دراسات إسلامية
بقلم: د. جمعة علي الخولي
تعتمد شتى المذاهب والفلسفات المعاصرة على الدعاية كوسيلة لنشرها والترويج لها، وبدون تلك الدعاية لا يمكن أن تنهض فكرة أو يسمع لها صوت.
والصحافة أداة من أدوات الدعاية، وأهم وسائلها في خدمة الأفكار المختلفة وإقرارها في أعماق الناس، ولذلك كان مداها في نشر الدعوات بعيدًا.
ومنذ بدأ الإسلام، والكُتَاب دائبون على مد رواقه بالقلم في الكتب والصحف وقد جاءفي السنة تمجيد لهذا الجهد. قال عليه الصلاة والسلام «يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء».
ولهذا الدور المعروف للصحافة اتخذها أرباب المذاهب الأرضية كلسان ينطق لها، ويعمل على نصرتها والحديث عنها، حتى أضحى للباطل صوت كاد يشوش على صوت الحق في كثير من المواطن، واستطاع أصحاب الدعوات المشوهة أن يحصلوا على نصر كبير؛ لأنهم زوروا وزوقوا كثيرًا، وافتنوا في عرض ما عندهم على أوسع نطاق في العالم كله، مستترين وراء دعاوي الإصلاح الكاذبة، والوعود المخنثة الناعمة، ومسوح الرهبان.
وكانت النتيجة أن تقدم الباطل وأوغل.. واستعلنت الصليبية والصهيونية، وراجت الشيوعية وغيرها من المذاهب الهدامة.
لكن ليكن معلومًا أن ما حققه هؤلاء وأولئك لا يعود إلى جودة فيما عندهم، ولا إلى أصالة في بضاعتهم، وإنما يعود ذلك إلى نشاط أهل الباطل في عرض مفترياتهم، وخذلان أهل الحق في تبليغ رسالتهم.
الغزو الفكري
وإذا كانت جبهات الصراع بيننا وبين الاستعمار قديمًا ميدانها الأرض، وأدواتها الغزو المسلَّح الذي زلزل جوانب العالم الإسلامي بوحشية لم تر الدنيا لها مثيلاً.. فإن هذه الجبهات تغيرت الآن إلى معركة فكر، وأصبح ميدانها هو عقول أبناء أمتنا ومشاعرهم وأفكارهم، وأدواتها هي وسائل النشر من صحافة وإذاعة وتوجيه.
ولذلك فإن أساليبنا في مجاهدة هذا الغزو الثقافي الجديد يجب أن تعتمد على سلاح من نوع سلاحه، يحيط بكل مداخله ومساربه، فإن الفكرة لا تحارب إلا بالفكرة، ثم إن هذه الأساليب لابد لها من مجاهدين أكفاء يلقونه في كل مظان نشاطه وتضليله، في المدرسة والجامعة، في المصنع والمعمل، في المقهى والنادي.. وغير ذلك من مجالات العمل والنشاط.
وغني عن البيان أن عصرنا كثر زوره، وقل صدقه، ونشط أعداء الدعوة الإسلامية في حملة مسعورة ضد الإسلام لتشوِّه وجهَه، وتطارد دعاته، وتهدف إلى استئصال جذوره.
ومن ثم كان لزامًا على أجهزة الدعوة الإسلامية أن تستيقظ على عجل قبل أن يجرفها تيار الباطل.. وكلمة صادقة مؤمنة عن طريق صحافة إسلامية راشدة كفيلة بفضح الكذب والبهتان، والإتيان على أساسهما من القواعد، كما قال سبحانه ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحقِّ على الباطلِ فَيَدْمَغُهُ فإذا هو زاهِقٌ﴾ (الأنبياء:18).
الكلمة الطيبة
وإذا فسح المجال أمام الكلمة الطيبة، تنشرها أقلام صادقة نزيهة، بأيد متوضئة مخلصة، فإن الكلمة الخبيثة الشريرة يفتضح أمرُها، ويتوارى أهلُها، قال سبحانه ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾ (إبراهيم:24-27).
رسالة الصحافة
إن الصحافة رسالة يرتبط فيها منهجُ العمل والكفاح بفلسفة محددة مدروسة ومكتوبة، فتناجز غيرها الرأي بالرأي، والفكر بالفكر، والفلسفة المادية للتاريخ برسالة الإسلام الحية الخالدة.. فالدعوة الصحيحة لا تجد سبيلها إلى القلوب إلا بالأسلوب القادر على حمل رسالتها إلى الأعماق..
ولا يشك عارف في أن الصحافة الإسلامية – حتى الآن – عاجزة عن الوصول إلى هذا الهدف.. وهكذا يضيع مضمون الإسلام الصحيح في لجاجة الدعوة الرديئة.
ولقد كانت الأمة الإسلامية رائدة عصرها يوم كان القرآن الكريم يشكل صحافقتها وإذاعتها ومحور حركتها.. به تخاطب، وعلى أساس من هديه تسالم وتحارب.. وتقطع وتصل..
كانت بيوتهم خليات نحل تدوي بآياته وعظاته، فاستنارت بهديه القلوب، وعمرت بآياته البيوت، وسادت بأحكامه الأمة.
أما الآن.. فقد ظهر صوت «التلفاز» في البيت على حساب صوت القرآن ووقته في كثير من الأحيان، وندر وجود المصحف على المكتب في المنزل على حين ثقل بمجلات الجنس، وصحافة «المودة» والتحلل، فنضبت معاني الإيمان والرجولة في النفوس، وأضحى إنسان الإسلام اليوم تافهاً ضائعًا بالنسبة إلى أبيه الأول، ووسلفه العظيم في صدر الإسلام، وأدى ضعف الشخصية عنده أن يتسقدم فنونًا من تقليد المنتصرين في الشرق والغرب، الأمر الذي جعل المجتمع الإسلامي خليطاً من المضحكات والمبكيات يندى له الجبين.
إنني أرنو ببصري إلى ما تخرجه المطابع يوميًا من جرائد ومجلات في مختلف العلوم والفنون ثم أتساءل: أين تقف الصحافة الإسلامية وسط هذا الركام الذي لا حد له.. وما الذي قامت به نحو قهر الإلحاد، ورد الشكوك، وتثبيت الإيمان؟
وقد يعاجلني بعضهم بقوله: لعلك نسيت المجلات والصحف الإسلامية الشهرية والأسبوعية التي تصدر تباعًا من جهات شتى؟
وأبادر القول: بأن مثل هذه الصحف والمجلات، مع ما تقوم به من جهد يشكرهم عليه الله والعباد.. إلا أنني لا أتصور الصحافة الإسلامية تلك التي تصدر جامعة لبعض المقالات التي تعالج جوانب العبادة والأحكام الشرعية فقط.. مع أهمية هذا اللون من الصحافة وضرورته.
إلا أنني أتصور صحافةً إسلاميةً شاملةً تبرز على العقل الإنساني في كل صباح، وبكل لغة، كما يبرز ضوء الفجر فيبدد ما أمامه من ظلام وقتام.
صحافة تنسق جهودها، وتتعاون في إبراز رسالتها في وقت اختفت فيه الحواجز الفاصلة وتقاربت المسافات المتباعدة، وأصبح الاتصال وتبادل المعارف بين الشعوب والأمم أمرًا يعتمد على الصحافة في كثير من الأحيان.
صحافة تتصدر الساحة الثقافية، وتسطع على العقل الإنساني من جميع المجالات بحيث يجد أمامه – مثلاً – مجموعة من الصحف والمجلات الشرعية التي تتخصص في إبراز محاسن الإسلام ونظمه.
وثانية كونية: ترسم آيات الله في الآفاق كما يرسم الشاعر المفتون بالطبيعة الحدائق الناضرة، والأقمار الساطعة.
وثالثة نسائية: تشرح العطاء القرآني للمرأة، والتكريم الإسلامي لها، وتفضح النوايا الخبيثة التي تخاصم نظام الأسرة العتيد، وما شرعه الدين للبيت من تعاليم تتصل بالقوامة والأمومة والتربية والتوجيه الخاص والعام.
ورابعة تاريخية: تتحدث عن أمجاد المسلمين، وسيرة سلفهم الصالح، وتحسن الانتقاع بثمرات السابقين الذين عاشوا مع الزمن يدافعون عن الإسلام، ويحرسون أركانه.
وخامسة أدبية: تحرس لغة القرآن وتزكي العاطفة الإنسانية نحو دينها وكتابها، وتربطها بربها وعباداته.
.. ثم، وهذه يومية تتابع أخبار المسلمين في شتى أقطار العالم، وتتابع شؤونهم بالتحقيق والاستطلاع.. بسرعة، وفي حينها.. فإذا وقع ضيم هنا، أو حيف هناك نبهت إلى الخطر، وحمت من السوء..
إن الصحافة عمومًا تقدمت تقدمًا ملموسًا في العصور المتأخرة، حتى أصبح الخبر يبرز على صفحات الجرائد ساعات صدوره.. وتتسابق أجهزة الإعلام على نشره وتوصيله إلى القارئ بسرعة فائقة.. فلماذا لا تلاحق الصحافة الإسلامية هذا الخطو الواسع، وتسقط الزيف الموجود، بحقائقها، وبياناتها، وإحصاءاتها؟.
تعتيم إعلامي عجيب
إن الملحوظ أن أخبار المسلمين يلفها صمت عجيب، قد يكون مقصودًا، حتى لا نكاد نسمع عن إخواننا في الأقطار البعيدة عنا شيئًا، كأنهم يعيشون على كوكب غير كوكبنا.. إن المسلمين يذبحون في تايلند، وأريتريا، والفلبين، والكاميرون.. وغير ذلك من المناطق الشيوعية والصليبية واليهودية..
فأين الأخبار الحقيقية عما يجري لهم هناك..؟
لقد ذبح علماء المسلمين رميًا بالرصاص لما عارضوا في تشريعات الأسرة الجديدة التي سوت بين الرجل والمرأة في الميراث..
كم احتجاجاً قرأه المسلمون.. أو سمعوه..
على حين طنطنت الصحافة كثيرًا يوم سجن المطران كابوتشي في سجون إسرائيل.. ما أرخصك أيها الدم المسلم.. وما أقل من يتكلم بلسانك؟!
فأين الصحافة الإسلامية التي ترقب أحوالَ المسلمين الداخلية في كل مكان وتعرضها على الرأي العام العالمي ليرى ويسمع مدى ما يعانيه المسلمون تحت وطأة الحكم غير الإسلامي؟
أخشى أن يكون تخلف الصحافة الإسلامية انعكاسًا لتخلف المسلمين في المجالات الأخرى.. صحيح هناك صحف إسلامية تتحدث، وتذكر، وتنقل..، هذا أمر معروف ومقدور ومأجور إن شاء الله.
لكنه لا يغطي أرض الواقع، ثم إنها تتحدث لي ولك كمسلم فقط أو كعربي فقط، نحن الذين نتألم لما يعانيه إخواننا.
الصحافة التي نريد
ونحن نريد صحافة تتحدث بكل لسان، وتغزو كل مكان، معها التحقيق والصورة والاستطلاع لتفضح الغرب والشرق في عقر داره، وتكشف يده الملطخة بالدماء.. وما سبق، يستدعي من العاملين في الصحافة الإسلامية ما يلي:
- علمًا: يشرحون به حقائق الإسلام، ويفندون ما يروج ضده من أباطيل..
- واستقلالاً: يمنعمهم من الوقوع تحت تأثير الأجهزة الشرعية، ولا يربطهم بعجلات السلطة التنفيذية في بلادهم.. فيتصرفون في شؤون الدعوة بعيدًا عن شهوات الحكم وأهوائه.
- وإخلاصًا: يبعدهم عن التجارة والجري وراء المجد الشخصي والكسب المادي، وينأى بهم عن المراء والجدال، وتزيق وحدة المسلمين.
والمطلوب الآن أن تنتفض الصحافة الإسلامية انتفاضة الحياة، وتشرع في خدمة الإسلام والمسلمين الخدمة الملائمة لهذا العصر.. والقلم لابد أن يؤدي حقَّ الإسلام عليه في ذكاء وحصافة ومقدرة، فأمامه عبث هائل من صحافات شتى تريد طمس معالم الحق، وتدويخ أمته.
أمانة الكلمة
وكلمة أخيرة لهؤلاء المنتفعين الذين يبيعون أقلامهم بثمن رخيص أو عرض من الدنيا قليل، فيسيرون في ركب المنحرفين، ويزوِّرون الحقائق، ويخضعون لأوامر السلطة ونواهيها في الحق والباطل على سواء.
نقول لهؤلاء: إن الكلمة أمانة سوف نُسأل عنها أمام الله عز وجل، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عتيدٌ﴾ (ق18).
وسواء كانت الكلمة مكتوبةً أو منطوقةً فهما في المسؤولية سواء، بل قد تكون الكلمة المكتوبة أخطر لسعة انتشارها، وطول عمرها من الكلمة المنطوقة، ومن ثم تصبح جريرتها في الإثم أكبر.
ومن مشاهد ليلة الإسراء، مشهد قوم تُقرَض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قُرضت عادت كما كانت، ولما سأل عليه الصلاة والسلام أمينَ الوحي عنهم قال: «هؤلاء هم خطباء الفتنة».. الذين يلبسون الحق بالباطل، ويزيفون الحقائق، ويسيرون في ركب النفاق..
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الثانية – رجب 1435 هـ = أبريل – مايو 2014م ، العدد : 6-7 ، السنة : 38