاح النبي – صلى الله عليه وسلم – في جميع المعارك. ولن تجد قائدا عسكريا أكثر حبًا وعظمةً منه. وهذا غيض من فيض معجزات نبوته الباهرة.
وقد أدهش عروة بن مسعود الثقفي – أحد رؤساء الكفار وممثلهم يوم الحديبية – عندما رأى ما يصنع بالنبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يصبق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش، فقال: «يا معشر قريش! إني قد جئت كسرىٰ في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثلَ محمدٍ في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدًا»(9).
هذا زيد بن دثنة، من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخذه رهط من عضل والقارة، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه – أمية بن خلف – واجتمع رهط من قريش، منهم: أبو سفيان بن حرب، قال له أبو سفيان حين قُدِّم ليُقتل: «أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك؛ نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه يصيبه شوكةٌ تؤذيه، وأني جالسٌ في أهلي، فقال أبوسفيان: ما رأيت في الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا، ثم قتله نسطاس(10).
وهذا سعد بن الربيع؛ يلفظ نفسَه الأخير ويحذر القوم أن يصيب محمدا صلى الله عليه وسلم مكروهٌ. كما جاء في قصته «لما فرغ الناس يوم أحد لقتلاهم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع، في الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا انظر لك يا رسول الله ما فعل سعد، فنظر فوجده جريحًا في القتلىٰ وبه رمق، قال: فقلت له: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك اللهُ عنا خير ما جزٰى نبيا عن أمتِه، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله، إن خلص إلى نبيكم – صلى الله عليه وسلم – ومنكم عين تطرف. ثم لم يبرح حتى مات(11).
وقاتل زياد بن السكن يومَ أحدٍ في خمسة من الأنصار دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقتلون دونه رجلا ثم رجلا، فقاتل زياد حتى أثبتته الجراحة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أدنوه مني، فأدنوه، فوسده قدمه، فمات وخدُّه على قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -(12).
وكان أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يسودهم الحزن والهمُّ للاشفاق من البقاء بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – والإنفرادِ دونه وفقدِ بركته. فقد روى مالك بن أنس: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لشهداء أحد: «هؤلاء أشهد عليهم». فقال أبو بكر الصديق: «ألسنا يا رسول الله بإخوانهم؟ أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا». فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «بلى! ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي». فبكى أبوبكر ثم بكى ثم قال: «أئنا لكائنون بعدك؟»(13).
فانظر مدى حب الصحابة للنبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – وهل يوجد في تاريخ القيادة العسكرية نظير لهذه الروائع من الحب والفداء؟ كلا؛ وألف مرة كلا!.
* * *
الهوامش:
- ابن هشام، السيرة النبوية (4/44-45) ط: تراث الإسلام، المدينة المنورة.
- البغوي، شرح السنة: 2686.
- أخرجه البخاري في صحيحه: رقم الحديث: 4106.
- أخرجه البخاري في صحيحه: رقم الحديث 4104.
- أخرجه أبوداود في سننه، رقم الحديث: 2639.
- أخرجه ابوداود في سننه، رقم: 2572، والترمذي: 2773.
- أخرجه الترمذي، رقم الحديث: 2371.
- أخرجه أبوداود في سننه، رقم: 2647، والترمذي: 1716.
- ابن هشام، السيرة النبوية (3/261).
- ابن هشام، السيرة النبوية (3/126-127).
- ابن هشام، السيرة النبوية (3/57).
- ابن هشام، السيرة النبوية (3/81).
- أخرجه مالك في موطئه (2/462) رقم الحديث: 32/979.
* * *
(*) أستاذ بالجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند.
E-mail: muf.ashraf@yahoo.com
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1436 هـ = يناير 2015م ، العدد : 3 ، السنة : 39