الفكرالإسلامي

بقلم : الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ ’’حكيم الأمة‘‘ المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب وتخريج : أبو عاصم القاسمي المباركفوري

          بسم الله الرحمن الرحيم

       نحمده ونصلي على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أولي الفضل العظيم.

       أما بعد، فقد وُجّه إلي سؤالٌ عن الشطر الثاني من قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) – يقول: ما فائدة كون السماء سقفاً بالنسبة للإنسان، كما أن الأرض كونها فرشاً يحمل نفعاً يعود للبشر. وقد تعرض له المفسرون، فرددت عليه رداً إجمالياً في حينه، فيه غنىً لحدٍ مّا. وكنت بدوري أشعر بأنه غير شافٍ لي، بَلْهَ أن يكون شافياً للسائل. فكنت أفكّرفيه، واستمر التفكيرُ مدةً طويلةً، فبدأ ذلك الردَّ الإجمالي – نوعاً مّا – يتحول إلى شيءٍ من التفصيل في الذهن. وكنت أتوخى أن أكتفي بشرحه باللسان بجانب إيصاء السائل بضبطه وقيده، ثم رأيت من السهل الميسور أن أتولى ذلك، وبما أني كنت أتوقع أنه يأخذ حيزاً لابأس به، فاخترت له اسماً، فقسمت هذا الرد على مقدمةٍ وفصولٍ وخاتمةٍ. وبالله التوفيق، وهو خير معينٍ ورفيقٍ في كل مقصودٍ وطريقٍ.

مقدمة:

تَوجُّهُ هذا السؤال يتوقف على مقدمات:

       أولها: أن هذا الجعل مركبٌ، له مفعولان: السماء والبناء.

       وثانيها: أن هذه الجملة أيضا مقيدةٌ بـ(لكم) أي جعل لكم السماء بناءً، أي لنفعكم.

       وثالثها: أن المراد من النفع النفع العاجل أي في الدنيا؛ فالمعنى – بالنظر إلى هذه المقدمات – جعل الله تعالى لنفعكم السماء بناءً وسقفاً. وهنا يتساءل المرء: ما النفع العاجل لنا المتمثل في كون السماء سقفاً. فإذا تبين توقف السؤال على هذه المقدمات، فلا يخفى أن الجواب لها وجوه، أي ربما يجاب عن كل مقدمةٍ بإيراد المنع عليها. ومنها: أن يجعل هذا الجعل بسيطاً، بمعنى أن الخلق متعدٍ إلى مفعولٍ واحدٍ وهو السماء، ويُعرَب «بناءً» حالاً، والمعنى: خلق الله السماء لنفعكم حال كونه سقفاً، وإن لم يكن لكونه سقفاً دخلٌ وتأثيرٌ في هذا النفع، ويجب تحقيق منافعه المطلقة التي تعود إلينا في الحال، وإن لم يكن لوصف كونه سقفاً دخل فيها، إلا أنه يجب اقتران وصف كونه سقفاً بكونه نافعاً لوقوعه حالاً. أي أنه نافعٌ لنا حال كونه سقفاً، وإن لم يكن لسقفيته دخلٌ في النفع، وذلك مثل أن يقول والٍ من الولاة: قد بعثت إليك جائزةً قدرها ألف روبيةٍ مختومةً عليها بالختم.

       الجواب الثاني: أن هذه الجملة غيرمقيدةٍ بـ(لكم)، ولايتوهم وجوب هذا القيد لوجود العطف؛ لأن العطف يقتضي تكرير العامل لا تكرير المعمول، أي يلزم اعتبار «جعل» هنا، ولا يلزم اعتبار «لكم»؛ فإنه يصح أن يقال: «رأيت أمس زيداً في السوق، واليوم عمرواً في المسجد»، فلو استلزم العطف تقدير «أمس» في الشطر الثاني، لتناقض مع «اليوم»، وبطل الكلام. فالمعنى: أن الله تعالى خلق السماء أوجعل السقف، دون تعرضٍ لما أنه جعله لنفعكم في الحال أو في المآل، وإن ثبت نفعه بأدلةٍ أخرى، ولكن لايرد السؤال عنه في هذه الآية، وإنما ساق الكلام لمجرد بيان القدرة، وأن قدرته كذا وكذا، ليفرِّع اللهُ تعالى عليه التوحيدَ؛ ولذا أتى بفاء التفريع فيما بعد فقال: (فَلاَتَجْعَلُوا لِلهِ أنداداً) الآية. وهذا الاحتمال يقرِّبه ويقوِّيه التأملُ في آيات أخرى ومنها: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) الآية [البقرة/29]، حيث خصص (كم) بالأرض فيها، ثم ذكر تسوية السماوات بعدها، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) الآية [الملك/15]، فقد قيد (لكم) بالأرض. وحيث ورد تقييد السموات بـ(لكم) لم يتعرض لوصف السقفيّة به، قال الله تعالى: (سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [لقمان/30] .

       الجواب الثالث: المراد من النفع: النفع العام، سواء في الدنيا أو في الآخرة، فلا يبعد أن تكون ثمة منافع خاصة في خلقها أوسقفيَّتها تصيبنا في الآخرة، كما أن الجنة مخلوقة اليوم، وننال منافعها في الآخرة. هذه الأجوبة الثلاثة تتأتى بإيراد المنع على هذه المقدمات الثلاث. والجواب الرابع يرجع إلى تسليم هذه المقدمات وتقديرها، أي لو سلمنا هذه المقدمات الثلاث فلا نعجز عن الجواب عنها، وحينئذ نحتاج إلى إثبات وتحقيق هذه المنافع العاجلة التي لهادخلٌ في سقفيَّة السماء. وتبين بهذا الإيضاح أن هذه الأجوبة في حاجةٍ إلى تحقيق أنواع من المنافع:

       النوع الأول: من المنافع التي نتمتع بها في الحال، ولادخل للسقفيَّة فيها، وهذا النوع ينبني عليه الجواب الأول.

       والنوع الثاني: منافع حاصلةٌ لنا سواءٌ كان للسقفيَّة دخلٌ فيها أو لا،وهذا النوع ينبني عليه الجواب الثالث.

       والنوع الثالث: منافع حاصلةٌ لنا وللسقفيَّة فيها دخلٌ. وهذا النوع ينبني عليه الجواب الرابع. وأما الجواب الثاني ففي غنىً عن إثبات وتحقيق المنافع أصلاً. والنفع الثابت بالأدلة يدخل في أحد هذه الأنواع الثلاثة، ويستغني عن إفراده بالتحقيق والإثبات، إذاً انحصرت أنواع المنافع في ثلاثة، سنتناول هذه الأنواع الثلاثة في ثلاثة فصول:

الفصل الأول: في بيان النوع الأول من المنافع

       وقد ورد في مواضع كثيرة  ذكرهذا النوع من المنافع في القرآن الكريم بصورة إجماليةٍ حيناً وتفصيلية حيناً آخر، ومنها:

       1- قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) [الأنبياء/16].

       2- قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [ البقرة /164].

       3- قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُ بَنٰهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّٰـهَا وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) [النازعات/27-29].

       4- قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَآءِ بُرُوجًا وَزَيَّنّٰهَا لِلنّٰظِرِينَ) [الحجر/16].

       فمن هذه الآيات ما حاصله الاستدلال على التوحيد، وهو نفع ديني، ومنها ما حاصله نفع دنيوي. كما في الآية الثالثة والرابعة، وهذه المنافع كلها حاصلة في الحال. وكما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ)[المؤمنون/17] أي طرقاً للملائكة والكواكب. فإذا كانت السماوات مسافةً لسير الكواكب، وسير الكواكب مما نشاهد نفعه، والسير يشترط له المسافة في العادة، فالسماوات لها دخلٌ في تلك المنافع بواسطة الكواكب.

الفصل الثاني: في بيان النوع الثاني من النفع

       وبما أنه يحتمل التحقق في الآخرة، فإذا لم يتحقق يومئذ؛ فإنه يحتاج إلى التحقيق والبحث. ويكفي عدم تحققه في الحال دليلاً على عدمه في المآل؛ ولكن لابأس بأن نبينه على سبيل الاحتمال وتقريباً إلى الإفهام، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلٰئِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [فصلت/30-31]، وقال تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْـمَلَئِكَةُ) [الأنبياء/103]، ومنه ما ورد في الحديث النبوي أن روح المؤمن يرفع بها إلى السماء بعد موته(1)، فكان السماء مسكناً ومقراً لتلك الأرواح، وكذلك للملائكة. فإذا كانت الملائكة نافعة لهم، ومقرهم نافع لهم، فكان نافعاً لهم أيضاً بواسطة. وكذلك هونافع بلاواسطةٍ بصفتها مسكناً لهم. وفي مكشوفات الشيخ الأكبر: أن حراراتٍ لطيفةً تصل إلى الجنة من قعرالسماء، فتنضج بها ثمارًالجنة فيتغذى بها أهلها. فلولا أن السماء حائلة بينهما لم تعتدل الحرارة، فهذا نفع ظاهر حاصل من السماء، وقال تعالى عن أحوال الجنة: (وَالْـمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلٰمٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد/23-24]، ويدل قوله تعالى: (وَكَمْ مِّنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ) [النجم/26] بإطلاقه على أن السماوات هي مسكنهم في الآخرة كذلك، وسبق أن ذكرنا آنفاً أن النافع للنافع نافع، وربما يكون لوصف السقفيَّة دخل في هذه المنافع بأن يكون كل سماء فوقاني سقفاً للسماء التحتاني، وأكثرالسماوات ذلك شأنها، وللأكثر حكم الكل. ويعم السماوات كلها؛ لأن اللام في (السماء) للجنس. ولو نظرنا إلى العادة السارية بأنه قد يُتَّخذُ سطح السقف مسكناً، لم يُستَثنَ منه السماء التحتاني. وكل ذلك يرجع إلى أن السماوات والأرض كلها يعود إلى ما كانت عليه بعد النفخة الثانية، ويدل عليه – صراحةً – ما جاء في الأحاديث من وقوع الحساب على الأرض، ونزول الملائكة من السماء إليها حين قيام الحساب. كما يدل عليه أيضاً قوله تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَبُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) [الزمر/69] بعد قوله تعالى: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) [ الزمر/68]، ولم يرد فناؤها بعد تكونها وحصولها. وقد صرح بذلك كله الشيخ الأكبر، ولايتوهم خلافه بقوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمٰوَاتُ) [إبراهيم/48]، لأن هذا التبديل وصف.

الفصل الثالث: في بيان النوع الثالث من النفع

       ولكي تدرك حقيقة هذا النفع يجب إدراك حقيقة السقف. فالسقف – كما لايخفى على أحد – ما يظلل الشيءَ ويعلوه،ويقيه مالايحتمله من الآثار كالحر والبرد والمطر والثلج أويقيه ما يأتيه من فوقه من الحجارة والآجر مثلاً إذاً فلننظر: هل ثمة أشياء خارج السماء أو فوقها مما يتأثربه الإنسان إذا لم تَحُلِ السماءُ بينها وبين الإنسان، فلا يكاد الإنسان يحتملها؟ إن التأمل في النصوص يؤكد على وجود مثل هذه الأشياء. كما يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) [الحجر/16] أي كواكب عظيمة. كما يفيد ظاهر آية أخرى بأن الأجرام السماوية مائلة إلى الأرض بثقلها، قال تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج/65]، فلو لم تكن السماء لقضت هذه الكواكب على من في الأرض، ولكنها قائمة في السماء. وظاهر قوله (في السماء) يدل على أنها في ثخن السماء، وإن لم تكن مركوزة فيها، كما يزعم اليونانيون، بل تخرق السماوات وتجري، أو أن بها طرقاً كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء/32-33]. والمراد بالفلك: الدائرة، والمعنى أن حركتها داخل السماوات بشكلٍ دائري، سواءٌ كانت الدائرة حقيقيَّةً أوحسيَّةً. وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ) [المؤمنون /17]. أما إذا قيل: هلا كانت الكواكب مستقِرَّةً كما كانت السماوات مستقرةً بقدرته؟ قلنا: هذا السؤال غيرمنطقي. ولم يجعل الله تعالى كذلك وإن كان قادراً عليه، وكما قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَكَمْ مِّنْ مَلَكٍ فِي السَّمٰوَاتِ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء وحق لها أن تئط»(2). وعلة ذلك – كما ينص الحديث – أن «ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد»(3). وهذا يبين بوضوح أن الملائكة، وإن كانت نوريةً، لها ثقل ووزن  يجعلها تميل إلى الأرض، فما ظنك بأهل الأرض لو لم تكن السماوات حائلةً دون ذلك. وكما قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً) [ الرعد /17] مما يدل على أن السماوات تحمل ماء، فما بالنا لو لم تكن السماوات حائلةَ بين هٰذه المياه؟ وكما أن الملائكة – مثلاً – في السماوات بصورها الأصلية، ولا يطيق الإنسان رؤية الملائكة في صورها الأصلية. ووردت الأحاديث برؤية جبرئيل عليه السلام، كما ورد عن جمال الحور العين: «لو أن امرأةً من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت بينهما»(4). و روي: «إن عليها – أي الحور – من التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء مابين المشرق والمغرب»(5). وورد في سدرة المنتهى: «فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها»(6). وهذه الأشياء كلها وراء السماء، فلو لا كانت السماء حائلةً دونها فمن ذا يتحمل رؤية أنوارها؟ وهل كان مصيرها إلا إلى ذهوق الروح؟ فكما أن السموات سقف محفوظة، كذلك هي سقف حافظة أيضاً، وكما يتخذ السقف لأجل تعليق ما يزين البيت، كما يعلق القناديل في السرادق وإن كنا في غنىً عن دفع الحروالبر، و ورد صريحاً أن المصابيح في السماوات زينة للأرض. هذا ما حضر لي الآن.

       وبعد ما حررت هذا كله حضرني جواب آخر، وهو أنه لو جعلنا السماء بناءً مجازاً و استعارةً، فالمعنى: جعلنا السماء مثل السقف في علوه، كما قال تعالى: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ/12]، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ ) [ق/6]، فحاصل الفراش أنه تحت، وحاصل البناء أنه فوق. فلا يبقى إشكال أصلاً. والله أعلم.

خاتمة:

       أوردت فيها ما قاله الغزالي – رحمه الله – في رسالة «الحكمة» في حكمة السماوات حيث قال: جعل سبحانه لونها أشد الألوان موافقة للأبصار وتقوية لها، ولو كانت أشعة وأنواراً لأضرت الناظر إليها، فإن النظر إلى الخضرة والزرقة موافق للأبصار، وتجد النفوس عند رؤية السماء في سعتها نعيماً وراحة، لاسيما إذا انفطرت نجومها وظهر نور قمرها. والملوك تجعل في سقوف مجالسها من النقش والزينة ما يجد الناظر إليه به راحةً وانشراحاً؛ لكن إذا داوم الناظر إليها نظره وكرره ملَّه، وزال عنه ما كان يجده من البهجة والانشراح، بخلاف النظر إلى السماء وزينتها؛ فإن الناظر إليها من الملوك فمن دونهم إذا ضجروا من الأسباب المضجرة لهم يلجأون إلى ما يشرحهم من النظر إلى السماء وسعة الفضاء. وقد قالت الحكماء: يحذوك عندك من الراحة والنعيم في دارك بمقدارما عندك فيها من السماء. [ولذا يتبرم المرء بالدورالضيقة]. وفيها أنها حاملةٌ لنجومها المرصعة ولقمرها، وبحركتها سير الكواكب فيهتدي بها أهل الآفاق؛ وفيها طرقٌ لاتزال توجد آثارها من المغرب والمشرق. ولا توجد مجردةً ولا مقبلةً في صورة نور، وقيل: إنها [الكواكب] أنجم صغارٌ متكاثقة مجتمعة، يهتدي بها على السير من ضلَّ، وينظر في أي جهة كانت فيقصدها، وقيل: إنها المشار إليه في قوله تعالى: (وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات/7]. قيل: الحبك الطرق، وقيل: ذات الزينة. فهي دلائل واضحة تدل على فاعلها، وصنعته محكمة صمدية تدل على سعة علم بارئها. وأمورٌ ترتيبها يدل على إرادة منشئها. فسبحان القادر العالم المريد.

       وقيل: في النظر إلى السماء عشر فوائد: تنقص الهم، وتقلل الوسواس، وتزيل وهم الخوف، وتذكر الله، وتنشر في القلب التعظيم لله، وتزيل الفكر الرديئة، وتنفع لمرض السوداء، وتسلي المشتاق، وتؤنس المحبين، وهي قبلة دعاء المؤمنين(7). انتهى ما قاله الغزالي.

       وبانتهائه تمت الكراسة في جلسةٍ واحدةٍ في ثلاث ساعاتٍ. وكل هذا من فضل ربي، واليوم يوم الاثنين، منتصف رجب، سنة 1343هـ في الزاوية الإمدادية من «تهانه بهون».

*  *  *

الهوامش:

 (1)          أخرجه مسلم في كتاب الجنة برقم [2872].

(2)           رواه الترمذي في الزهد برقم[2312].

(3)           سبق تخريجه آنفاً.

(4)           رواه البخاري في الرقاق برقم[6568].

(5)           رواه أحمد في المسند برقم[11715].

(6)           رواه مسلم في الإيمان برقم[162].

(7)           كتاب الحكمة للغزالي ص 15-17 ت: د. محمد رشيد قباني، ط: دار إحياء العلوم – بيروت.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، رمضان – شوال 1435 هـ = يونيو – أغسطس 2014م ، العدد : 9-10 ، السنة : 38

Related Posts